ذلك الاضطراب المعقد في داخلي هدأ قليلًا، مجرد مقدار ضئيل مثل ريشة، عندما سمعت كلمات باركر التالية..
“هل تتحدث عن الانتقام، أو إثبات البراءة؟”
“أجل، صحيح.”
عند إجابتي، هز باركر رأسه بهدوء..
“ما تركه سيد العائلة السابق لم يكن يتعلق بذلك.”
“إذن؟”
“قال إنه من الممكن أن تكون هذه الأشياء غير ضرورية لكي تكون سعيدًا، لكنها قد تكون مفيدة لك يومًا ما.”
بدت كلماته ناضجة بشكل لافت، وفكرتُ في ذلك فجأة..
“أعتقد أنكما تعرفان بالفعل ما حدث هنا حتى وصلت العائلة إلى شفا الانقراض، ربما حتى بتفاصيل أدق مما أستطيع قوله.”
لم ننطق أنا ولا كاسيان بأي رد، لا بالإيجاب ولا بالنفي.
كان هذا هو التصرف الصحيح.
حتى لو كان صحيحًا أننا، قبل القدوم إلى دوقية ريوردن، قمنا بمراجعة كل الوثائق المتعلقة بتلك الحقبة مرة أخرى، خشية أن يكون هناك شيء أغفلناه..
“نحن أيضًا شعرنا بالغضب عندما رحل سيد العائلة السابق، وعندما قيل لنا إنه لا ينبغي أن نجرؤ حتى على تسمية هذا المكان بدوقية رياردن.”
أخذ باركر نفسًا عميقًا، كان واضحًا بما يكفي لرؤية صدره يرتفع وينخفض..
“ولكن حتى لحظاته الأخيرة، كرر سيد العائلة السابق شيئًا واحدًا مرارًا: الغضب والرغبة في الانتقام لن تؤدي إلا إلى تآكلكم من الداخل. لم يكن يريد أن يحمل أحدٌ منا، ولا حتى الشاب السيد، ذلك العبء.”
“كيف يمكنه أن يقول ذلك…؟”
تمتم كاسيان، بينما أومأ باركر برأسه موافقًا..
“كان من الصعب علينا تقبل ذلك في البداية. لكن على ما يبدو، كان يخشى أن يضر ذلك بسكان الإقليم، وبالنهاية، أن يؤذيك أنت أيضًا، سيدي.”
للمرة الأولى، بدت ملامح وجهه وكأنها تحررت من حمل ثقيل..
لقد انتظر طويلًا هذه اللحظة، وكان ذلك واضحًا في نبرته وطريقته في الحديث.
“لكن هناك شيء واحد فقط…”
“ما هو؟”
“كان سيد العائلة يرى أن جهود والدتك لم تكتمل تمامًا، وهذا ما كان يؤسفه.”
“جهود أمي؟”
“للأسف، لا أعلم بالتحديد ما الذي كانت تعمل عليه. فأنا مجرد خادم، ولست مطلعًا على شؤون العائلة العميقة.”
لكن كاسيان لم يُظهر خيبة أمل، بل نظر إليه بعينين تعكسان تفهمًا هادئًا..
“ومع ذلك، فقد قال سيد العائلة إنه بفضلها، أصبح طريق السعادة متاحًا أمامك. لذا لم يكن ينوي الطمع بأكثر من ذلك.”
عند تلك الكلمات، شدّ كاسيان قبضته على يدي بقوة..
لقد كان محقًا…
المجيء إلى دوقية رياردن كان بالفعل القرار الصائب.
كل الحب العائلي الذي لم يحظَ به أبدًا في طفولته، كان لا يزال موجودًا هنا، محفوظًا من أجله..
***
بعد أن منحنا باركر الإذن بالتفتيش في الخزنة بكل راحة، سلّم المفتاح إلى كاسيان وخرج..
“لا تقلقا، سأحافظ هويتكما كمسافرين.”
كان كلامه يعكس ثقة حقيقية تليق بخادم دوقية سابق.
كما أخبر كاسيان أنه لن يواجه أي صعوبة عندما يفتح الخزنة مجددًا في المستقبل، على عكس اليوم..
بعد مغادرة باركر، ظللنا واقفين على مسافة بيننا.
الآن بعد أن انتهينا من الحديث، لم يكن هناك سوى فكرة واحدة تدور في رأسي: طبيعة عائلة رياردن الفيزيولوجية.
عبثتُ بلا هدف بالغلاف المزخرف لأحد الكتب القريبة، إذ لم أستطع بعد ترتيب أفكاري..
‘… لو لم أسمع فقط أن الدوق السابق كان يكره حتى أن يلمسه الآخرون.’
لو لم أسمع ذلك، لكنتُ ببساطة تجاهلت الأمر واعتبرته مجرد تلميح آخر مما قاله كاسيان سابقًا..
منذ وصولنا إلى العاصمة…
لا، منذ أن أنقذته لأول مرة، هل كان كاسيان يومًا ما يتجنب لمسي؟
‘عندما كان صغيرًا، لم يكن قد اختار شريكًا بعد، لذا ربما لم يكن الأمر مهمًا آنذاك…؟’
غارقة في تلك الأفكار، لم ألحظ اقتراب كاسيان حتى تحدث فجأة:
“هل تريدين ذلك الكتاب؟”
“… لا.”
كنت فقط أشعر بالحرج، فعبثتُ بأي شيء قريب..
“حسنًا، فبالنسبة لروز، المساعدة النزيهة، فهذا كله مجرد ممتلكات غير مُستردة.”
“يا لك من شخص بارد القلب حقًا. أي ممتلكات لم يعثر عليها فريق التفتيش ليست ضمن القائمة بعد فترة زمنية محددة. في النهاية، لا أفتقر إلى الحس بالوضع الحالي. كيف تراك تنظر إليَّ؟!”
استدرت نحوه بحنق، لكنني تجمدت فجأة عند رؤية وجهه..
“لماذا… لماذا وجهك يبدو هكذا؟”
“…لأنني لا أستطيع التحكم في الأمر؟”
“ماذا؟!”
ألم يكن كاسيان آرتيز رمزًا للتحكم الذاتي..؟
لكن وجهه الآن بدا… خجولًا.
لدرجة أنني شعرت بالخجل بدوري.
رغم أنه كان من بدأ الحديث، فقد غطى وجهه بيديه، ثم جلس على الأرض فجأة، كأنه استنفد كل شجاعته.
ثم همس بصوت بالكاد يُسمع:
“… آسف.”
“ماذا؟”
“لم أكن أعلم، روز.”
لكن هذا يعني أنه يعترف بكل ما قاله لباركر قبل قليل..
حتى لو كنت قد حاولت التغاضي عن الأمر، فقد أصبح من المستحيل تجاهله الآن..
“… لم أرغب أبدًا في أن تكتشفي الأمر بهذه الطريقة.”
كلماته زادتني ارتباكًا..
لم يكن مجرد الشعور المفاجئ هو ما أربكني.
فهو لطالما كان يخفي عني مشاعره الحقيقية.
كان دائمًا هو من يتراجع خطوة عندما كنت أحاول الاقتراب..
لكن الآن، فهمت السبب.
كان يريد أن يخبرني بالأمر بطريقته الخاصة، وبإيقاعه الخاص..
كما أنني أعرفه جيدًا، فهو أيضًا يعرفني جيدًا.
لقد أدرك أنني قد أجد مشاعره مخيفة، كأنها قدر لا مفر منه..
لكني لم أكن بلا ذنب أيضًا.
فأنا من أبقيت الأمر ضمن حدود “الخطوبة العقدية”.
كنا نتجاهل الأمر معًا، ولم يكن أحدنا وحده مسؤولًا عن ذلك..
لذلك، لم أرغب في الهروب من هذه الحقيقة.
لكن كاسيان…
“لكن الآن عرفتِ، وبطريقة ثقيلة جدًا… أنا آسف لإلقاء هذا العبء عليكِ.”
كان يتصرف كما لو أن مشاعره كانت خطيئة..
“هذا ليس شيئًا تعتذر عليه.”
شعرت بالغضب من كلماته..
سواء قبلت مشاعره أم لا، لم يكن هذا هو المهم.
لقد عبر عن مشاعره فقط ضمن الحدود التي سمحتُ بها له.
لو كنت قد رفضت أي تقارب منه، لما كان ليتجاوز تلك الحدود، حتى لو كان ذلك مجرد تحية رسمية في المجتمع الأرستقراطي..
كنت أعرف جيدًا مدى حذره الشديد معي.
لقد تظاهرنا بأننا عاشقان، وزوجان، وخطيبان.
كنت أنا من منحته هذا القرب، ومن قررت الإبقاء عليه.
كان وحيدًا منذ طفولته، وكان من الطبيعي أن يحمل مشاعر تجاه شخص ما..
لكن كاسيان آرتيز كان يعتذر لي لأنه وقع في حبي.
لأنه جعلني أعرف مشاعره دون استعداد مسبق، ولأنه كان يخشى أن يكون عبئًا علي بسبب طبيعته الفطرية..
كان يعتبر كل ذلك جريمة.
“لماذا هذه هي أول كلمة تقولها؟”
“روز…”
نظر إليَّ بقلق، متوترًا من تعابيري الغاضبة.
“هل أنتِ غاضبة؟”
“ليس منك!”
خرجت كلماتي بحدة..
تذكرتُ طفولته، عندما كان يتأرجح على حافة الموت مرارًا وتكرارًا..
لم أكن أبالي بما إذا كان الإمبراطور والإمبراطورة قد تبادلا الحب أم لا.
على الأقل، كان لديهما خيار، وكان لديهما وقت ليُحبا.
أما كاسيان آرتيز… فلم يكن لديه أي شيء.
ورغم ذلك، كان يعتذر لي لمجرد أنه وقع في حبي.
كان هذا الظلم كله مستفزًا للغاية.
لقد أمضى حياته في قراءة الآخرين، والتكيف مع توقعاتهم، وقمع مشاعره حتى لم يستطع إخفاءها بعد الآن..
وفي النهاية، بدلاً من التعبير عن حبه، اختار الاعتذار.
كأنه لا يملك حتى الحق في الشعور بشيء.
“فقط قلها.”
نظرت إليه بحزم..
“ليس اعتذارًا، بل ما تريده حقًا أن تقول.”
لا تخف من كوني عبئًا عليك..
من هنا تبدأ الأمور..
حتى أتمكن من رفضك، أو التفكير في الأمر، أو ربما حتى قبولك..
لماذا تحرم نفسك حتى من فرصة قولها، وتحرمُني من فرصة التفكير بها؟
اتسعت عيناه بدهشة..
بدا وكأن كل مخاوفه الثقيلة قد جرفتْها كلماتي الغاضبة.
“….”
وسرعان ما حلَّت تلك المشاعر الصادقة، الخجولة، التي جعلت الأجواء تنضج بشيء لم يكن بيننا من قبل..
نظر إليّ، ثم احمر طرف أذنيه، وعجز عن مواجهتي مباشرة عندما نطق أخيرًا:
“أحبكِ، روز.”
لم يُحاول حتى إخفاء ارتعاش صوته، وسمح لي برؤية كل تردده بوضوح..
“أنا أحبكِ كثيرًا، روز.”
عندما كررها، بدا وكأنه استجمع كل شجاعته ليواجهني أخيرًا..
لم يكن ذلك كاسيان آرتيز المثالي، الماكر، القاسي.
بل كان كاسيان الذي كشف لي عن نفسه بكل ضعفه وخوفه، وكأنه مستعد ليكون صادقًا تمامًا معي..
كأن كل التقارب الذي كان بيننا حتى الآن لم يكن سوى كذبة.
والآن، للمرة الأولى، كان ينظر إليّ مباشرة ليخبرني الحقيقة.
────── •❆• ──────
كمية المشاعر فالفصل 😭🫂 كم لبثناااا
التعليقات لهذا الفصل " 124"