“يبدو أنه أدرك أخيرًا أنه لم يعد بإمكانه التملص من التحرك.”
قال كاسيان وهو يزرّ أزرار سترته العسكرية بنبرة متكاسلة..
“لكن لن يتغير شيء حتى لو تحرك.”
“سيصبح الأمر مزعجًا بعض الشيء، لا أكثر.”
نقر كاسيان بلسانه بضيق، فتمتمتُ بامتعاض:
“وهل كان هناك وقت لم يكن فيه كل شيء مزعجًا بالنسبة لنا؟”
ضحك كاسيان واقترب ليعيد ترتيب خصلات شعري المبعثرة بلطف، ثم علق ساخرًا..
“معك حق، تمامًا مثلما لا يبقى شعرك في مكانه أبدًا.”
يبدو أن شعري يمتلك إرادة خاصة به، فكلما نظرت إليه، كان يهرب من ترتيبه وكأنه يعاندني.
وضعتُ يدي على ذراعه الممتدة نحوي، وأردفتُ مدافعة عن نفسي..
“اليوم ساعدتني الوصيفات في ترتيبه!”
“لأنك لا تعرفين السبب، روز.”
“أي سبب؟”
“عندما تفكرين في شيء يرهقك أثناء العمل، تميلين إلى النقر على جانب أذنك اليمنى بقلم الحبر.”
قطبتُ حاجبي وأنا أحدق به، وكأنني غير مصدقة لما أسمع.
لم أكن حتى على دراية بهذه العادة…
لكنه، بالطبع، بدا مستمتعًا بالأمر، بل وكأنه يشعر بالاعتزاز بمعرفته الدقيقة بتفاصيلي الصغيرة. فلم أستطع إلا أن أضحك.
***
لم يسبق لي أن رأيت قاعة الاستقبال الإمبراطورية بهذا الإزدحام من قبل..
على الرغم من دخولي وخروجي منها مرات لا تحصى، إلا أن هذا اليوم كان مختلفًا. لم يكن هناك سابقة في التاريخ لمحاكمة كهنة وفقًا للقوانين الإمبراطورية، مما جعل هذا الحدث استثنائيًا..
‘إنه دليل واضح على مدى تحكم المعبد في السلطة طوال هذا الوقت.’
اصطف ممثلو المعبد إلى يسار العرش الإمبراطوري، بينما جلس أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء—بما فيهم أنا وكاسيان—إلى اليمين.
كما حضرت الإمبراطورة ترِيشا وجميع محظيات الإمبراطور بناءً على طلب “المحظية الرابعة”.
“بما أن الأمر يتعلق بالأمير تشارلي، فمن الطبيعي أن أحضر، أليس كذلك؟”
كان هذا تبريرها لحضورها، لكن الإمبراطور، بدلاً من رفضها، استغل الفرصة للحفاظ على التوازن، فأمر بحضور جميع المحظيات الأخريات أيضًا..
‘تخصيص مقعدها في الجانب الأيسر يبدو كتحذير من الإمبراطور.’
إلا أنني كنت واثقة من أنها لن تهتم. كانت منشغلة بأمور أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها..
أما تشارلي، فقد تم وضعه بالقرب منا، وهو أمر لم يكن خافيًا على أي أحد.
كان من الواضح أن الإمبراطور قد رسم حدودًا بينه وبين المحظية الرابعة، رغم أنها بدت غير راضية عن ذلك.
في الماضي، كانت لتدعي المرض أو تستخدم أي حيلة أخرى لتبقيه إلى جوارها، لكنها الآن التزمت الصمت..
همستُ لكاسيان:
“غريب، الأجواء هادئة جدًا.”
أومأ كاسيان موافقًا..
“نعم، كنت أتوقع أن ترسل قتلة مأجورين خلال الأيام الثلاثة الماضية.”
“لهذا أبقاك الإمبراطور في القصر، لكن عدم حدوث أي شيء يثير الريبة.”
“حتى محاولات التسميم لم تحدث.”
كان الأمر أغرب من مجرد امتناعها عن استهدافنا، فقد أشار كاسيان إلى أن لا أحد قد تجرأ على لمس القصر الإمبراطوري أو حتى قصر الإمبراطورة ترِيشا.
“هل هي واثقة تمامًا من النصر؟”
“أو ربما تعرف شيئًا لا نعرفه.”
أومأ كاسيان ببطء. لم يكن هناك تفسير آخر، مهما أعملنا عقولنا..
“لكن لماذا أبقاها الإمبراطور إلى جانبه رغم معرفته بما فعلته؟”
ناهيك عن منحها لقب المحظية، مما منحها نفوذًا هائلاً. لا بد أن هناك شيئًا وراء ذلك.
أثناء تفكيرنا، دوى صوت كبير الخدم في القاعة:
“يحضر جلالة الإمبراطور والبابا!”
دخل الإمبراطور أولًا، وتبعه البابا كما لو كان تابعًا له. لم يتمكن بعض الكهنة من إخفاء امتعاضهم، فقد جرت العادة أن يسيرا جنبًا إلى جنب..
كان الإمبراطور يسير بثبات نحو العرش، بينما أظهر البابا تعابير هادئة متقبلة، كما لو كان حاجًا زاهدًا. كان أفراد المعبد يراقبون المشهد وكأنهم مظلومون يتعرضون للاضطهاد..
“إذا كنتم منهكين بالفعل من مجرد الدخول، فكيف ستتحملون ما هو قادم؟”
غمغمتُ ساخرة وأنا أنظر إلى البابا لأول مرة.
‘في الرواية الأصلية، لم يظهر إلا في هذه اللحظة الأخيرة… لذا أشكره على قدومه.’
كان رجلاً ممتلئ الجسم أكثر مما توقعت، رغم أن وقوف ويسلي موريل بجانبه جعل ذلك أقل وضوحًا..
قال البابا بلهجة هادئة:
“سمعتُ أنك عانيت كثيرًا، أيها الأخ.”
ردّ ويسلي بصوت ثابت:
“لا بأس، فمن يسلك طريق الإيمان يواجه جميع أنواع التجارب.”
“يسرني أنك ترى الأمر بهذه البساطة.”
لكن ويسلي لم يترك الأمر يمر مرور الكرام. رفع حاجبًا متسائلًا وقال..
“لكن، قداستك… لماذا تعتبر مروري بهذه المحنة أمرًا يدعو للسرور؟”
سرت همهمات خفيفة في القاعة..
“لقد كنت أعتقد أن من استغلوا اسمكم لإدانتي هم ضالون، لكن…”
بدت الصدمة على وجه ويسلي وهو يكمل:
“هل يعني هذا أن كل ما حدث قد تم فعلًا تحت اسمك؟ وحتى تلفيق الأدلة لإدانتي؟”
عجز البابا عن الرد للحظة. ابتسمتُ، أشعر بالفخر بمهارات صديقي في الجدال..
لكن البابا سرعان ما استعاد هدوءه وقال بلطف:
“ما زلتَ مليئًا بالأسئلة كما كنتَ دائمًا. كنتُ فقط سعيدًا لأنك نجوتَ وأثبتتَ براءتك.”
لم يبدُ ويسلي مقتنعًا، لكنه استغل الفرصة ليضيف بنبرة ساخرة:
“إذن، هذا هو كل ما في الأمر؟ لقد سمعتُ الكثير من الشائعات الغريبة منذ وصولي من رياردن، حتى ظننتُ أن المعبد تخلى عني.”
تجهم البابا للحظة قبل أن يربّت على يد ويسلي مهدئًا.
“مستحيل، فأنت أول قديس حقيقي ظهر منذ أمد بعيد. لا يزال أمامك الكثير لتقدمه للمعبد والإمبراطورية.”
ثم التفت ببطء نحو الإمبراطور وقال بصوت عميق:
“إنه لأمر مؤسف أن يسبب سوء إدارة المعبد قلقًا للعائلة الإمبراطورية.”
بقي الإمبراطور متحفظًا، وقال ببرود..
“لا تزال المحاكمة جارية، وليس الوقت مناسبًا لمثل هذه الكلمات. ولكن…”
“نعم، جلالتك؟”
“هل تؤكد أنك لم تكن متورطًا في هذه القضية؟”
أطلق البابا تنهيدة ثقيلة وقال بنبرة متعبة..
“رغم لقبي العظيم، إلا أنني مجرد رجل مسن يقضي أيامه في أعماق المعبد، منتظرًا موته. حياة هادئة هي أقصى طموحاتي.”
كان يتحدث بأسلوب منمق، لكن جوهر كلامه كان بسيطًا: “لستُ على علم بأي شيء.”
بالطبع، لم يُدقق الإمبراطور في تلك الكلمات.
“أتفهّم. عندما تجلس في مثل هذا المقام، من الطبيعي ألا تعرف كل ما يفعله من هم أدنى منك.”
توقعتُ أن يلقي الإمبراطور بنظره نحونا وهو يقول ذلك، لكنه بشكل غير متوقع، التفت نحو المحظية الرابعة.
“أليس كذلك، أيتها المحظية الرابعة؟”
المحظية الرابعة، التي استُهدفت فجأة، ارتجف طرف خنصرها للحظة، ثم خفضت رأسها بأسى وبدأت تتحدث بتلعثم..
“…نعم. أنا على وجه الخصوص بليدة، وقد تسبّب إهمالي في إدارة من هم تحتي في إقلاق جلالتك كثيرًا.”
“أجل. آمل أن يكون منصب المحظية الرابعة، وهو أدنى مراتب الحريم، لا يُثقل كاهلك كثيرًا.”
“— ليس لي إلا أن أعتذر على إظهاري لهذا المشهد المخزي حتى الآن.”
ازدادت المحظية الرابعة تواضعًا وانكمشت أكثر..
بعد سماع إجابتها، نظر الإمبراطور للحظات إلى البابا، ثم تحدث مجددًا.
“حتى أنا أجد صعوبة في ضبط شؤون بيتي، لذا أتفهّم شعورك.”
“…الحاكم الذي منحك هذه المسؤولية سيتفهّم ذلك أيضًا.”
رغم ما حملته كلمات البابا من مسحة ارتباك، لم يُظهر الإمبراطور أي علامة على الرضا أو الامتنان، بل أمر بإحضار الكهنة الذين احتُجزوا لثلاثة أيام..
ثم طرح سؤالًا على البابا.
“هل تتمنى أن يكون المذنبون القادمون إلى قاعة العقاب بحالة سليمة، أم أن يصيبهم ضرر ما؟”
كان سؤالًا خبيثًا حقًا.
لو قال إنه يتمنى لهم السلامة، لكان ذلك بمثابة الدفاع عن أولئك الذين حاولوا إيذاء ويسلي ونحن..
ثم إنه بمجرد أن أعرب عن أمله في أن يحظى ويسلي بعناية الحاكم، فقد حدد مسبقًا أن أولئك الأشخاص لا علاقة لهم به.
لكن إن قال إنه يتمنى أن يكونوا متضررين، فسيكون ذلك بمثابة التشكيك في فريق الكهنة الذي أُرسل باسمه..
صحيح أن البابا كان يتصرف الآن وكأنه مجرد ناسك بلا قوة، لكن في النهاية، أي تحرك باسمه كان يستلزم ختمه.
وفريق الكهنة لم يتحرك إلا بعد التحقق من ذلك.
خاصة أن الكاهن العجوز كان من أقرب معاوني البابا، وهو أمر يعرفه كثيرون..
وفوق ذلك، كان هناك ما قاله الإمبراطور.
‘إن بقوا سالمين، فسيغض الطرف عن الأمر ويحافظ على علاقة ودية مع المعبد.’
كلمة “ودية” في ظاهرها تعني المصالحة، لكن باطنها أشبه بإعلان تسليم زمام الأمور للمعبد، مما جعل الرد أكثر صعوبة على البابا..
لا، في الحقيقة، لا بد أن البابا جاء إلى هنا متمنيًا أن يكونوا سالمين..
ولهذا قال لويسلي كلمات مثل “كم هذا مطمئن”.
لكن ويسلي التقط هذه النية بسرعة، مما جعله الآن في موقف حرج لا يستطيع الإجابة فيه بسهولة..
ساد صمت غريب بين الإمبراطور والبابا.
كان الجو داخل القاعة ثقيلاً ومشحونًا.
بعد لحظات، نطق البابا بصوت عميق، متظاهرًا بالحزن العميق..
“بالطبع، آمل أن يكون الحاكم قد أنزل حكمًا عادلًا.”
بالمقارنة مع الوقت الذي استغرقه في التفكير والجدية التي أظهرها، بدت كلماته في النهاية واهية للغاية..
بمعنى آخر، كان يعلن ببساطة أنه غير مسؤول عن النتيجة، وأنه سيقبل بها كيفما جاءت— تهرّب جبان من المسؤولية.
التعليقات لهذا الفصل " 140"