الإمبراطور تنهد بعمق وفتح فمه ليتحدث..
لكنه كان يعلم على الأقل أن التعامل مع ابنه أفضل حظًا من مواجهة روزليتا.
“أنت تدرك أيضًا أن حل الأمور اللازمة لاستدعائكما سيستغرق ما لا يقل عن عشر سنوات، حتى في أفضل الأحوال.”
“وهل تعتقد حقًا أن عشر سنوات ستكون كافية؟”
ردّ كاسيان بلا مبالاة على كلمات الإمبراطور التي حاول أن يضفي عليها ثقلًا..
على الرغم من نبرة صوته العادية، إلا أنها حملت سخرية خفية كادت تدفع الإمبراطور للغضب.
لكن مع شعوره بثقل في كتفيه وألم خفيف بين أصابعه، تمكن بالكاد من كبح استيائه.
لم يكن الأمر متعلقًا بهذه الأمور الجسدية فحسب، بل لأنه أدرك تمامًا مدى تأثير وجود كاسيان وروزليتا في تسهيل إدارة شؤون الحكم.
كان وضعه مثيرًا للشفقة، لكنه لم يستطع إنكار أنه هو الطرف الأكثر احتياجًا لهما حاليًا..
لقد أغمض عينيه عن راحته إلى حد سمح لهذين الاثنين بالنمو إلى هذه الدرجة، وفكر للحظة كم أصبح بليدًا.
ومع ذلك، لم يكن الإمبراطور ينوي إظهار ضعفه بسهولة.
لأنه كان يعلم جيدًا أن أي تفاوض لا يمكن أن يبدأ ما لم يبدُ الطرفان متكافئين.
“من برأيك كان يدير شؤون الحكم خلال طفولتك؟ كان ذلك واجبي منذ البداية، بالإضافة إلى أن المساعدة ساليس كانت كريمة بما يكفي لترتيب الأمور لي، فكان من الطبيعي أن أؤدي مهامي.”
لكن على عكس كلماته، زفر الإمبراطور زفرة قصيرة..
“إن لم أفعل ذلك، فلن تسمحوا لي حتى برؤية أحفادي. قررت أن أقيم حفل زفافكما بعد أن تتوجها إلى مقاطعة رياردن حينما يتاح لكما الوقت.”
“لأنني أعلم أهمية ترتيب الأولويات.”
ضغط الإمبراطور على جبينه مرة أخرى..
هل كان ذلك بسبب تشابهه مع شخصية ماربيل؟
بصراحة، لم يكن يفهم ابنه على الإطلاق..
لو كان كاسيان هو ولي العهد، لكان يرغب في إقامة حفل زفاف أسطوري يخلده التاريخ.
على عكس زواجه الخاص الذي تم في عجالة، كان بإمكانه الآن إعلان زفاف ولي العهد رسميًا ودعوة جميع الشخصيات البارزة من داخل الإمبراطورية وخارجها.
ليس هذا فقط، بل كان سيستقدم أعظم الفنانين والمصورين لتوثيق كل لحظة من الحفل بأدق تفاصيلها.
“حتى عندما كنت ولي العهد، كان زفافي بسيطًا بسبب الظروف حينها، وما زلت أشعر بالذنب تجاه ماربيل لذلك.”
كان كاسيان وروزليتا يسيئان فهم نواياه، لكنه كان يحب ماربيل بصدق..
الفرق الوحيد هو أن أولوياتهما لم تكن متطابقة تمامًا.
لهذا، كان الإمبراطور يعتقد أن كاسيان يرتكب خطأً فادحًا.
فلا يمكن لأحد أن يعرف ما الذي سيندم عليه لاحقًا إلا بعد فوات الأوان.
لكن بالنظر إلى تعابير الإمبراطور، شعر كاسيان بأنه لا يصدق مدى أنانية والده..
لقد كان يفكر في كل شيء وفقًا لمعاييره الخاصة فقط.
‘هل ما زال لا يعرف حتى الآن ما الذي كانت تتمناه أمي حقًا؟’
بل وأكثر من ذلك، شعر كاسيان أن الإمبراطور كان يتجاهل الحقيقة التي كان هو نفسه سيكتشفها بسهولة..
لم يكن يرغب في إضاعة المزيد من الوقت مع الإمبراطور.
فهو يظن أن الجميع مثله.
ولهذا كان قلقًا بشأن تنفيذ شروط الاتفاق، خشية أن يتراجع الآخرون عن وعودهم كما قد يفعل هو.
وكأن الجميع يفتقر إلى حس المسؤولية مثله.
نظر كاسيان إلى الإمبراطور الذي بدا وكأنه يتأمل الموقف بقلق مفتعل، ثم قرر أن يتحدث أولًا..
“روز قامت بترتيب هذه النقاط بنفسها. وأنت تعلم جيدًا أنه لا يمكنني إلا أن أستمع لكلامها، لذا أعتقد أن هذا يجيب على تساؤلاتك.”
“…هل تعد بعدم التراجع؟”
“تغيير الوعود دون سبب وجيه هو أكثر ما تكرهه خطيبتي. وأنت تدرك جيدًا ما يعنيه ذلك لي باعتباري ابن والدتي.”
عند سماعه هذا التأكيد الواضح، أومأ الإمبراطور برأسه أخيرًا، وكأنه شعر ببعض الراحة..
راقب كاسيان هذا المشهد، وتذكر كلمات روزليتا التي بدت أكثر منطقية الآن..
”على أي حال، الإمبراطور سيخلق معاناته بنفسه.“
”أكثر مما قدمناه له بالفعل؟“
”إنه شخص لا يعرف كيف يثق بالآخرين. بل من المحتمل جدًا أنه يعتقد الآن…“
عبثت روزليتا بثقة بحجر غايا بين يديها وأكملت:
”أنه لو لم يغفل للحظة، لما وقع في هذا الوضع. وأنه لو واصل مراقبة قصر الشتاء وقصر الليلك كما كان يفعل، لما تمكن أحد من الإيقاع به.“
”لأنه لا يثق بأحد؟“
”لأنه لم ينظر إلى الآخرين سوى كقطع شطرنج.“
كانت هذه تقييمًا دقيقًا لوالده، في نظر كاسيان..
لهذا، أراد أن يمنحه يأسًا أشد.
فهذا الرجل، رغم كل شكوكه، كان لديه يقين أعمى في شيء واحد.
‘محبة والدتي له.’
وهذا ما يميز سلالة رياردن.
كان يمكنه فهم ذلك، لأنه كان يشعر بالمثل تجاه روزليتا.
لكن والدته، كونها نبيلة فريدة من رياردن، تركت للإمبراطور هدية خاصة.
لقد استبدلت حياتها بحياة أخرى، وكان ذلك أعظم تعبير عن الحب.
ولكن لم يكن هذا كل شيء..
هل كانت تجهل أن دليل حبها هذا قد يتحول يومًا إلى سلاح ضده؟
بعد أن رأت كيف كانت شخصية روزليتا وكيف نشأ ابنها، لم تحاول أبدًا منع ذلك..
بل…
”فكر فقط في سعادتكَ فقط. الحب هو أن تعطي دون مقابل. لقد فعلت كل ما بوسعك كابن.“
أراد كاسيان أن يدرك الإمبراطور، ولو للحظة، الألم الذي تحملته والدته بمفردها..
“هل هذا كل ما لديكَ لتقوله لي؟”
إذن، من الطبيعي أن يجعله يتذوق هذه الحقيقة القاسية.
بعيون باردة، نظر كاسيان إلى الإمبراطور وتحدث.
كان الإمبراطور على وشك أن يلتقط قلمه كعادته في الأيام الأخيرة، لكنه توقف فجأة.
“يبدو أن لديك ما تريد قوله لي.”
“ألم تتفضل بمسح ذلك من ذاكرتك بشكل مريح؟ لو كنت مكانك، لما فعلت ذلك أبدًا.”
“…ماذا؟”
“أو ربما كنت غير مهتم بي لدرجة أنك لم تلحظ الأمر.”
“ما الذي تحاول قوله؟ أنت لم تعد طفلًا! هل تعتقد أنني لم أمنحك اهتمامًا كافٍ، ولهذا أنت تتمرد؟”
كان كاسيان يحاول فقط التحقق من الحقيقة، لكن رؤية الإمبراطور يرفع صوته وكأنه أصيب في موضع مؤلم جعلته يشعر بالذهول..
منذ متى كان لديه هذا الضمير؟
“جلالتك، أظن أنك تتوقع مني الكثير. كيف لي أن أجرؤ على التفكير في مثل هذا الأمر؟ لقد تخليت عن هذه الأفكار عندما كنت في السابعة.”
عند سماعه هذه الكلمات الباردة، لزم الإمبراطور الصمت.
“إذن، لماذا تذكر ذلك الآن؟”
“هل نسيت؟ الرجل الذي اقتحم القصر فور تنصيبك إمبراطورًا.”
“…ماذا؟”
نظر إليه الإمبراطور بدهشة، لكن كاسيان لم يستطع منع نفسه من التنهد..
كان وجه الإمبراطور يعكس جهلًا تامًا.
لو علمت روز بذلك، لكانت قد صبّت عليه سيلًا من التوبيخ، لكنه بنفسه كان يظن، ولو قليلًا، أن السبب وراء معاملته الباردة من قبل الإمبراطور ربما يعود إليه شخصيًا..
لو كان هذا الرجل الضيق الأفق قد رأى كاسيان في ذلك الوقت، ربما كان قد زرع حينها بذرة الشك بشأن خيانة والدته..
(معرفت أوصل لكم المعنى بس قصده أنه كان عنده مجرد فكرة أنه يمكن الامبراطور لما شاف كاسيان وكلمه، ظن أنه الرجال الي ماربيل خانته معه، يعني يمكن كان بسببه انزرعت بذرة الشك…)
فتح كاسيان شفتيه ببطء وقال:
“- ماذا لو أخذت حياة الإمبراطورة؟”
ردد الكلمات ذاتها التي قالها في الماضي..
لكن هذه المرة، لم يفعل الإمبراطور شيئًا سوى التحديق فيه بثبات..
“كاسيان، هل تعتقد حقًا أنني عاملتك بجفاء لأن والدتك ماتت أثناء ولادتك؟ هل هذا هو سبب تصرفك بهذا الجفاء تجاهي؟”
الكلمات التي نطق بها الإمبراطور أربكت كاسيان للحظة.
كان هذا الرجل ينوي التظاهر بعدم الفهم حتى النهاية.
سواء كان ذلك لحماية كبريائه أو لإخفاء بلادة إحساسه، لم يكن كاسيان يعرف. لكنه لم يكن ينوي السماح له بالتهرب..
“أنا أتحدث عن لقائنا في الماضي، جلالتك.”
“أي هراءٍ هذا؟ هل انشغالك بالعمل مع السحرة جعلك تتوهم أشياء غريبة؟”
“مستحيل، أليس من الأفضل أن تتوقف عن التظاهر بالجهل؟ هكذا، على الأقل، ستتمكن من تقديم شكر متأخر لأمي.”
استحضر كاسيان بهدوء صوت روز في ذهنه..
”لم يكن هناك شيء عديم الفائدة في الماضي الذي استدعتنا إليه السيدة ماربيل. حتى عندما كنا نشك في أن جلالة الإمبراطور قد أحبها، فقد أظهرت لنا لحظات سعيدة من ذلك الوقت.“
بسبب تلك التجربة، هرع كاسيان لإنقاذ الإمبراطور، رغم أنها كانت مخاطرة بحياته..
لأنه، على الأقل، كان يعتقد أن مشاعر الإمبراطور كانت صادقة.
لهذا السبب، لم يكن يريد ترك الإمبراطور يتظاهر بالجهل ويتمتع فقط ببعض المعاناة السطحية.
“أمي، التي كانت ابنة عائلة رياردن وقديسة، أرتني ماضيًا سعيدًا لأتمكن من إنقاذ جلالتك.”
“…انت ابني!”
عندما صرخ الإمبراطور منكِرًا، أدرك كاسيان الحقيقة.
ذلك الرجل لم يكن غبيًا تمامًا، وأخيرًا، بدأت قطع الأحجية التي كانت موضع تساؤل لفترة طويلة تتجمع في ذهنه.
وأدرك أيضًا أنه لو سارت الأمور بطبيعتها، لما كان موجودًا في هذا العالم الآن.
“وبعد أن أكملت دوري كابن لجلالتك، كشفت لي أمي عن الحقيقة كاملة، الحقيقة حول ما فعلتَه.”
“…مستحيل، لا يمكن أن تكون بيل قد فعلت ذلك. لا بد أنك أسأت تفسير ما أرادت إخبارك به من أجل مساعدتي!”
عند ردّ الإمبراطور، شعر كاسيان بانقباض في حلقه..
لم يكن ذلك بسبب كبريائه. بل لأن الإمبراطور ببساطة لم يكن يريد الاعتراف بالحقيقة.
لم يكن يريد الاعتراف بأن أمه كانت قادرة على توجيه سيفها نحوه..
“إذن، لقد كنت تعرف طوال الوقت، جلالة الإمبراطور.”
التعليقات لهذا الفصل " 164"