كم من الوقت مضى؟
لم يتحرك الإمبراطور إرنست قيد أنملة، حتى حينما تراكمت الثلوج البيضاء على شعره الأسود، مغطية نصفه تقريبًا. وحينها فقط، انفتح الباب الثقيل بحذر..
“عذرًا، جلالتك. يبدو أن صحة جلالة الإمبراطورة ليست على ما يرام.”
خرج أحد الفرسان المخلصين ليبلغ الإمبراطور برفض الزيارة..
لكن إرنست لم يظهر أي رد فعل. وقف ساكنًا، كأن كلماته لم تصل إليه.
كان الفارس، الذي حمل شعار عائلة رياردن على درعه، في موقف محرج، غير قادر على قول شيء آخر..
بقي الإمبراطور في مكانه، حتى غطت الثلوج كتفيه، قبل أن ينطق أخيرًا، بعد أن همس له حاجبه عدة مرات.
“هل… صحة ماربيل على ما يرام؟”
“…نعم.”
أجاب الفارس بعد تردد، فأطلق إرنست تنهيدة عميقة.
وكأنه يدرك أن الجواب ليس صادقًا تمامًا.
“إن كانت تكرهني، فلتأتِ إليّ وتعبر عن غضبها. لا تؤذِ نفسها من أجلي.”
نقل الفارس رسالته قائلًا:
“جلالة الإمبراطورة طلبت مني إبلاغك بأنها تتجنبك فقط بسبب إصابتها بنزلة برد، وليس عليك أن تأتي مرارًا هكذا.”
عند هذه الكلمات، تدلّت كتفا الإمبراطور، وهزّ رأسه بأسى.
“لكن ذلك… أكثر إيلامًا لي.”
بمجرد أن قالها واستدار، ظهر على وجهه تعبير من الصدمة للحظة..
ثم، كما لو أن الزمن نفسه قد تبدّل، اختفت الثلوج المتطايرة، وحلّت محلها زهور الربيع المتفتحة على طول الطريق.
لكن هذه المرة، لم يكن إرنست واقفًا أمام قصر مورتن.
ورغم ذلك، كان المكان يكتسي بصمتٍ ثقيل.
لم يكن إحساس الانغلاق كما هو الآن، لكنه كان مختلفًا عن الماضي.
نظرتُ إلى كاسيان نظرة ذات مغزى، فما كان منه إلا أن احتضنني، واخترقنا قصر الفاوانيا بسهولة.
كان من الصعب التصديق أنه قصر الإمبراطورة، إذ لم يكن هناك سوى عدد قليل من الخدم، بالكاد يمكن الشعور بوجودهم..
بينما كنتُ مستغرقة في التفكير في هذه الأجواء الغريبة، قادني كاسيان إلى مكان كنتُ قد رأيته في الذكريات السابقة—حديقة القصر الداخلية، حيث كانت ماربيل تضحك بسعادة مع إرنست.
اقتربتُ بحذر من النافذة، وفجأة، سمعتُ صوتًا خافتًا.
“حقًا… هل سترسلين كل هذا كهدية للمحظية، جلالتك؟”
“نعم، لقد قامت بما لم أتمكن من فعله كإمبراطورة، ومن واجبي أن أظهر لها الامتنان.”
“…الإمبراطور قاسٍ للغاية.”
كان صوت الخادمة ممتلئًا بالغضب، لكن ماربيل لم تحاول إيقافها، بل اقتربت بهدوء من النافذة..
بدا وجهها، الذي كان ينبض بالحياة دومًا، أكثر شحوبًا من أي وقت مضى.
وكأنها قد مرت بمرض شديد طوال الشتاء ولم تتعافَ منه تمامًا بعد..
تأملت البراعم المتفتحة على الأشجار، وهمست كما لو أنها تحدث نفسها.
“كنتُ مستعدة، لكن الألم كان أكبر مما توقعت.”
“جلالتك…”
“حتى عندما حاول والدي منعي، ظننتُ أن الأمور ستكون على ما يرام… كنتُ واثقةً أن إرنست، بصفته الإمبراطور، سيُصدّق كلماتي لأنه يحبني.”
استندت إلى النافذة، وانسدل شعرها الذهبي المتألق برقة، رغم فقدانها للحيوية..
“لكنني كنتُ مخطئة. كنتُ أعلم أن هذا احتمالٌ وارد، لكنني لم أتوقع أن يكون الأمر مؤلمًا إلى هذا الحد.”
“سيدتي…”
نادتها خادمتها بلقبها القديم، وليس بصفتها الإمبراطورة.
لكن ماربيل هزت رأسها، كأنها تطلب منها ألا تنسى موقعها الحالي..
“قلتُ له إنه إذا انتظر قليلًا، سيأتي طفلنا… لكن ربما لم يكن ينبغي لي قول ذلك كإمبراطورة.”
وقفت ماربيل ببطء..
“لكن هذا أمر لا مفر منه بالنسبة لإرنست، أليس كذلك؟ ينبغي عليّ أن أتفهم ذلك، صحيح؟”
“جلالتك…”
لم تستطع الخادمة كتم دموعها، وبدأت تبكي بحرقة.
أما ماربيل، فمسحت دموعها بلطف، وقالت بابتسامة باهتة:
“أتمنى أن يأتي طفلي إلى العالم قريبًا… عندها، ربما…”
وضعت يدها على بطنها المستوي، وهمست بصوت بالكاد مسموع..
“ربما من خلال محبتي لذلك الطفل، أتمكن من تغطية حبي لإرنست قليلًا… ربما أتمكن من إخماد مشاعري التي لا أستطيع حتى أن أكرهه بها.”
عند سماعي كلماتها، لم أتمالك نفسي وعانقتُ كاسيان بقوة..
شعرتُ بأنها شخصٌ ثمين، شخصٌ عزيزٌ عليّ..
ربما كان ذلك مجرد صدفة، لكنني شعرتُ أن مشاعرها هي ما قادنا إلى هذا المكان..
‘كيف يمكن لشخص يحمل كل هذه المشاعر أن يتقبل وجود شخص آخر في قلب شريكه، مهما كانت الأسباب السياسية؟’
نظرتُ إلى كاسيان، ولم أستطع حتى تخيل الأمر.
بالأساس، مجرد محاولة هدم الجدار الذي أحطتُ به قلبي كانت معركة بحد ذاتها—
‘حتى ماربيل، التي بنت جدرانًا أعلى مني، كان هو نفسه من هدمها.’
لو أن كاسيان آرتيز فعل بي الأمر ذاته ثم تظاهر بعدم معرفته، كنتُ سأدمره دون ندم، وأختفي من حياته للأبد.
لكن ماربيل…
‘لا تستطيع حتى فعل ذلك.’
وكوني أعرف القرار الذي اتخذته في النهاية، زاد ذلك من إحساسي بالعجز تجاهها..
تشبثتُ بكاسيان بقوة أكبر، لكنه في المقابل، قبّل جبيني، كأنه يخبرني أنه بخير.
كان وجهه يشبه وجه ماربيل إلى درجة مزعجة، مما جعلني أشعر بالانقباض..
“أنا لن أفعل شيئًا لا يمكنني تحمل مسؤوليته أبدًا.”
“أعلم ذلك.”
ردَّ كاسيان بابتسامة، ثم طبع قبلة رقيقة على خدي مرة أخرى.
ومع تلك القبلة اللطيفة، تغير مشهد قصر الفاوانيا مرة أخرى.
أصبحت الأجواء أكثر دفئًا، ورأينا ماربيل مستلقية تحت ظل شجرة كثيفة، تستريح بسلام.
كانت تقرأ كتابًا بهدوء، بينما بجانبها، بدا إرنست متوترًا، وكأنه يريد فعل أي شيء من أجلها، لكنه لم يكن يعرف كيف.
أما هي، فلم تهتم به كثيرًا، بل كانت تضع يدها على بطنها المنتفخ بين الحين والآخر، وكأنها تحتضن طفلها المنتظر.
بعد مرور بعض الوقت، عندما رفعتُ رأسي، كان إرنست ينظر إلى ماربيل بوضعية متوترة للغاية..
لقد أصبحتْ أكثر نضجًا قليلًا، ولم تعد تحمل مظهر الشجرة اليابسة كما رأيتها سابقًا.
لم تكن تشع بالحيوية كما في الماضي، ولكن سنوات حياتها في القصر الإمبراطوري جعلتها أكثر صلابة. كان واضحًا أنها قد أصبحت قوية بما يكفي لمواجهة أي شيء..
فتحت ماربيل شفتيها بلطف، متوجهةً إلى إرنست الذي بدا وكأنه ينتظر أي أمر منها لينفذه.
“ليس هذا وقت التسكع هنا، يجب أن تذهب لمتابعة شؤون الحكم. الإمبراطورة الأخرى والمحظيات أيضًا ينتظرن حضورك، لذا لا يمكنك البقاء طويلًا.”
“بيل، أنا…”
“لا بأس، فقط التزم بالوعد الذي قطعته لي.”
قالت ذلك بنبرة أكثر حزمًا مما كانت عليه في الماضي، مما جعل إرنست يبدو أكثر ارتباكًا..
“أنت تتذكر اسم طفلنا، صحيح؟ وأيضًا القصر الذي وعدتني أن تمنحه له…”
“بالطبع، بيل.”
أومأ إرنست بحماس، متقدمًا نحوها وهو يحدق بها بحب..
“أحب الاسم الذي اخترته، كاسيان. وبالتأكيد، لن أعترض على منح قصر الشتاء لطفلنا.”
ثم تابع بصوت أكثر حنينًا:
“قصر الشتاء هو المكان الذي لجأنا إليه معًا عندما كنا نهرب من عمي. كنتِ دائمًا تقولين إنكِ تريدينه أن يكون ملاذًا آمنًا لطفلنا، حتى لا يواجه أي خطر.”
“صحيح، وهناك طلب آخر…”
توقفت يد ماربيل للحظة وهي تمسح بطنها برفق، وعيناها المنخفضتان لم تعكسا أي توقعات سعيدة.
رغم ذلك، لم يلاحظ إرنست ذلك، بل اقترب منها وكأنه مستعد لفعل أي شيء ترغبه..
“ما هو؟ هذه المرة، أعدكِ أنني سأنفذه.”
“قلتَ ذلك من قبل، ومع ذلك لم تستجب لطلبي بعدم قبول المحظية جاموتي.”
تجمد للحظة، لكنه سرعان ما عاد للتوسل إليها: “هذه المرة أنا جاد، بيل. أرجوكِ، أخبريني.”
كنت أريد أن أغلق عينيّ، لأنني كنت أعلم أنه مهما قالت له، فلن يتمكن من حمايتها..
“عندما يحل الخريف قريبًا، سيطلب منك قيادة حملة صيد الوحوش.”
“سأرسل الفرسان بدلاً مني.” ردّ فورًا، متوقعًا ما ستقوله.
ابتسمت ماربيل ابتسامة مشرقة، لكنها كانت هشة، وكأنها ستتحطم في أي لحظة..
ارتاح إرنست قليلاً عند رؤية تلك الابتسامة، لكن ماربيل همست له بكلمات ذات معنى خفي:
“يجب أن تفعل ذلك… حتى تتمكن من حمايتي أنا وكاسيان. لا تنسَ ذلك، إرنست.”
لأول مرة منذ وقت طويل، خاطبته باسمه كما كانت تفعل عندما كانا عاشقين..
وفي تلك اللحظة بالذات، تحول لون السماء إلى سواد دامس، وبدأ المطر يهطل بغزارة، وكأنه يبكي نيابة عن أحدهم.
⋆⋆⋆
عندما عدتُ إلى وعيي، لم يكن كاسيان بجانبي. كنت داخل مبنى، أستمع إلى صوت المطر المنهمر بغزارة..
بدلًا من البحث عنه، تابعت السير إلى الأمام.
لم أدخل قصر موران من قبل، لكنني كنت أعرف بالضبط إلى أين أذهب..
كانت اللفافة السحرية حول معصمي ترتجف بين الدفء والبرودة، وكأنها تخبرني بأن الاتصال يوشك على الانقطاع.
وقفت أمام باب بدا وكأنه غرفة نوم، وطرقت عليه بخفة.
“ادخلي.”
كان الصوت الذي ردّ عليّ بلا شك صوت ماربيل رياردن.
دفعتُ العربة الصغيرة أمامي ودخلت. كانت تجلس هناك، تحدّق بصمت في المطر المنهمر عبر النافذة..
“- في النهاية، لقد خانني حتى النهاية.”
لم أستطع الرد.
لم يكن هناك أي كلمات تعزية مناسبة، ولا حتى كلمات لوم يمكنني أن أقولها لها..
لقد استدعتني إلى هنا لأنها أرادت إنهاء الأمر. أرادت أن تطوي الصفحة الأخيرة.
“كنتِ تعرفين كل شيء بالفعل، ورغم ذلك… هل تبكين من أجلي؟”
التفتت نحوي ببطء، وعندها فقط أدركتُ أن وجهي كان مبللًا تمامًا بالدموع..
أرسلت إليّ نظرة دافئة، نظرة لم تعد تمنحها لإرنست منذ فترة طويلة.
ثم اقتربت مني بمكر، تمامًا كما كان يفعل كاسيان، وأخذت تمسح دموعي بمنديل معطر.
“أخشى أن يغضب كاسيان مني، لأنني جعلتكِ تبكين.”
“…كيف له أن يغضب منكِ؟”
كيف له أن يكرهكِ، بعد كل ما عشتهِ وكل ما تحملتهِ؟
ابتسمت بهدوء وسألتني:
“- حتى وأنتِ تعلمين أنني اخترتُ خيارًا لا يعجبكِ؟”
التعليقات لهذا الفصل " 150"