“ابقي هادئة، روز.”
في لحظة، سحبني كاسيان بين ذراعيه وأخفى جسدينا في زاوية من أعلى الدرج، بعيدًا عن الأنظار، بعدما شعر فجأة بوجود أشخاص في المكان..
كما لو أن الماضي بدأ يتجلى أمامنا، بدأنا نرى الخدم منشغلين في أنحاء القصر..
وسط الضوضاء، كان هناك صوت معين جذب انتباهي أكثر من أي شيء آخر.
كان صوت رجل، وصوت امرأة شابة لا تزال تحمل نبرة طفولية بعض الشيء.
“يبدو أنه صوت السيدة ماربيل.”
عندما همست بذلك، أومأ كاسيان بالموافقة، ثم شدّني برفق واقتادني إلى مكان أفضل حيث يمكننا سماع المحادثة بوضوح، متجنبًا الخدم الذين يتحركون في القصر..
في كل مرة يحدث شيء كهذا، أدرك أنني لا أستطيع تقليد رشاقته في التحرك.
أخيرًا، وجدنا موقعًا مناسبًا في شرفة الغرفة المجاورة حيث يمكننا الاستماع بوضوح.
ظل كاسيان ممسكًا بي، مختبئًا خلف أصيص زهور كبير، حابسًا أنفاسه..
بمجرد أن بدأت أعتاد على الوضع، أصبحت الكلمات أكثر وضوحًا.
“أعرف أنك تعارض ذلك، أبي، لكن…”
“ماربيل، قد يكون ذلك خطيرًا عليكِ.”
تنهد الرجل، دوق رياردن السابق، بعمق..
“ليس الأمر أنني لا أريده… إنه الشخص الأقرب إلى العرش، وقد تطوع ليكون مرافقكِ في حفل ظهورك الأول…”
كان صوته مليئًا بالقلق.
“ألا تعتقدين أنني أيضًا أرغب في أن تحظي بحفل ظهور أول رائع في العاصمة كأي سيدة نبيلة؟ حتى جلالة الإمبراطورة، رغم أنها لم تلتقِ بكِ بعد، تبدي اهتمامًا كبيرًا بكِ.”
عبر باب الغرفة المفتوح جزئيًا، رأيت صندوقًا مرصعًا بالجواهر، منحوتًا عليه شعار مألوف..
من خلال ذلك وكلام الدوق، أدركت أن الإمبراطورة قد أهدت ماربيل المجوهرات لحفل تقديمها.
“أنا آسفة حقًا، لقد حاولت ثني الأمير ارنست عن ذلك، لكن…”
“لستُ أطلب منكِ الاعتذار، ماربيل. الآن بعد أن أصبح الأمر بهذا الحجم، تدركين أن رفض دعوة الإمبراطورية لحفل الظهور قد يعرّض العائلة للخطر، أليس كذلك؟”
“….”
بينما كانت ماربيل تتلوى قلقًا، لم يكن في صوت الدوق أي نبرة غضب..
كان كل ما فيه هو القلق الصادق.
“هذه أمور تافهة، ماربيل. يمكننا الاعتذار ودفع غرامة، حتى لو غضبت الإمبراطورية منا، لا أخشى ذلك.”
تنفس الدوق ببطء..
“ما يخيفني حقًا هو أن تتأذي. أنتِ تعرفين الآن ما هو سر عائلتنا.”
“أعلم، أبي. لهذا كنت أعتقد أن قدري هو أن أبقى في رياردن.”
ركعت ماربيل أمام والدها، وعينا الدوق اتجهتا نحوها.
“لكن بدأت أشعر بأن هذا ليس صحيحًا. جدتي كانت تقول لي دائمًا ألا أتجاهل حدسي.”
“ماربيل…”
نظر الدوق إلى ابنته بصمت، ثم رفع يده ليُربّت على رأسها برفق..
“لكن هل لديكِ يقين كامل؟ هل أنتِ متأكدة تمامًا؟”
ابتسمت ماربيل بابتسامة حزينة.
“أنت تعرف سبب تصرفات الإمبراطورة. أريد أن أكون عونًا للأمير ارنست.”
“هل تحبينه إلى هذا الحد؟”
بعد لحظة صمت، سأل الدوق بصوت مثقل بالهم.
“إلى درجة أنكِ مستعدة لتحمل كل هذا؟”
“نعم. لقد رفضته عدة مرات، لكنه كان يتوسل إليّ فقط لأبقى بجانبه. أنا لم أعد…”
أسندت ماربيل رأسها على ركبة والدها.
“لم أعد أستطيع رفضه. سأبذل قصارى جهدي، لذا أرجوك ثق بي. جدتي قالت إنني أقوى فتاة وُلدت في عائلة رياردن.”
تنهد الدوق، متأثرًا بمزيج من عناد ابنته وحنانها..
“كان يجب أن أرفض زيارة الأمير ارنست إلى الدوقية…”
لكننا جميعًا أدركنا من نظرة الدوق أنه لن يستطيع الوقوف في وجه ابنته..
‘ما هو سر سيدات رياردن، إذًا؟’
ما الذي يجعل حتى مجرد الذهاب إلى العاصمة لحضور حفل الظهور الأول قرارًا يستدعي هذا التردد؟
بينما كنت غارقة في التفكير، نظرتُ دون وعي إلى ماربيل مباشرةً..
في تلك اللحظة، التقت نظراتنا.
اتسعت عيناها من الصدمة، ورفعت رأسها بسرعة.
ثم، مع هبة ريح قوية، تغير الجو من حولنا مرة أخرى.
***
“… هل عدنا؟”
“لا.”
بينما كان كاسيان يحميني، بدا عليه الانتباه إلى التغيير الطفيف في ترتيب الأثاث، قبل أن يغيّر وضعه..
ولم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى أدركت أن كلماته كانت صحيحة.
“أحضروا المزيد من الماء المثلج! يمكنكم إفراغ كل ما في المخزن!”
“تم تجهيز الدواء بالكامل!”
على عكس الجوّ المتوتر الذي كان يخيّم على حديث الأب وابنته قبل لحظات، بدا القصر الآن وكأنه انقلب رأسًا على عقب..
ففي كل زاوية، انتشرت رائحة الأعشاب، وعمّ الاضطراب بين الخدم الذين كانوا يهرعون في كل الاتجاهات.
“ماربيل، يا صغيرتي!”
علا صوت امرأة مذعورة..
“ألم تقل لي إنه سيكون بخير؟ ألم تقل ذلك، أنت؟!”
من خلال طريقة تعاملها مع دوق ريوردن، ووجهها الذي يشبه ماربيل، لم يكن من الصعب استنتاج أنها كانت دوقة رياردن.
كانت تهتزّ من شدة الاضطراب، بينما تضرب صدر زوجها بقبضتيها المرتعشتين..
“لهذا السبب… لهذا السبب كنت مترددة في السماح لها بالذهاب! فلماذا ابنتي؟!”
“… أنا آسف، دوقة.”
وبينما كانت منهمكة في لوم زوجها، دخل إلى مجال رؤيتنا رجلٌ كان يقف برأس منكّس..
الإمبراطور إرنست أرتيز، لكن مظهره كان يبدو أصغر سنًا مما رأيته من قبل..
لم تستطع الدوقة إخفاء نظراتها المليئة باللوم نحوه.
“لهذا السبب… لهذا السبب قلت لكم مرارًا ألا تضعها في قلبك! إنها ضعيفة، لا تتحمّل ذلك، جلالتك!”
كان وجه الدوقة شاحبًا، وكأنها على وشك الإغماء، ومع ذلك، كان صوتها مشحونًا بالغضب..
“لماذا؟! لماذا؟! لماذا على ابنتي أن تخاطر بحياتها من أجل حبّ عابر؟! مع أنك لا تستطيع حتى أن تحبها إلى ذلك الحد!”
“سمو الدوقة…”
وقف إرنست بلا حول ولا قوة، كما لو كان عاجزًا عن تبرير نفسه مهما قال..
لم يستطع سوى التمتمة بكلمات اعتذار هامسة..
“لقد أقسمت… أقسمت أنك ستحميها، وأنك لن تدع… أي شيء يقترب منها أبداً…!”
حتى وسط انفعالها، ابتلعت الدوقة الكلمات التي قد تكون خطيرة، لأنها كانت تدرك أن قولها بصوت عالٍ قد يعرّض ابنتها للخطر أكثر..
لكن الصخب هدأ أخيرًا عندما نادت ماربيل والدتها بصوت ضعيف، بالكاد استعادت وعيها..
“لا تلومي جلالته كثيرًا، أمي…”
“ابنتي العزيزة، ماربيل…”
“إن سقطتِ أنتِ الآن، فسأكون أكثر حزنًا.”
بينما كانت الدوقة تنظر إلى ابنتها التي تتحدث بصعوبة، لم تستطع سوى أن تهزّ رأسها بصمت، بينما انهمرت دموعها بلا توقف..
وفي أثناء صمتنا، غرق العالم في السواد.
وكأن الليل يخبرنا أن الوقت قد مضى.
عندما نام معظم سكان القصر، تسلّل صوت حديث من غرفة ماربيل..
“حقًا… جلالته لم يكن مخطئًا، أبي.”
“ماربيل، ألا تظنين أنه من الأفضل إعادة التفكير في الأمر الآن؟”
“أنا واثقة، أبي. كنت بخير طوال الحفل، لكن فجأة… اقترحت الإمبراطورة الثانية أن أحصل على مباركة الكاهن الأعلى، لأنني سأدخل القصر الإمبراطوري…”
“… وأنتِ تعلمين أن تلك المباركة سُمٌّ لكِ.”
مباركة الكاهن كانت سُمًّا؟
بينما كنتُ أُحاول استيعاب ذلك، واصلت ماربيل حديثها.
“أعلم، لكن هذا كان خياري.”
رفعت ماربيل يدها المرتجفة، وأمسكت بيد والدها.
“لقد صمدتُ جيدًا، لم يكن ذلك خطأ إرنست. كانت جلسة خاصة بالنساء فقط، ولم أكن أتوقع حدوث ذلك أيضًا.”
لكن حتى مع هدوء كلماتها، لم يزُل التجهم عن وجه الدوق رياردن..
وفي تلك اللحظة، خطرت لي ولِكاسيان فكرة مفاجئة—
“… وهذا هو الفشل في حمايتكِ، ماربيل. جلالته لن يتمكّن من حمايتكِ حتى في المستقبل.”
نطق دوق رياردن بحزم..
“لقد أقسم على حمايتكِ مهما حدث. ومع ذلك، لم يستطع حمايتكِ حتى لثلاثة أيام في العاصمة، يا ابنتي.”
“أبي…”
على الرغم من أن ماربيل بدت وكأنها تُطمئن والدها، إلا أنني وكاسيان، اللذان كنا نعرف النهاية، لم نتمكّن من التخلص من الشعور الثقيل الذي اجتاح قلوبنا..
“لديّ رغباتي أيضًا، أبي. تمامًا كما احتاج إرنست إلى اسم عائلة رياردن ليصل إلى العرش.”
ربّتت ماربيل على يد والدها بلطف.
“من أجل عائلة رياردن، أريد أن أستخدم سموه لصالحنا.”
رغم أن صوتها كان مرتعشًا، إلا أن العزم فيه كان واضحًا.
تأمّل الدوق عينيها لفترة طويلة، وكأنه يقرأ إرادتها المحفورة فيها، قبل أن ينطق بصعوبة:
“… هل هذا هو قراركِ، بصفتك وريثة دوقية رياردن؟”
أومأت ماربيل برأسها بصمت..
“لقد ضحّت رياردن كثيرًا حتى الآن. لكن هذه المسألة ليست مجرد شأن خاص بنا. لا أريد أن أجعل أراضي رياردن قبري.”
“… لماذا تريدين أن تتحمّلي هذا العبء الثقيل؟”
“لأنني أريد حماية من أحب.”
شعرتُ أن كلمات ماربيل تحمل ثقلًا أكبر مما تبدو عليه، وكأنها ضغطت على كتفيّ..
شدّ كاسيان ذراعيّ إليه بقوة أكبر.
“أريد حماية أبي، وأمي، وأهل أراضي رياردن أيضًا.”
“وهل يشمل ذلك جلالته؟”
عند سؤال الدوق رياردن الذي بدا كأنه يُعاتب، ابتسمت ماربيل بهدوء..
“إنه سر، لكنه لا يأتي إلا بعدهم جميعًا.”
“… إذن أنتِ تستغلّينه؟”
“نعم. أعتقد أن هذه أفضل فرصة لرياردن كي تتحرّر أخيرًا من قيدها. لنكشف للعالم أن التنانين ليست كائنات نجسة، ولنُظهر التضحيات التي قدّمناها، ونُصحّح كل شيء قبل أن يفوت الأوان.”
أمسكت ماربيل بيد والدها بإحكام..
“لذا، أعطني القوة، كي أتمكّن من الصمود في العاصمة. كي أواجه المعبد—”
التعليقات لهذا الفصل " 120"