تلك الليلة، كنتُ بجانب كاسيان.
لأنها كانت الليلة التي انتقل فيها إرث السيدة ماربيل إليه بالكامل، لم أشأ أن أتركه وحده.
دخلنا غرفة النوم، واتكأنا على بعضنا البعض، نتبادل الحديث لفترة طويلة.
شعرتُ مجددًا كم نحب هذه اللحظات معًا.
ربما لأن محادثاتنا اليومية عادة ما تكون محددة المواضيع، مقتضبة وتؤدى كواجب ضروري دون ثرثرة.
أما هذه الليلة، فقد تراكمت الكلمات بلا ترتيب، كما لو كنا في الكوخ القديم داخل مقاطعة ساليس، نقضي يومًا بسيطًا.
كان الموقد مشتعلًا بالكاد، ما يكفي فقط لإبقاء الجمر متقدًا، ونحن جلسنا متكئين على الأريكة، نضحك بلا سبب واضح.
في حضن كاسيان الواسع، شعرتُ بطمأنينة لا توصف.
“كيف حال السيد بيكر؟”
(السيد بيكر انذكر فالفصل 77 أنه ابو روز يسلفله فلوس كل مرة وما يبي يقتنع أنه فاشل فالزراعة.)
“بخير، لقد أرسل كلمات شكر عبر والدي. على وجه الخصوص، كان ابنه الأكبر ممتنًا لأنه بات بإمكانه أخيرًا الحلم بالزواج.”
“إذًا كان لديه حبيبة بالفعل.”
ضحكتُ قليلًا وأومأت برأسي..
“إنها قصة يعرفها جميع أهل البلدة. على عكس عائلة بيكر، كانت عائلة بانش، التي تدير المطحنة، مستقرة جدًا. وخاصة ابنتهم الصغرى، فقد كانت ذكية وحازمة منذ صغرها—”
توقفتُ للحظة ثم ضحكتُ مجددًا، فقد تذكرتُ كيف بكى صديق طفولتي ذات مرة..
حينها، وبّختني والدتي، مدعية أنني جعلته يبكي، لكنني ما زلتُ مقتنعة بأن ذلك لم يكن خطئي. بل إن باول كان حساسًا للغاية ويبكي بسهولة..
“ومنذ صغرها…؟”
لم يعجبه أنني استغرقتُ في ذكرياتي بمفردي، فضغط عليّ أكثر، مشددًا ذراعيه حولي، بينما طبع قبلات خفيفة على عنقي وجانبي وجنتي..
توردتُ قليلًا بسبب دفء شفتيه الذي تسلل إلى جلدي.
ربتُّ على ذراعه بلطف، مما جعله يخفف قبضته قليلاً، فالتقت أعيننا، وابتسمتُ له بمرح..
اعتبر ذلك إشارة لمزيد من المداعبة، فطبع قبلة خفيفة على وجنتي.
“هل ستتركينني أتساءل هكذا، روز؟”
“بالطبع لا، فقط تذكرتُ مشهدًا طريفًا. باول كان يبكي بشدة بعد أن وبخته ابنة عائلة بانش أمام الجميع.”
منذ صغره، لم يكن باول تيروديم متدربًا على إخفاء مشاعره مثل النبلاء الآخرين. لذا حينما بكى، بدا وكأن كل ملامح وجهه توسعت دفعة واحدة..
حين رأيته، فكرتُ في أنه مشهد يستحق الرسم، فتمتمتُ بذلك، مما جعله ينفجر في بكاء أشد..
كنتُ أروي القصة من باب الفكاهة، لكن وجه كاسيان أصبح عابسًا.
“كان مشهدًا طريفًا، إذًا؟”
“هل بدوتُ وكأنني قصدتُ ذلك بطريقة إيجابية؟”
“قلتِ إنكِ أردتِ الاحتفاظ بذلك المشهد في ذاكرتك.”
يا له من شخص غيور..
وكان يعلم أنني أجد غيرته هذه لطيفة، لذا كان يعبر عنها عمدًا، كأنها جزء من لعبته الخاصة معي.
وهذا ما جعلني أجدها أكثر ظرافة.
بدلًا من تهدئته بالكلمات، أمسكتُ وجنتيه بكلتا يديّ، ثم طبعتُ قبلتين، واحدة على جبهته والأخرى على طرف أنفه.
رأيتُ الحرارة تتصاعد في عينيه.
بعد ساعات من البقاء متلاصقين، أزعجتُهُ بما يكفي لألمس حدوده، ولم أكن غافلة عن ذلك.
“هل هذا لا يكفي؟”
استفززته عمداً، لأنني رأيتُ بوضوح كيف يحاول التصرف بلطف، متجنبًا تجاوز حدوده الليلة..
ولكن بصفتي شخصًا يحمل لقب “شيطان قصر الشتاء”، كان من الطبيعي بالنسبة لي أن أعبث به قليلاً.
كنتُ أعرف أنه، حتى لو كان على شفا الانفجار، فلن يتجاوز الخط الذي لم أمنحه الإذن بعبوره.
نظر إليَّ كاسيان بوجه اختلطت عليه مشاعر معقدة.
أخذ نفسًا عميقًا، وتردد، لكنني كنتُ واثقة أنه لن يربح هذه المعركة ضدي..
في النهاية، استسلم، وأومأ برأسه ببطء شديد.
“…نعم.”
تسللت يدي من وجنته إلى مؤخرة عنقه، داعبت برفق بشرته الدافئة.
“كنتُ أتحدث عن بقية قصة ابنة عائلة بانش وابن السيد بيكر، هل كنتَ تريد سماعها؟”
كان صوتي محمّلًا بالخبث، مما جعله يقبض يده بإحكام، وكأنه يحاول كبح نفسه..
“أريد أن أسمع ذلك أيضًا، لكن—”
“لكن ماذا؟ لا بأس بأن تكون صريحًا.”
اقتربتُ منه أكثر، وطبعتُ قبلة خفيفة عند زاوية شفتيه، متعمدةً إغوائه..
“أنا أحبك حتى عندما تتصرف بوقاحة.”
لقد استغلني بفظاعة، ورغم ذلك، وجدتُ نفسي أسقط في حبه أكثر فأكثر..
تعلقتُ برقبته وهمستُ عند أذنه.
“قلتَ أنك تحب لقب شياطين قصر الشتاء، صحيح؟”
لذا، في هذه اللحظة، من الأفضل أن يتوقف عن التظاهر بالمثالية.
وكما توقعتُ، لم يكن كاسيان أرتيز رجلًا بليدًا ليخطئ فهم هذه الإشارة.
بدلًا من التمسك بصبرٍ غير مجدٍ، تخلى عن قناع البراءة الذي كان يتظاهر به، ليكشف لي وجهه الحقيقي بكل وضوح..
المسافة الضيقة بيني وبينه تقلصت فجأة..
قبّلني كما لو كان يزرع دفء جسده في كتفي وعنقي، ثم التقت أعيننا مرة أخرى.
لم يكن هناك وقت لالتقاط الأنفاس.
في حين أنه كان يوزع القبلات في كل مكان، ظل محافظًا على آخر حدّ لا يتجاوزه، لكنه هذه المرة قدّمه لي عن طيب خاطر.
تشابكت أنفاسنا وتلاشت.
انهمرت مشاعري بقوة حتى أنني تساءلت كيف استطاع الصبر حتى الآن.
رغم صعوبة استيعابها، لم أشعر للحظة أنني تحملت ما لا أستطيع احتماله، فتمسكت به كما لو كنت أتشبث به بكل ما أملك.
لأنني لم أرغب في أن أفقد ذرة واحدة من صدقه الذي منحني إياه.
لكن حدود تحمل جسدي كانت واضحة، وعندما شعرت أنني ألهث حتى كدت أعتبر ذلك نقصًا في اللياقة البدنية، تركني كاسيان ..
في اللحظة التي عادت فيها عيناه الضيقة إلى حجمها الطبيعي والتقت نظراتنا، اجتاحتني سعادة غير متوقعة.
لم يكن الأمر يتعلق برجفة أو حرارة مشتعلة تسري في جسدي، بل كان مجرد دفء مغمور بالسعادة.
وحين لم أتمكن من كبح ضحكتي، قام كاسيان أيضًا، وهو يبدو سعيدًا، بطبع قبلة خفيفة على شفتي وهو يهمس:
“هل يمكنني الاقتراب منكِ أكثر؟”
بينما كان يخفي مكرًا خلف تعابير لطيفة وصوت بريء، بدلاً من الإجابة، شددّت ذراعي حول عنقه وسحبته نحوي.
كاسيان أرتيز تقبّل بسعادة دور الشخص المستسلم الضعيف وهو يُسحب نحوي..
وفي النهاية، امتلأت رؤيتي التي كان ينبغي أن تتجه نحو السقف بعينيه البنفسجيتين المحببتين وحضنه الدافئ.
***
وسط شعور لطيف بالإرهاق، كنت واعية لأشعة الشمس التي تلامس أذني، لكنني لم أفتح عيني، بل غصت أعمق في الدفء المحيط بي..
بدلًا من الشعور بالنعومة، لامس وجهي صلابة مرنة.
لم يوقظني، بل طبع قبلة على جبهتي كتحية صباحية.
ثم سحب الغطاء فوق ظهري وكأنه يخبرني بأن بإمكاني النوم أكثر، وربت عليّ بلطف، مما جعلني أبتسم مجددًا.
“يجب أن يكون قد حان وقت الذهاب إلى العمل.”
“لقد قال جلالة الإمبراطور إن عليك أن تكوني أكثر استرخاءً، ونحن فقط ننفذ أوامره بجدية.”
رددت عليه وأنا لا أزال مغمضة العينين، أشعر بيده تمرر أصابعها في شعري..
“إذا كان الأمر كذلك، فعليك أن تخبر بقية العاملين في قصر الشتاء أيضًا، فقد غبتُ كثيرًا عن مكاني.”
قلت ذلك بينما أحاول التغلب على إغراء البقاء في الفراش الدافئ وفتحت عيني ببطء..
“هل تريدين أن أجهز لكِ الفطور بدلًا منكِ، روز؟”
كان وجهه الوسيم خاليًا تمامًا من أي أثر للنعاس، مما جعله يبدو مزعجًا بلا سبب.
عبستُ وأنا أضغط بأصبعي على وجنته، فابتسمت عيناه بسعادة.
“وفي هذه الأثناء، سأكون أنا نائمة في حضن إيان، أليس كذلك؟”
“بالطبع، يمكنني حتى أن أوصلك إلى مكتبك دون أن يراكِ أحد.”
“لا تحاول إغرائي، إيان.”
إذا كنتُ سأتحمل مسؤولية شخص جميل مثلك، فهناك الكثير من الأمور التي عليّ إنجازها.
بالطبع، بإمكانه التعامل مع بعض الأمور بقوته، لكن الانتقام يكون أكثر متعة عندما يُنفذ شخصيًا.
عندما تذمرتُ قليلًا ونهضتُ من السرير، ناولني كاسيان ثوبي المنزلي بمهارة، وأعدّ لي حوضًا صغيرًا من الماء النقي..
كان من المحبط أن يكون شخصًا مليئًا بالحب إلى هذا الحد.
كل ما فكرت فيه هو أن عليّ أخذه معي قريبًا.
لم أرفض لطفه، وبعد أن أنهيت استعدادي تقريبًا، أمر بإعداد فطور بسيط.
“ذهبتَ إلى التدريب أثناء نومي، أليس كذلك؟”
“أجل، روز، فأنتِ لا تستيقظين بسهولة بمجرد أن تغفو.”
“إلى أي مدى راقبتَ نومي بالضبط؟”
تمتمتُ بتذمر، بينما كان كاسيان يدهن الزبدة على قطعة الخبز الخاصة بي بدلًا مني..
“أنتِ من سمحتِ بذلك دائمًا، أما أنا فكنتُ عاجزًا عن المقاومة، كما تعلمين.”
حين يقول ذلك، لا يبقى لديّ ما أجادله به..
لأنني بالفعل استسلمتُ للنوم مرات عديدة.
قضمتُ الشطيرة التي أعدها لي بإتقان، بينما ظل هو ينظر إليّ للحظة، ثم بدأ في إعداد شطيرته، مضيفًا مزيدًا من البيض والخس..
“لكن، روز، لماذا لم تقوليها كما فعلتِ أمس؟”
“…ماذا تعني؟”
رغم أنني كنتُ أظن أنني فهمت قصده، إلا أنني تجاهلت الأمر وقضمتُ شطيرتي مجددًا..
“إذا استمررتِ في هذا، فلن يكون لدي خيار سوى التحمل.”
مع أنه كان جشعًا أكثر مما توقعت.
نظرتُ إلى وجهه المتجهم بينما كنت أرتشف قهوتي السوداء، ثم رمقته بنظرة سريعة.
بعد أن انتهيتُ من طعامي، نهضتُ بينما كان لا يزال في منتصف وجبته..
“هل ستذهبين إلى العمل وحدك بهذه القسوة؟”
“نعم.”
فأنا لم أكن متجهة إلى المكتب في الصباح، بل إلى ساحة التدريب لاختيار الفرسان الذين سيتم تعيينهم في المعبد.
بعد أن غسلت فمي في حمامه، عدتُ إليه، وتركتُ على وجنته العطرة قبلة خفيفة وقلت:
“إذا كنت تطمع في ذلك كثيرًا، فسأحقق لك أمنيتك عندما تصبح زوجي.”
ليس كأمير ومساعدة في العاصمة، بل عندما نترك هذا المكان، وحين يمكننا الجلوس أمام المدفأة لنتبادل الأحاديث الخاصة بعيدًا عن أي التزامات..
“لذا، عليك أن تعلم أنني ذاهبة الآن لتحقيق أمنيتك، إيان.”
من أجل تحقيق هذه الأمنية العزيزة، سأقود قلب قصر الشمس نحو طريق الإرهاق بكل سرور.
التعليقات لهذا الفصل " 155"