لم تستمر المحادثة في ذلك اليوم في المطعم طويلًا، إذ اقترب النادل وسألنا بلطف: “هل الطعام على مذاقكم؟”، مما أنهى الحديث عند ذلك الحد..
في النهاية، كان الموضوع متعلقًا بوالدة كاسيان، ولم أرغب في أن أكون غير لبقة وأغرق في الحديث الجاد طوال الوقت.
لذا، أجلتُ النقاش الجاد لبعض الوقت، وملأت الأمسية بالحديث عن المناظر المسائية والأشياء الجميلة التي رأيتها خلال رحلتي عبر أراضي رياردن..
بقينا صامتين حتى عدنا إلى النُزل، ولم أكن أنوي إعادة فتح الموضوع مع كاسيان.
لكن يبدو أنه شاركني فضولي، إذ سلّمني يوميات ماربيل عند عودتنا.
“لماذا توقفتِ عن قرائتها؟”
“ظننتُ أن الأمر يزعجك.”
“لا يمكن أن يكون كذلك.”
قالها وهو يجلس بجانبي على الأريكة بعد الاستحمام، شعره لا يزال رطبًا، وبدأ بتجفيف شعري بلطف..
“كنتُ فقط أريد قضاء وقت العشاء مع روز، لذا أجلتُ الحديث قليلًا.”
“وأيضًا لترتيب أفكارك؟”
“نعم.”
ابتسم وهو يحرص على تجفيف أطراف شعره تمامًا، وبدا هادئًا، مما أشعرني ببعض الراحة.
“هل كنتِ قلقة؟”
“نعم، شعرتُ أنني كنتُ أدفعكَ بقسوة إلى الحديث.”
“مع أنكِ تعلمين أنني لستُ ضعيفًا إلى هذا الحد؟”
شخصيتك الآن ليست كما كنتَ عليها في الأصل، بل تأثرت بما قلته لك عندما كنا صغارًا، أليس كذلك؟
بينما كنتُ أتأمل ذلك بصمت، مدّ يده بعد أن وضع المنشفة جانبًا..
وضعتُ يدي فوق يده بعفوية، فأمسكها بلطف وابتسم.
“أنا أيضًا، روز. أريد أن أعرف المزيد عن والدتي. كل ما فعلتِه هو أنكِ رتّبتِ لي الأسئلة التي كنتُ سأطرحها بنفسي.”
“إيان، أنت كريم جدًا معي.”
“لأنها أنتِ.”
تشابكت أصابعه مع أصابعي..
“لأنكِ الشخص الذي يحق له التدخل في حياتي بهذا القدر.”
خفق قلبي بشدة..
كان يمكنني اعتبار كلماته مجرد مزاح كعادته، مجرد محاولة أخرى لإرباكي، لكن…
لم أشعر أن كلماته كانت فقط من منطلق كوني مساعدته.
كنتُ أعرف نظراته المتغيرة منذ وقت طويل، لذا حدّقتُ فيه بصمت..
لم يشيح بنظره عني، بل راقبني بهدوء قبل أن يتحدث بصوت منخفض..
“ألن تسأليني إن كنتُ أمزح؟”
في صوته مسحة توتر خفيفة، فأجبتُ دون وعي.
“هل تودّ أن أفعل؟”
تحوّل نظره بعيدًا للحظة، ثم ظهر في عينيه أثر مرارة..
“الآن… نعم.”
أوقفني ذلك عن التفكير للحظة، ثم قلت كما أراد.
“هل كنتَ تمزح معي؟”
ارتسمت ابتسامة طفيفة على شفتيه، مزيج من خيبة الأمل والارتياح..
“لا.”
لكن… يبدو وكأنه يمزح..
قطّبتُ حاجبيَّ قليلًا، فما كان منه إلا أن أمسك بيدي وقبّل ظهرها.
“أنا جاد.”
كنتُ أظن أن هناك بعض المشاكسة في كلماته، لكن صوته كان يحمل ثقلًا غير مألوف..
“لذلك، في هذا العقل الذي يشغله العمل دومًا…”
تحرّكت شفتاه للأعلى، تاركة أثرها قرب المخطوطة الملفوفة حول معصمي..
كأنه يطلب مني أن أشاركه ثقلها، كأنه يرفض أن أبعده.
وسط هذا الجو بدا وكأن الزمن قد توقف فيه، حدّق فيّ بنظرة ثاقبة..
“اتركي لي بعض الألغاز أيضًا.”
بهذه الطريقة، ستجدين الدافع لاكتشافي.
رغم أنه بدا جادًا طوال الوقت، إلا أن هذه العبارة حملت بعض المرح، مما ولّد في داخلي شعورًا غامضًا.
كأنه يمنحني، بطريقة متناقضة، فرصة للهروب إن أردت.
هو أيضًا من أعاد ترتيب أفكاري بعدما امتلأ رأسي بتصرفاته الغريبة..
“لكن، روز، لا بأس الآن إن تراجعتُ في أولوياتكِ قليلًا.”
“…ماذا؟”
“لذا، احرصي على حل فضولكِ أولًا.”
فتح مذكرات ماربيل أمامي، وكأنه يذكرني بما كنا نتحدث عنه في الأصل.
“لأنني أنا أيضًا أريد معرفة سر والدتي.”
مبرر منطقي مرفق مع عرضه.
وكأنه يقول لي: إذا كنتِ ستغوصين في داخلي، فافعلي ذلك لاحقًا، عندما تكونين مستعدة حقًا.
لذا، وكأنني استسلمتُ للأمر، حولتُ نظري إلى المذكرات.
كنتُ أعلم أن كاسيان قال ذلك لأنه يعرفني جيدًا..
فلا شيء كان أكثر أهمية لي في هذه اللحظة من حل لغز المخطوطة.
“-إيان، أنت تطلب مني الكثير حقًا.”
لماذا لا يقول لي بصراحة ما يريده؟
عندما تذمرتُ، جذبني إليه فجأة، وأحاط خصرى بذراعيه بقوة.
“أعلم، لكن هكذا فقط سأتأكد من أنكِ لن تهربي.”
هل يقصد أنه لو قالها الآن، فسأهرب؟
هل يظن حقًا أنني شخص يفتقر إلى المسؤولية إلى هذا الحد؟
كلامه كان مثيرًا للسخرية لدرجة أنني ارتعشت قليلًا، فما كان منه إلا أن ضحك بخفوت، ثم أعاد تركيز انتباهه.
“بعد أن تنتهي من قراءة المذكرات، سأخذكِ إلى القصر.”
مع إلقائه لهذا الطُعم المغري الذي لا يمكنني رفضه ببساطة.
***
نظرًا لأن مذكرات ماربيل كُتبت في سنوات مراهقتها، فقد كانت تحتوي على قدرٍ لا بأس به من الصفحات..
كانت تُزينها أحيانًا بزهور أو أوراق شجر مجففة، بل وألصقت فيها رسائل قصيرة تلقتها من أشخاص مختلفين.
بفضل ذلك، انغمستُ في قراءتها، ولم أتمكن من النوم حتى وقت متأخر..
“يجب أن تنامي الآن، روز.”
“لحظة واحدة، إيان…! آه!”
في النهاية، اقتحم كاسيان الغرفة، وأسقطني على السرير بالقوة، ثم غطاني بالبطانية بالكامل..
لكن حتى ذلك لم يمنعني من مواصلة القراءة حتى ساعات الصباح.
“أنتِ حقًا لا تستمعين عندما يُطلب منكِ أن ترتاحي.”
نقر بلسانه بإحباط، لكنه لم يحاول إيقافي.
بدلًا من ذلك، جلس بجواري في صمت، يراجع دليل النبلاء السنوي وسجل نسب عائلة رياردن حتى أنهيتُ القراءة..
كان هذان الكتابان من إعارة السيد باركر، مدير النُزل.
بمجرد أن أبدى كاسيان اهتمامًا، سارع باركر بحماس إلى تقديمهما، مؤكدًا على أهميتهما كمراجع أساسية..
“إن أردتم فهم أراضي رياردن جيدًا، فعليكم بالتأكيد الاطلاع على تاريخ عائلتها الحاكمة!”
ربما كانت مشاعر باركر تجاه عائلة رياردن لا تقل عن مشاعر كاسيان نفسه؟
بعد قضاء صباح هادئ، أخيرًا فتحتُ المخطوطة التي كانت تشعر بوجودها بقوة طوال الوقت..
لم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها مذكرات ماربيل، لكن على عكس المرة السابقة حين كنا نخطط لرحلتنا في أراضي رياردن، هذه المرة قرأتها بعناية أكبر.
ولذلك، منذ لحظة معينة، بدأت المخطوطة وكأنها تطلب انتباهي، إذ ازدادت حرارتها شيئًا فشيئًا..
ظننتُ أن أول ما سيظهر لي بمجرد فتحها سيكون قصص جيل الآباء لكن…
{- إعدادات روزي الأساسية.xlsx
عائلة دوقية رياردن: السبب وراء XX المعبد،
ذلك لأن العائلة الدوقية… القديسة…
والساحر…}
ظهرت هذه المعلومة فجأة من إعدادات العالم.
‘قديسة، ساحر، معبد… كلها كلمات رئيسية ثقيلة.’
كل واحدة منها تبدو وكأنها جزء من الغموض الأعظم لهذا العالم، ومع ذلك، كيف يمكن أن تكون جميعها مرتبطة بعائلة دوقية رياردن؟
حتى كاسيان، الذي كان يقرأ المخطوطة معي، بدا مذهولًا تمامًا..
“يبدو أن والدتي كانت شخصية أعظم مما كنت أتخيل.”
“حقًا، يبدو أن لهذا علاقة بحقيقة أن سيدات عائلة رياردن لم يغادرن حدود الأراضي الدوقية أبدًا، أليس كذلك؟”
عند سؤالي، وضع كاسيان الكتابين اللذين كان يحملهما جانبًا وأومأ برأسه، وكأنه يؤكد صحة ما قلته..
لقد تحقق بنفسه من أن سيدات عائلة رياردن لم يسبق لهن مغادرة الأراضي الدوقية مطلقًا..
“بينما كان هناك العديد من أبناء الدوقية الذكور الذين غادروا في زيجات سياسية.”
“هذا غريب، أليس كذلك؟”
“نعم، كما قرأتِ بنفسكِ، على الرغم من أن زوجة الدوق السابقة كانت تعاني من ضعف جسدي، إلا أنها كانت تخرج في رحلات بين الحين والآخر.”
أومأت برأسي موافقةً على ملاحظته..
في الواقع، جميع أحداث مذكرات ماربيل دارت ضمن حدود دوقية رياردن.
وكأنها وُلدت لتعيش حياتها كلها هناك، دون استثناء.
{يقال إن العاصمة تضم سوقًا يدعى سافير، حيث تُجمع فيه كل الأشياء الجميلة.
أحضرت لي أمي دمية خزفية على شكل قطة بيضاء ناصعة، لكن لو كنتُ قد رأيتها بعيني، لكان ذلك أفضل!
لكن لا بأس،
ففي دوقية رياردن أيضًا، هناك الكثير من الأشياء الجميلة.}
بهذه الطريقة، لم يكن الأمر واضحًا إلا إذا انتبهتُ له، لكنني أدركت بسرعة أنه لم يكن هناك ولو مرة واحدة عبارة مثل “يجب أن أذهب هناك في المرة القادمة.”
كاسيان، الذي كان يراقبني وأنا غارقة في التفكير، مد يده نحوي..
“هل نذهب إلى قصر الدوقية؟”
حدقتُ في يده للحظة، ثم أومأت برأسي في النهاية..
“الفوضى هنا أيضًا لا تقل عن هناك.”
أمسكت بيده ولوّحت بالمخطوطة المعلقة على معصمي الآخر..
شعرتُ أن هذا هو الحل في الوقت الحالي.
***
الحديقة بدت تمامًا كما كانت عندما رأيت قصر الشتاء في الماضي، عندما التقيتُ بكاسيان ذي السبع سنوات..
كانت الأشجار والنباتات تنمو بكثافة، لكن بعضها كان مشذّبًا بشكل غريب، مما منح المكان إحساسًا غير مألوف..
ورغم ذلك، لم أشعر بالكآبة، وهذا ما أثار استغرابي.
لم يكن الأمر مقتصرًا على المظهر الخارجي للمبنى، بل حتى في الداخل، كان هناك آثار واضحة للعناية والصيانة..
‘يبدو أن سكان البلدة كانوا يأتون للعناية بالمكان من حين لآخر.’
عادةً، المباني المهجورة التي لا يتم الاعتناء بها تتدهور بسرعة وتتحول إلى أطلال مهجورة.
لكن هنا، بدا وكأن أحدهم كان يزور المكان على الأقل مرة أسبوعيًا لتنظيفه والاعتناء به.
“يبدو أن دوقية رياردن كانت حقًا تعامل سكانها بشكل جيد على مر الأجيال، أليس كذلك؟”
“يبدو ذلك.”
كلماته خرجت بشكل عفوي، لكنها حملت بين طياتها شعورًا بالارتياح..
فباعتبار أن العائلة قد أُبيدت، كان من الطبيعي أن يتوقع رؤية مشهدٌ أكثر دمارًا..
في العاصمة، لم يتبقَ من قصر رياردن سوى الحديقة، أما بقية القصر فقد أُزيل تمامًا..
استغرقنا بعض الوقت في استكشاف أنحاء القصر الدوقي، نتفقد الغرف والأروقة.
على الرغم من قدم المكان، لم تكن طبقات الغبار سميكة جدًا، بل كانت الأغطية البيضاء التي تحمي الأثاث نظيفة نسبيًا..
وبالرغم من تجولنا في الطابق الأول لفترة طويلة، لم تتغير أجواء المكان، ولم يصدر أي رد فعل من المخطوطة.
‘هل هذا ليس قصر الدوقية الحقيقي؟’
راودتني هذه الفكرة بينما كنت أصعد الدرج إلى الطابق الثاني برفقة كاسيان، الذي كان يرافقني بإيماءة هادئة..
عندما صعدنا ثلاث أو أربع درجات خشبية قديمة تصدر صريرًا خافتًا مع كل خطوة،
“إيان…”
“نعم؟”
فجأة، الصوت الذي كان يطنّ في أذني منذ البداية… اختفى تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 119"