“الآن، ما هذا…؟”
“هل تقولين إن الأمير كاسيان ليس الابن الشرعي لجلالة الإمبراطور؟”
ساد جو من الفوضى في قاعة الاستقبال الملكي في لحظة..
أما المحظية الرابعة، التي قلبت الأوضاع رأسًا على عقب، فلم تغضب، بل اكتفت بإسقاط دموع هادئة.
“جلالتك، إلى أي مدى تنوي إذلالي؟ لقد دخلتُ هذا القصر بعد الإمبراطورة الراحلة، وخدمتُك أكثر من أي شخص آخر.”
كان صوتها مفعمًا بالحزن، وكأنه يحمل الصدق الخالص..
تابعت حديثها وكأنها تجد هذه الحال مؤسفة، وكأن الإمبراطور شخص يستحق الشفقة.
امتلك صوتها قوة إقناع جعلت القاعة، التي ضجّت بالمفاجأة، تهدأ للحظات..
“لقد سمحتُ لنفسي بأن أكون ألعوبة بملء إرادتي، لأن جلالتك أردتَ ذلك. حتى أنني حاولتُ احتضان الأمير كاسيان من أجلك. ولكن…”
المحظية الرابعة، دون أن تفكر حتى في مسح دموعها المتدفقة، ركّزت نظرها بالكامل على الإمبراطور وهي تتحدث.
“أليس هذا ظلمًا؟ والآن، تريد استعادة شرف رياردن؟ إذًا، ماذا عن شرفي وشرف تشارلي؟!”
“-المحظية الرابعة.”
كان الإمبراطور مذهولًا من كلامها..
“هل ستطلب مني أن أصمت مجددًا؟! كل شهود ذلك اليوم موجودون هنا. هل تنوي طمس كل ما فعلتُه من أجلك؟!”
“ما هذا الهراء الذي تتحدثين به، أيتها المحظية الرابعة؟!”
صرخ الإمبراطور بغضب..
لكن المحظية الرابعة، وكأنها شخص يخفي حقيقة ما، نظرت نحو البابا.
ارتبك الحاضرون، غير قادرين على تمييز الحقيقة في هذه الفوضى.
كان حديث المحظية الرابعة يبدو صادقًا إلى درجة جعلت من الصعب اعتباره ملفقًا.
خاصةً رجال المعبد، الذين تصرفوا قبل قليل بجحود تجاه كاسيان، كانوا أكثر من تأثروا.
“…لكن ألم يقل المعبد سابقًا إن الأمير كاسيان هو الابن الشرعي؟”
“ومن أنكر ذلك لم يكن سوى جلالة الإمبراطور نفسه.”
“لكن الشخص الذي طلب إجراء اختبار النسب في ذلك الوقت كانت المحظية الرابعة.”
رغم أن هذه الرواية تتناقض مع ما كان معروفًا للعامة، فإن مجرد حقيقة أن المحظية الرابعة هي من طلبت اختبار النسب أربكت الجميع..
وفوق ذلك، فإن البابا، على عكس الآخرين، بدا هادئًا وسط هذه الفوضى، ما أضفى على كلامها مصداقية أكبر..
وبعد صمت طويل، تحدث الإمبراطور أخيرًا.
“…أنتِ لم تتغيري أبدًا، منذ ذلك الحين وحتى الآن، ولا لمرة واحدة.”
نظر إلى المحظية الرابعة بوجه لا يخفي خيبته.
أما هي، فردّت بكل ثقة..
“أجل، لم أتغير. على الأقل، لم يتغير حبي لجلالتك وهذا القصر الإمبراطوري.”
ثم مسحت دموعها سريعًا ونظرت إليه.
“لقد كنتَ تخشى أن أكشف هذه الحقيقة، ولهذا، رغم كل ما فعلته مما يثير حنقك، لم تستطع طردي من القصر. لأنك كنتَ تكرر فقط أنه لا يوجد دليل.”
كلماتها، التي بدت وكأنها تسخر من نفسها، جعلت النبلاء أكثر حذرًا في حديثهم..
لأن الأمر بدا منطقيًا بشكل غريب.
نظرتُ إلى كاسيان بطرف عيني.
كان وجهه هادئًا تمامًا.
وخزته بطرف إصبعي، فأمسك يدي.
كان نبضه، الذي شعرت به من خلال راحة يده، ثابتًا، مما طمأنني..
-البشر يعيشون حياة معقدة للغاية.
تنهد فيا بعمق وهو يراقب المشهد.
-بالنسبة لي، طاقة الاثنين متشابهة جدًا، لذا من الغريب أن ينخدعوا بهذه الأكاذيب…
لأنك تنتمي لفصيلة التنانين، هذا طبيعي.
أنتَ كائن يرى ما لا تراه أعين البشر، فلا عجب أن تجد الأمر مثيرًا للدهشة.
على أي حال، حان دوري الآن للتدخل.
لا يمكنني تركه بمفرده، وهو لا يجد شيئًا يمسك به سوى يدي..
“إذن، لتوضيح الأمر، تقصدين أن المعبد كذب في اختبار نسب الأمير كاسيان؟”
استدارت المحظية الرابعة ببطء نحوي..
كانت آثار دموعها الحمراء، التي لم تُمسح جيدًا، أكثر إثارة للقشعريرة اليوم.
“نعم، مركيزة كلوبيا الحدودية. أعلم أن هذا خبر مؤسف لكِ.”
نظرت إليّ بوجه مفعم بالشفقة، وكأنها قديسة رحيمة..
“ولكن، حتى مع ذلك، لن يتزعزع الحب العميق بينكما، أليس كذلك؟ حتى أنا، بل وجلالة الإمبراطور أكثر مني، لسنا بصدد التخلي عن الأمير كاسيان. فقط…”
انتقلت نظرتها إلى تشارلي..
“بصفتي محظية إمبراطورية، بل وإمبراطورة سابقة، لا يمكنني السماح لهذا القصر بأن يتلطخ ويفقد أصوله.”
كان هذا تبريرًا مثاليًا..
تنهد الإمبراطور وكأن رأسه يؤلمه بسبب هذه المحظية، التي لا يمكن السيطرة عليها..
تبادلنا نظرات خاطفة، ثم وجهتُ سؤالي التالي إلى البابا.
“قداستكم، هل ما قالته المحظية الرابعة صحيح؟ على حد علمي، أنتَ من أشرفتَ على اختبار نسب الأمير كاسيان.”
عند سؤالي الهادئ، ألقى البابا عليّ نظرة تنم عن الشفقة..
“حتى في مثل هذه اللحظات، تبقين هادئة للغاية.”
بدا وكأن كلماته تتضمن تلميحًا إلى أنني بلا دموع أو مشاعر، لكن ذلك لم يؤثر بي.
انتظر البابا بصمت طويلًا، وكأنه يترقب أن أتزعزع، ثم أخيرًا تنهد بعمق وهز رأسه على مضض.
“لطالما اعتقدتُ أنني سأحمل هذا السر إلى قبري، ولكن بما أن الأمور وصلت إلى هذا الحد… فلا خيار أمامي.”
عندما أطلق البابا زفرة ثقيلة، اعتبرها الحاضرون تأكيدًا ضمنيًا..
إذًا، كاسيان أرتيز ليس الابن الشرعي للإمبراطور.
كُسر الصمت الذي ساد للحظات، وبدأ الجميع يتهامسون.
“إذًا، لهذا ظلّ منصب الإمبراطورة الأم شاغرًا طوال هذا الوقت…؟”
“مهما يكن، أليس هذا أمرًا يهدد أسس العائلة الإمبراطورية؟”
“جلالته لم يكن ينوي فقط منح لقب الأمير لشخص ليس من نسله، بل حتى منحه حق ولاية العهد؟! هل يصحّ حتى أن نناديه بالأمير؟”
وكالعادة، كان هناك من لم يستطع كبح جماح لسانه..
لكن ما كان يثير الامتنان حقًا أن مساعدي قصر الشتاء لم يبدوا أي علامة اضطراب، بل حافظوا على هدوئهم..
لم يظهر عليهم حتى مجرد إحساس بالإهانة، وذلك كان أكثر ما أشعرني بالارتياح..
وكأن كاسيان شعر بالأمر ذاته، فقد شدّ قبضته حول يدي بقوة أكبر.
وحين بلغت همهمة القاعة ذروتها، نظر البابا إلى الإمبراطور متظاهِرًا بالحيرة، ثم قال:
“هل لي حقًا أن أجيب، جلالة الإمبراطور؟ المعبد يمكنه التزام الصمت حفاظًا على علاقاته مع العرش.”
يا لهذا العجوز الماكر…
لقد جعل الجميع يوقنون أن كاسيان ليس ابن الإمبراطور، ثم عرض عليهم فجأة إمكانية السكوت عن الأمر مقابل الحصول على مكاسب.
فطالما أنه لم ينطق بنفي قاطع، فإن كل اللوم سيقع على المحظية الرابعة وحدها… حتى الآن.
ورغم أنها كانت على وشك تحمل العبء وحدها، كانت المحظية الرابعة لا تزال تبتسم، وكأنها غير مبالية تمامًا.
‘يبدو أنها واثقة من أنها تستطيع تحمل كل شيء، طالما أن كاسيان والإمبراطور وحدهما من سيتلطخان بالعار.’
للحظة، التقت عينا الإمبراطور بعيني، قبل أن يعود ليوجه كلامه إلى البابا، بنبرة متعبة..
“تحدث، ولكن كفّ عن محاولة التلاعب بالعرش الإمبراطوري.”
“من المؤسف أن جلالتك تظن ذلك. المعبد لم يكن يسعى سوى للحفاظ على علاقته الطيبة مع العرش…”
يا له من رجل بارع في التلاعب بالكلمات..
“وهل يحق لرجل دين أن يستخدم سلطته بهذه الطريقة؟ هل تحاول إخفاء الحقيقة، أيها البابا؟”
عند كلماتي، هز البابا رأسه بأسى زائف.
“كم أنتم جائرون.”
لا أدري حقًا من الجائر هنا.
لكن بغضّ النظر عن مدى سخافة حديثه، استمر البابا في التحدث، مستغلًا الفرصة جيدًا..
“لا أفهم لماذا تسيئون الظن بي. كل ما كنتُ أريده هو حماية طفل مسكين… ومع ذلك، أنصار الأمير كاسيان قساة القلب للغاية.”
“التعاطف المبني على الكذب لا يمكن أن يكون دافئًا أبدًا.”
عند ردي، نظر البابا إلى كاسيان بنظرة ذات مغزى..
“وهل يرضيك ذلك، يا صاحب السمو؟”
بدا واضحًا أن البابا مستاء من كونه لم ينجح في الإمساك بزمام الموقف، بل كان يُجرّ في تيار الأحداث.
كان من الواضح أن هناك إجابة محددة يريد الوصول إليها، لكنه كان يماطل قدر الإمكان.
وفور نطقه بذلك السؤال، تحوّلت كل الأنظار نحو كاسيان.
فأجاب بصوت هادئ، لكنه جليّ:
“نعم. لم أعد أرغب في سماع المزيد من الجدل حول أصلي. وبغض النظر عن أي شيء، لن يغيّر ذلك حقيقة أنني آخر وريث لعائلة رياردن.”
عندها، ضحك البابا بسخرية خفيفة، ثم قال:
“يا لك من فخور بهذا الاسم، لا بد أن الإمبراطورة الراحلة سعيدة بذلك… رغم أنها أنكرتك.”
كانت كلماته جافة، لكنه لم يُبقِ على أي مجال للتأويل.
ثم أكمل بوضوح قاطع:
“صحيح، الأمير كاسيان ليس الابن الشرعي لجلالة الإمبراطور. لقد أخفينا الحقيقة بناءً على الطلب الملحّ من المحظية الرابعة.”
ثم، بابتسامته المتكلفة التي كررها مرات عدة اليوم، أضاف:
“صحيح أن جلالة الإمبراطور يتظاهر الآن بأنه يدافع عن الأمير كاسيان، ولكن…”
ابتسم البابا ابتسامة خفيفة..
يبدو أنه كان يستمتع تمامًا بهذه اللحظة.
ربما ظن أنه سيتمكن أخيرًا من استعادة زمام الأمور التي أفلتت من يده.
“لقد اختار جلالته التغاضي عن الأمير كاسيان حتى الآن، خشية أن يعيق الاعتراف به استقرار العرش، كونه مكروهًا من الحاكم.”
ما إن نطق البابا بهذه الكلمات حتى رفع كاسيان عينيه إليه ببرود وسأله:
“هل تتعهد بضمان كل كلمة قلتها وتتحمل مسؤوليتها؟”
أجاب البابا بثقة مطلقة:
“بالطبع. وإن رغبتم، يمكنني حتى تقديم حجر الإثبات الذي استخدم في اختبار النسب قبل عشرين عامًا.”
لكن كاسيان لم يُظهر أي رد فعل تجاه ذلك، بل التفت فورًا إلى المحظية الرابعة وسألها بنفس البرود:
“وأنتِ أيضًا تؤكدين الأمر، أليس كذلك؟”
أجابت بصوت ثابت:
“بالطبع، يا صاحب السمو.”
عندها، انحنى طرف شفتي كاسيان بابتسامة جانبية..
في الحال، انطلقت شهقات خافتة بين بعض النبلاء..
كان رد فعل غريزيًا لمن تعرضوا لهذا الابتسام المخيف أكثر من مرة من قبل..
“يبدو أن البابا يعتقد أنه ليس هناك أي شخص آخر متورط في هذا الأمر… لكن هناك شخصًا ظل صامتًا بشكل مريب منذ بداية النقاش.”
كان هناك شخص واحد بجوار البابا، حافظ على تعبير مقدّس ومفعم بالرحمة طوال الوقت..
وفي تلك اللحظة، وجهنا جميعًا أنظارنا إليه.
إلى ويسلي.
تحركت أعين الجميع نحوه تلقائيًا، دون أي حاجة إلى توجيههم صراحةً.
وبينما كانت الأنظار تتركز عليه، طرح كاسيان سؤاله بنبرة شديدة الأدب:
“يبدو أن حديثه الآن يتناقض تمامًا مع ما قلتمه قبل يومين، سمو القديس، هل يمكنك أن توضح لنا رأيك في ذلك؟”
كان ذلك سؤالًا قادرًا على قلب الطاولة رأسًا على عقب مرة أخرى..
التعليقات لهذا الفصل " 142"