بمجرد أن رأينا محتوى البريد، تصلّبَت ملامحي أنا وكاسيان.
“هل هو المعبد؟”
لم أؤكد ولم أنفِ كلام كاسيان..
كان من المحتمل أن يكون المعبد، لكن لم يكن بالإمكان استبعاد احتمال أن يكون من فعل المحظية الرابعة أو عائلة المركيز جاموتي، خاصة أنهما كانا المتسببين في آخر محنتين متبقيتين..
لكن بدلًا من التكهن الآن،
“سنكتشف الأمر عندما نذهب.”
كان من الأفضل مواجهته مباشرة.
“…هل يجب أن نعيده سالمًا؟”
“أجل.”
بدت أمي هادئة حيال رحلتنا المفاجئة إلى رياردن، بينما كان باول فقط على وشك البكاء..
وذلك لأنني أخبرته أنني سأصطحب السحلية معي لبعض الوقت.
“فيا، أنا آسف. لم أكن قويًا بما يكفي لحمايتك من الساحرة…”
ارتسمت على وجه باول تيروديم ملامح حزينة، محفورةً في ذاكرتي كصورة مأساوية.
“فيا؟ يا له من اسم بلا مجهود حقًا.”
-لأننا التقينا في إقليم كلوبيا الحدودي، فقد أخذ الجزء الظريف فقط وقرر أن يناديني بـ “فيا”.
لكن، رغم ذوقه السيئ في اختيار الأسماء، بدا أن هذه السحلية قد أعجبت به، إذ كانت تضرب راحة يده بذيلها ردًّا عليه..
لم يكن لديّ اهتمام خاص بهذه اللحظة العاطفية، لذا علّقت بلا مبالاة في النهاية:
“راجعتُ السجلات والمستندات التي أعطيتني إياها ورتّبتها. تأكد من حل الأمور التي حددتها، وبعد ذلك…”
وبدأت في سرد قائمة من المهام بسرعة على باول وأمي.
في البداية، كان باول يكتفي بهز رأسه، لكن مع ازدياد طول القائمة، بدأت ملامحه تتجعد استياءً بوضوح..
“حقًا، أنتِ تستغلين الناس بلا رحمة!”
بالطبع، رغم تذمره، كان قادرًا على تدوين كل شيء بدقة، بفضل تدريبه الطويل..
كما هو متوقع، باول تيروديم كان عاملًا بالفطرة.
أما أمي، فبعد أن استمعت إلى كل شيء، سارعت بتوزيع الأوامر على الآخرين، ثم أرسلت لي ابتسامة وكأنها تخبرني ألا أقلق وأتابع طريقي..
بفضل ذلك، ورغم قصر مدة إقامتي، استطعت مغادرة إقليم كلوبيا الحدودي وأنا مطمئنة.
“ربما لن أتمكن من العودة حتى ينتهي كل شيء.”
وضعت في ذاكرتي تلك الوجوه الدافئة، وأخفيت عزيمتي في أعماقي..
***
“هل علينا الإسراع؟”
بينما ابتعدنا عن العرين، سألني فيا، تنين اللهب..
“كلما أسرعنا كان ذلك أفضل، بما أن الرسالة وصلت بهذه الطريقة.”
عندما أريت فيا البريد الإلكتروني، أومأ رأسه وكأنه فهم الأمر.
كنت آمل أن يكون قد استشعر شيئًا أثناء استنشاقه المتكرر، لكنه لم يخبرني بأي شيء محدد..
“لو أنهم على الأقل أرسلوا ردًا.”
بالطبع، كنت قد أرسلت بريدًا أطلب فيه أي معلومات إضافية، لكن لم يصلني أي رد..
عندما زممت شفتي بخيبة أمل، أخيرًا فتح فيا فمه.
“يبدو أن هذا كان أفضل ما يمكنهم فعله.”
“ماذا؟”
“يمكنني الشعور بآثار جهد مبذول بشدة.”
بما أنه تنين، فلا شك أنه كان يقول الحقيقة..
“إذًا، لم يكن هذا البريد نتيجة رؤية مستقبلية.”
لكن لا بد أن هناك وسيلة لمراقبة العاصمة أو المناطق الأخرى..
وإلا، لو كان لديهم الوقت، لكانوا أرسلوا تحذيرًا مسبقًا مثلما فعلوا مع قائمة المحن.
عندما حدّقت في فيا بصمت، أدرك التنين أفكاري وأكدها بتعبير متردد وصامت.
بعد أن أغلقت نافذة البريد، تذكرت شيئًا آخر قاله وسألت:
“بالمناسبة، هل لدينا طريقة للإسراع في الوصول؟”
لو لم تكن هناك وسيلة، لما طرح الموضوع أصلًا، أليس كذلك؟
عندما حدّقت فيه بتوقع، بدأ التنين الصغير يزحف بعيدًا عني ببطء، متسلقًا ظهر يد كاسيان وهو يقول:
-“نعم.”
‘إذًا، بدلًا من الإجابة بكل هذه الأريحية، عليك أن تساعدنا!’
عندما فكرت بذلك، تنهد فيا بعمق، ثم استخدم جسده الصغير بكل طاقته..
“آاااه!”
لم يمضِ وقت طويل حتى سُمع صرخة قصيرة من مقعد السائق..
وفي نفس اللحظة، تسارعت العربة بشكل ملحوظ.
“…السائق بخير، صحيح؟”
عند سؤالي، بدأ فيا يزحف ببطء على ذراع كاسيان مبررًا:
“بالطبع، لقد وضعت عليه حماية تنين مناسبة. هل تظنين حقًا أنني عاجز إلى هذا الحد؟”
“ألم تكن مساعدتك تقتصر على الأمور المادية فقط؟”
عند كلامي، أمال التنين الصغير رأسه مستغربًا..
“وهل هذا ليس أهم شيء بالنسبة لكِ؟”
“أغغ…”
عند سماع فيا يتحدث بهذه الجدية، حاول كاسيان كتم ضحكته..
عندما رمقته بنظرة احتجاج، استعاد تعابيره الجادة وكأنه لم يحدث شيء.
كان هذا مثيرًا للغيظ، لكن بدلًا من مجادلته، سألت فيا عن أمر آخر كنت أفكر فيه..
“بالمناسبة، الآن بعد أن غادرنا العرين، هل من الآمن أن تستخدم قوتك؟ ألم تقل سابقًا أن أداؤك ليس بكامل قوته؟”
لو أنه فقد السيطرة، فسيكون الوضع مزعجًا..
بالطبع، سيجد كاسيان طريقة للتعامل مع الأمر، لكن…
عند تفكيري بذلك، انكمش التنين الصغير أكثر.
“في العادة، كان سيكون ذلك صعبًا بهذا الجسد.”
وصل فيا إلى كتف كاسيان، ثم ربت على صدره الصلب..
“لكنه بخير بفضل الشيء الموجود هنا.”
“كنز رياردن؟”
“إن كان هذا اسمه، حسنًا. لكنه يبدو لي مليئًا بطاقة السيدة غايا.”
“إذًا، شيء شبيه بالجوهرة الأسطورية.”
عند تفكيري بذلك، أومأ فيا بصمت..
“لكن، هل أنتِ متأكدة أنكِ تريدين أخذي معكِ؟”
بدت نبرة صوته قلقة، وقد لفّ ذيله قليلًا حول جسده..
“بسبب المعبد؟”
أمال التنين الصغير رأسه بلطافة.
“هنا، يُعامل التنانين كوحوش يجب القضاء عليها. وبما أنني أعتمد على السحر، فهذا ليس خطأ تمامًا، لكن…”
رغم كلماته، بدا قلقًا عليّ أكثر من نفسه، لذا قررت أن أكون أكثر لطفًا معه..
“لا بأس، تنين اللهب أُعلن رسميًا عن اختفائه. وأيضًا…”
حتى لو كُشف أمره، كنت أعرف كيف أتعامل مع ذلك..
لا، في الواقع… أنا من الأساس—
-“أنتِ تفكرين في شيء خطير جدًا.”
قبل أن أكمل أفكاري، كشف فيا عن انزعاجه بوضوح..
مسحت رأسه الصغيرة بأطراف أصابعي برفق وقلت بابتسامة هادئة:
“أنا فقط أريد أن يحصل الجميع على ما يستحقونه.”
سواء كان ذلك مكافأة عادلة، أو معاملة منصفة…
أو عقابًا مستحقًا.
عندها، تمتم فيا وهو يحدق بي بنظرة مرتعبة قليلاً:
-“أخيرًا، بدأت أفهم لماذا يلقبك الناس بالشيطانة أو الساحرة.”
***
بصراحة، لو اعترفت بالأمر، فقد توقعت الأسوأ فقط أثناء رحلتنا إلى العاصمة..
سواء كان الأمر متعلقًا بدوقية جاموتي أو بالمعبد، فلا يمكن أن يكون هناك شيء جيد في انتظارنا، أليس كذلك؟
لكن عندما وصلت عربتنا إلى العاصمة—وكان الفارس الجالس في مقعد السائق قد شحب وجهه تمامًا—وجدنا شخصًا غير متوقع في استقبالنا..
“روز! لا أصدق أنكِ وصلتِ في التوقيت المثالي تمامًا!”
“ويسلي؟”
لم يكن سوى القديس ويسلي موريل.
تفاجأت لدرجة أنني ناديت اسمه دون التفكير في نظرات من حولي..
“أحم، يُخاطب بقداسته، القديس المحترم.”
عندها فقط، أبدى الكاهن المرافق له استياءه بوضوح..
لكن قبل أن أتمكن من تصحيح اللقب…
“لا تهتمي لكلامه، لقد أخبرته بعدم اللحاق بي لأنه يزعجني، لكنه أصرّ على المجيء.”
“قداسته يستحق الاحترام باعتباره قديسًا!”
“والشخص الذي أنقذني من مكان مرعب هي روز، فلماذا لا تحترمها أيضًا؟ ثم إن…”
نظر ويسلي إلى الكاهن بنظرة حادة قبل أن يتابع حديثه..
“أتمنى أيضًا أن تحترم إرادتي التي سمحت لها بمناداتي كما تشاء. منذ متى أصبحت الكنيسة وكهنتها والقديسون كيانًا يهيمن على الآخرين؟”
“ولكن، قداستك…”
“إذا كنتَ تعتزم الاعتراض، فهل عليّ تلاوة ما طلبت منكَ الاستعداد له مرة أخرى؟”
أخرج ويسلي كتابًا من معطفه وفتحه، ثم لوّح به أمام الكاهن..
“تحث جميع الكتب الدينية، على استخدام القوة في الخير وتجنب الظلم.”
عند سماع ذلك، ارتسمت على وجه الكاهن ملامح عدم الرضا..
لكن ويسلي لم يتردد حتى للحظة، واستمر في حديثه مباشرة.
“الحاكم أمر بالخدمة، وليس بالهيمنة. وإذا كان جهلي هو المشكلة، فهل يمكنكَ أن تبرز لي وثيقة دينية تدحض كلامي؟”
“…لا، لقد كنتُ متهورًا وأظهرت قلة احترام تجاه الدوقة الحدودية كلوبيا بسبب احترامي العميق لقداستك.”
ردّ الكاهن على مضض، ثم أومأ برأسه ناحيتي ليقدم اعتذارًا رسميًا..
أراد ويسلي أن يرد عليه بشيء آخر، لكنني منعته، إذ لم أرغب في الدخول في جدال لا طائل منه.
“بالمناسبة، ما سبب مجيئك؟”
“حسنًا، لقد أرسلتِ شيئًا غريبًا ومثيرًا للاهتمام، أليس كذلك؟ بدا لي كهدية رائعة جدًا، فلم أستطع الانتظار لرؤيتها شخصيًا.”
اقترب ويسلي مني وشبك ذراعه بذراعي كما كان يفعل في طفولتنا..
ألقى كاسيان نظرة غير راضية على ذلك، لكن ويسلي موريل كان قوي الإرادة لدرجة أنه لم يتأثر إطلاقًا.
“لذا، بمجرد أن منحني البابا الإذن بالتحقيق، اندفعت مباشرة إلى رياردن.”
“إلى هنا بدلًا من المنجم المهجور؟”
“كان علينا الحصول على الإذن أولًا، وعندما استفسرت من القصر الإمبراطوري، قيل لي إن المسؤول عن منطقة رياردن حاليًا هو الأمير كاسيان.”
تبادلت و كاسيان نظرات الدهشة..
“لكننا مجرد مشرفين على التفتيش، لا أكثر!”
ما الذي كان يفكر فيه جلالة الإمبراطور بالضبط؟
إذا نظرنا إلى الأمر ببساطة، فقد يكون مجرد تسليم مسؤولية كاسيان إليه، ولكن…
“لماذا أشعر وكأننا وُضعنا على المحك؟”
محكّ علني لصراع القوة مع الكنيسة..
لم أستطع منع نفسي من التفكير بهذه الطريقة.
فقد كان هناك ذلك البريد الإلكتروني من ماربيل…
‘لو لم يكن للأمر علاقة بالمحن، أو لو كان أمرًا إيجابيًا بالكامل، لما كانت لتطلب منا بهذه العجلة العودة الى رياردن، أليس كذلك؟’
وأتت كلمات ويسلي التالية لتؤكد شكوكي..
“لهذا السبب، من حسن الحظ أنكِ وصلتِ في الوقت المناسب تمامًا، روزليتا.”
“لماذا؟”
“لأنه إذا لم تكونا قد ظهرتما الليلة، لكان البابا قد اعتبر أن الحاكم قد تخلى عن هذه الأرض.”
التعليقات لهذا الفصل " 131"