-مر وقت طويل.
لم يكن الأمر مجرد كونه خارج نطاق العرين، بل رؤية ذلك المخلوق جالسًا على كتف باول كانت بحد ذاتها مشهدًا لا يُصدَّق.
والأدهى من ذلك، أنه تحدث بكل جرأة!
“…هل جننت؟”
هنا، وسط هذا الجمع من الناس؟
حتى لو كانت والدتي وصديقي معروفين بكتمان أسرارهم، لا يمكنني قول الشيء نفسه عن الجميع!
لكن، على غير المتوقع، الوحيدان اللذان تفاعلا مع كلماتي المرتبكة كانا باول وكاسيان..
“يا لكِ من فتاةٍ قاسية، روزي. هل تنوين مضايقة باول مجددًا؟”
قالت والدتي بمرح، وهي تضع يدها على وجهي بلطف..
“بالضبط! ما الذي فعلته لأستحق هذا؟! أول شيء تقولينه لي بعد قدومي هو الحديث بصيغة رسمية؟! هل هذه طريقتكِ الجديدة لتعذيبي؟!”
بينما كان باول يشكو، لم يكن ذهنه متوقفًا عن العمل، فقد بدأ بالفعل في تقليب صفحات التقرير الذي كان يحمله..
“… ألم تسمع شيئًا؟”
“ماذا؟ تقصدين عندما قلتِ إنني جننت؟ آه، بالفعل، لقد أوجعني ذلك! هل تعلمين أن الرحلة من تيروديم إلى هنا تستغرق أسبوعًا كاملًا بعربة؟ لم أتذمر سوى قليلًا، ومع ذلك—”
تجاهلتُ ثرثرته، ونظرتُ إلى كاسيان..
هو فقط مَن أومأ لي، وكأنه يؤكد أنه سمع أيضًا.
‘… هل سُمع صوته لنا فقط؟’
في اللحظة التي خطرت لي تلك الفكرة، عاد صوت السحلية مجددًا..
-أنا لستُ قليل الذوق إلى هذا الحد.
ما الذي تقصده بقولك “لستُ قليل الذوق”؟ لم تكن لديك هذه الصفة أصلًا!
-“ولكنني أيضًا لستُ من النوع الذي يجلب المتاعب لنفسه دون سبب.”
هل كانت هذه نتيجة قضائه وقتًا طويلًا على كتف باول؟ نبرة حديثه بدت مشابهة قليلًا…
على أي حال، كنتُ قد خططتُ بالفعل للبحث في العرين من أعلاه إلى أسفله للعثور عليه، لذا كان ظهوره الطوعي موضع ترحيب.
ولكن… يبدو أنني فكرتُ بصوتٍ عالٍ قليلًا عن طرق تحفيز العرين المختلفة التي ناقشتها مع كاسيان، لأن…
“… روز، هل بدأتِ تُرعبين السحالي أيضًا؟”
ارتعشت السحلية الحمراء، ثم انزلقت بسرعة إلى خلف رقبة باول، مختبئة هناك..
***
كان لدي الكثير من الأسئلة لأطرحها على تنين اللهب، لكنني لم أُقدم على الإمساك بذيله على الفور.
لو فعلتُ ذلك، واكتشف أحدهم أنه تنين، لكان ذلك صادمًا بالنسبة لباول..
‘لا يمكنني فقدان عامل ماهر لمجرد أمر كهذا.’
رغم تذمره المستمر، لم يكن هناك مَن هو أكثر أمانةً واجتهادًا منه. العثور على شخصٍ بمثل كفاءته أمرٌ صعب.
أضف إلى ذلك، أن باول، رغم مظهره العادي، لم يكن متغطرسًا أبدًا، وكان أحد القلائل من النبلاء الذين يعاملون الآخرين بلطف..
“على عكس ما سمعنا، يبدو أن مركيزة الحدود شخص كريم.”
“بالفعل، الجميع بذلوا جهدهم لتقليل الهدر قبل زيارتكِ، فاستمروا في تحسين الأمور حتى لا يُضيعوا أي موارد.”
بعبارةٍ أخرى، قضوا كل ذلك الوقت… في سبّي!
عندما نظرتُ إلى باول، ارتجف قليلاً.
“م-ماذا؟!”
“لا شيء، فقط فكرتُ أنك قمتَ بعملٍ جيد.”
سبّي لزيادة الكفاءة؟ خيارٌ مثالي.
التذمر من مسؤول لا يظهر كثيرًا؟ طريقة رائعة لتعزيز روح الفريق.
لكن على الأقل، لم يُحوّلوني إلى طاغية شرير.
بينما كان باول يُحدّق بي بقلق، بدا كاسيان مستاءً بعض الشيء وهو يساعدني في مراجعة السجلات..
“ما بكَ، إيان؟”
“أشعر وكأن نظراتكِ الجذابة لا تصل إليّ كما ينبغي.”
قال ذلك بنبرة خافتة، لكنها لم تفُت آذان باول، الذي أصبح وجهه شاحبًا على الفور وهو يلتفت إلى والدتي متوسلًا.
“… أريد العودة إلى تيروديم، سيدتي.”
“أوه، باول. لكن إن فعلتَ ذلك، فستُقلّص روز حصتكَ من الأرباح، أهذا مقبولٌ لديك؟”
والدتي، كما هو متوقع، قدمتْ له عزاءً عمليًا تمامًا..
عند سماعه ذلك، نظر باول إلى السجلات بين يديه، ثم إليّ، قبل أن يعود صامتًا إلى مقعده، متقبلًا مصيره.
امم، يبدو أن 8 سنوات من التدريب المكثف لم تذهب سُدى.
بينما كنتُ أراقب هذا المشهد، همس كاسيان لي:
“إنه أفضل من أي سكرتيرٍ في العاصمة.”
“ربما، لكن لو ذهب إلى العاصمة، لن يصمد حتى ثلاثة أشهر قبل أن يُصاب بحنينٍ قاتل لمسقط رأسه. باول يُحب تيروديم كثيرًا.”
وفوق ذلك، سكان تيروديم سيشعرون بالفراغ بدونه.
فقد كان نبيلهم الصغير الذي يرد على كل مزاحٍ بردود فعلٍ مضحكة.
لكن، بدلاً من أن يُحبط، بدا كاسيان مرتاحًا.
“… ألم تكن تُريد توظيفه؟”
“كنتُ أفكر في ذلك.”
اقترب مني أكثر وهمس:
“لكن إن كان قريبًا من مكتبكِ، فسيأخذ كل انتباهكِ.”
“… هل تغار من هذا أيضًا؟”
“قلتُ لكِ من قبل.”
“هذا مُزعج.”
أومأ برأسه وكأنه يعترف بذلك..
حقًا، إن كنتَ لا تريد إظهار هذا الجانب، فقط لا تُظهره..
“أنتَ حقًا غريب، إيان.”
“أعلم.”
“أنتَ دائمًا تُحاول إغوائي.”
“بالطبع.”
ورغم أنني كنتُ أنتقده، إلا أنه أقرّ بذلك بكل سرور.
عندما ضحكتُ من تفاهته، أشرق وجهه بسعادة..
أما باول…
“سيدتي، كم ستُقلّص روز من نسبتي؟”
“أوه، باول. بالتأكيد ستقتطع منها بوحشية الى حد ما كما تعلم، أليس كذلك؟”
ثم بدأ باول وأمي مناقشة حصة الأرباح بعناية، وسط ابتسامتي..
***
رغم بعض التذمر، إلا أن الأشخاص الذين أثق بهم أكثر من أي أحد آخر كانوا يؤدون عملهم بإتقان.
لم يكن هناك أي أثر لاختلاس، بل كانت حتى أدق التفاصيل الخاصة بالمصاريف مرفقة بالوثائق ومنظمة بشكل كامل.
كان من الواضح أن والدي، والكونت تيروديم، وكونتيسة تيروديم قد راجعوا الأمور وتناوبوا على الإشراف.
وعلى الرغم من تبدل المسؤولين عن الإدارة بانتظام، لم يكن هناك أي فجوات في السجلات..
ظهر بوضوح كيف أنهم، بعد سنوات من إدارة المنطقة معًا، أصبحوا يعملون بتناغم تام.
وبينما كنت أتأمل تلك الحقائق بإعجاب وأنا أراجع المستندات، شعرت بحركة تدل على وجود شخص آخر.
“ماذا هناك؟”
في وقت متأخر من الليل، لم يكن هناك في المكتب سوى كاسيان وأنا، إذ كنت قد أمرت الجميع بالراحة.
بالطبع، كنت منشغلة بمراجعة الأكوام المتراكمة من السجلات المالية خلال نصف العام الذي كنت فيه غائبة، محاوِلةً عدم إضاعة أي وقت..
حتى وأنا منغمسة في العمل، لم يكن بوسعي إلا أن أشعر بنظرات رئيسي.
وعندما لم يرد على سؤالي، رفعت رأسي لأجده يبتسم بلطف.
“أدركت أن أهل بلدك يحمونك بهذه الطريقة.”
“صحيح، أشعر بالاطمئنان لدرجة أنني لا أحتاج حتى إلى زيارة مركيزية الحدود هذه.”
عندما قررت البدء في توزيع المنتجات الثانوية للعرين، كنت قد وضعت بالفعل في الحسبان إشراك أهل بلدتي.
كان بإمكاني توظيف إحدى القوافل التجارية المناسبة، لكنني كنت أعلم أيضًا أن هذا يعني التغاضي عن أي اختلاس قد يحدث خلال العملية..
لذلك، منذ البداية، اخترت أشخاصًا أصحاب خبرة طويلة، لا مجال لديهم للانحراف عن العمل.
كنت واثقة من أنهم سيفهمون نوايا خطتي جيدًا، وينفذون المهام بإتقان، ويعوضون أي نواقص، مما جعلني أعتمد عليهم أكثر..
“حجم هذا القصر الإداري مناسب تمامًا لما توقعت.”
لو كنت قد وكلت شخصًا آخر بالبناء، لكان قد ركز فقط على لقبي كمركيزة حدودية، وأنشأ قصرًا ضخمًا أشبه ببيت ريفي فاخر.
لكن باول، رغم أن مخططي كان مختصرا جدًا ولا يتضمن سوى عبارة “بناء قصر إداري”، شيده بحجم مناسب تمامًا للأرض.
المبنى مكون من طابقين: في الطابق الأول، توجد قاعة مناسبة لإقامة الفعاليات المحلية، ومكتب إداري يسهل على الغرباء الدخول إليه، بالإضافة إلى أرشيفين.
أما الطابق الثاني، فيحتوي على أربع غرف نوم، لم تكن واسعة بشكل مبالغ فيه، بل أصغر حتى من غرف قصر بارونية ساليس.
“يبدو أن القرية تشكلت تدريجيًا حول مدخل العرين، وتم تصميمها بحيث يمر المدخل أمام القصر الإداري، مما يسهل عملية الإشراف.”
“هذا طبيعي، فهو مشروع ضخم حتى بالنسبة لعائلة تيروديم.”
وكما أوكلت إليهم العمل، تقاسمت معهم الأرباح بشكل عادل.
كان هذا هو السبب الأخير الذي جعلني أعهد إليهم بهذه المنطقة.
فرغم أن أوضاعهم كانت أفضل من عائلتي، لم تكن عائلة الكونت تيروديم ميسورة تمامًا.
لقد كان موسم القحط الذي شهدته في طفولتي كابوسًا، ولا شك أنهم عانوا منه أيضًا.
لذلك، كانت هذه فرصة عظيمة لهم.
كما أن والديّ، اللذين يتنقلان بين هذه المنطقة وبارونية ساليس، لم يعودا يشعران بالذنب من فكرة سداد الديون بثروتي الخاصة، مما جعل الأمر أفضل للجميع.
‘…أثق بوالديّ، لكنني أعلم جيدًا أن العطاء المجاني ليس دائمًا هو الخيار الصحيح.’
فالراحة والاعتماد المفرط على الآخرين قد يجعلان المرء غافلًا عن واقعه.
سرعان ما تخلصت من الأفكار القديمة التي راودتني.
على أي حال، لقد أصبحت في عالم مختلف تمامًا الآن.
وحينما هززت رأسي بخفة، أمسك كاسيان يدي برفق وقال:
“من الجيد أن أهل بلدك يدركون كم أنتِ طيبة.”
ابتسمت بدفء وأومأت موافقة..
“حقًا.”
كنت أعرف أكثر من أي شخص آخر كم من الصعب أن يتم الاعتراف بجميلك عندما تقدمه.
وربما لهذا السبب كنت أرغب في العيش في مكان مريح، أبحث فيه فقط عن السلام والبساطة.
‘حتى لو كنت مترددة، عليّ أن أؤدي واجبي.’
استندت للحظة إلى كاسيان، ثم اعتدلت وعدت إلى مراجعة السجلات.
رنين ضحكته الهادئة في أذني منحني الطمأنينة لأواصل عملي وأقلب الصفحة التالية.
***
بفضل الجهد الذي بذلته حتى وقت متأخر من الليل، تمكنت من إنهاء مراجعة السجلات بالكامل..
وفي اليوم التالي، عندما كنت أشرح النقاط التي تحتاج إلى تحسين، بدا كلٌّ من باول وأمي وكأنهما معتادان تمامًا على الأمر.
أما سكان الدوقية الذين يعملون هنا، فقد فتحوا أفواههم بدهشة كأن فكوكهم ستسقط أرضًا.
“أرأيتِ؟ لم أكن أكذب!”
باول، الذي بدا منتشيًا بذلك المشهد، تفاخر بفرح.
وبعد ذلك، قمنا بجولة في القرية قبل أن نتوجه إلى داخل العرين.
بما أن هذا اليوم كان يوم راحة من استخراج المنتجات الثانوية، كان العرين هادئًا للغاية.
لكن الأمر لم يكن مجرد هدوء…
مقارنة بآخر مرة رأيناه فيها، كانت ملامح العرين قد تغيرت كثيرًا.
حتى خام الأدامانت كان منتشرًا في أماكن أكثر مما كان عليه سابقًا، بل إن بعض المواقع التي استُخرج منها الخام سابقًا بدا وكأنها أفرزت كميات جديدة..
“…ألم تكن ستغادر؟”
سألتُ مدهوشة الكائن الذي قصدته بسؤالي.
وفي تلك اللحظة، تسلل إليّ سحلية صغيرة، رفرفت بجناحيها اللطيفين وتباهت بنفسها..
-بقيتُ لأن طاقتك لذيذة.
“ماذا؟”
-ما رأيك؟ أليس هذا المكان مثاليًا لك، أنتِ التي تعشقين المال؟
يبدو أن باول تيروديم قد أفسد طباع السحلية الأليفة بطريقة ما..
التعليقات لهذا الفصل " 127"