ضحكتُ دون قصد من طريقته في الحديث، التي بدت متلهفة ولكنها تحمل شيئًا من الدلال..
شعرتُ أخيرًا بأن التوتر الذي كان يضغط على قلبي بدأ يتلاشى قليلًا.
“ما المكافأة التي تريدها، إيان؟”
قلتُ ذلك بينما كنتُ أحيط جسده بذراعيّ وأضمه بقوة.
فهو غالبًا ما كان يتصرف بدلال كهذا.
ربما كان ذلك بسبب نقص الحب الذي عانى منه.
“إذا طلبتُ منكِ أن تأخذيني معكِ أينما ذهبتِ أثناء إقامتنا في دوقية رياردن؟”
رفع كاسيان رأسه قليلًا عن كتفي وحدق بي بنظرة مترددة..
عيناه، التي كانت دائمًا ما تحمل لمحة من الذكاء الحاد أمام الآخرين، بدت الآن أشبه بعيني جرو وديع، مما جعله يثير غيظي بلا سبب.
“هل أكون حينها مصدر إزعاج لكِ؟”
“وأنتَ تزعجني دائمًا، فلماذا تتردد الآن؟”
ما إن ألقيتُ كلماتي وكأنها عتاب حتى اكتسى وجهه بحمرة طفيفة، وكأن مجرد كلماتي البسيطة جعلته يشعر بسعادة غامرة..
“شكرًا لكِ لأنكِ قبلتِ بوجودي في حياتكِ، روز.”
“هذا الكلام مخيف حقًا.”
قبلتُ بوجوده؟ وكأنني أتحمل عبئًا ما!
ربتُّ على ظهره بخفة، فانفجر ضاحكًا..
وأنا أيضًا، بطريقة ما، أحببتُ الإحساس بتلك الاهتزازات المنبعثة من جسده الملتصق بي..
لأول مرة، شعرتُ أنني أستطيع الاسترخاء قليلًا..
***
“العاصمة الآن على مشارف موسم الحر.”
عندما نزلتُ من العربة، شعرتُ بنسيم بارد يختلط بهواء المكان، فتمططتُ لأخفف من تصلب جسدي..
توقف كاسيان للحظة، ثم وضع وشاحًا خفيفًا على كتفيّ.
“كما هو متوقع، هذه الأرض في الشمال فعلًا.”
“الجو المنعش يجعلني أشعر وكأنني في عطلة، رغم أننا هنا في مهمة عمل.”
عندما عبرتُ عن مشاعري المتناقضة، رفع كاسيان ذراعه كما لو كان ينوي مرافقتي رسميًا..
وضعتُ يدي على ذراعه دون تفكير، ثم واصلتُ الحديث:
“أعتقد أنه سيكون من المبالغة الاعتقاد بأن جلالته قد اهتم بنا لهذه الدرجة، أليس كذلك؟”
“من يدري؟”
“أتعني أنك لا تعتقد ذلك؟”
“رغم أنني لا أريد الاعتراف بذلك…”
بعد أن أنهى كلماته، التفت إلى السائق وأوصاه بنقل أمتعتنا إلى النُزُل الذي سنقيم فيه اليوم، ثم بدأ بالسير بهدوء نحو السوق..
خفض كاسيان صوته قليلًا وقال:
“جلالته…”
كان من الواضح أنه لاحظ أنني تجنبتُ ذكر الإمبراطور بلقب مباشر..
“إنه يكنّ لكِ اهتمامًا خاصًا، هذا واقع.”
“…أشعر الآن أنني كنتُ أعمل بجدٍ أكثر مما ينبغي.”
بعد أن سمعتُ تأكيد كاسيان، بدأتُ أراجع تصرفاتي..
لم يكن لدي نية أن أكون بهذا الوضوح في نظر جلالته..
كيف وصلتُ إلى هذه المرحلة بالضبط؟
كل ما أردته هو سداد ديون عائلتي والعيش بهدوء، لا أكثر..
بينما كنتُ غارقة في أفكاري، ربت كاسيان على يدي وهو يبتسم..
“لذا، خذي الأمور ببعض الهدوء الآن، روز.”
“…”
بينما كنتُ أنظر إلى وجهه المطمئن كعادته، أدركتُ شيئًا آخر بصراحة..
أردتُ أن أرى هذا الرجل يمضي في طريق سعادته..
خاصة بعد أن قابلتُ النسخة الأصلية من كاسيان، شعرتُ أن هذا البطل المزعج أصبح أكثر موثوقية من أي وقت مضى.
لا يمكنني إنكار أنني أعتبره شخصًا عزيزًا..
“وأنتَ أيضًا، إيان.”
لقد أنقذته مرتين بالفعل، فكيف لا أشعر بهذه العاطفة نحوه؟
عند سماع إجابتي، ابتسم كاسيان بخفة..
“أما زلتِ لا تفهمين، روز؟”
“ماذا؟”
“لا أستطيع أن أشعر بالراحة إلا عندما تكونين أنتِ هادئة.”
يا إلهي..
لماذا يجب أن يكون حديثه دائمًا بهذا الشكل؟
لم أستطع وصف المشاعر التي فاضت بداخلي، لذا اكتفيتُ بالاتكاء عليه بينما سرنا معًا..
كان الهواء في الشمال باردًا ومنعشًا، والشوارع رغم حاجتها لبعض الإصلاحات، بدت جميلة ودافئة..
تمامًا كما لم تستطع سنوات حكم دوقية جاموتي أن تمحو قرونًا من إدارة دوقية رياردن لهذه الأرض..
“أنا أحب الأشياء الجميلة، لذا أعتقد أنني سأتأقلم هنا.”
شعرتُ بنظرته تتركز عليّ..
حتى دون أن أستدير لأراه، كنتُ واثقة من شكل عينيه في تلك اللحظة..
كانت بالتأكيد نظرة دافئة وراضية تمامًا.
***
“هل استمتعتم بجولتكم في السوق؟ لا أدري إن كان من الجيد أنكم جئتم في مثل هذا الوقت للسفر.”
عندما عدنا إلى النُزل حيث أودعنا أمتعتنا مسبقًا بعد جولة في السوق مع كاسيان، استقبلتنا صاحبة النُزل بترحاب وابتسامة ودودة..
بغض النظر عن نوايا جلالة الإمبراطور الحقيقية، كانت مهمتنا لا تزال تحقيقًا، ولهذا السبب غيرنا العربة وملابسنا في منتصف الطريق..
أي شخص يرانا سيعتقد أننا مجرد زوجين من التجار في شهر العسل.
لكن يبدو أننا لفتنا الانتباه أكثر من اللازم، سواء كان ذلك لأن هذه المدينة ليست وجهة سياحية شائعة، أو بسبب وسامة رئيسي الفائقة..
حتى أننا استخدمنا سحرًا لجعل ملامحنا أقل وضوحًا، ومع ذلك لم يفلح الأمر تمامًا..
ونتيجة لذلك، بدت صاحبو النُزل مبتهجة جدًا بشكل ملحوظ.
“هناك شائعات بأن دوقية رياردن ستحصل على سيد جديد، ولهذا السبب جاء الكثير من الناس ليسألوا عنكم فور وصولكم.”
“يسألون عن ماذا؟”
“إن كنتم السادة الجدد الذين جاؤوا لاستكشاف الأراضي.”
تحدثت صاحبة النُزل بنظرة حادة، وهي تنقل ببصرها بيننا..
“مستحيل، صحيح؟”
من ذا الذي سيعترف بذلك علنًا إن كان محققًا؟
قبل أن أتمكن من الرد، جذبني كاسيان نحوه ووضع ذراعه حول خصري..
“لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، فنحن مجرد تجار بالكاد نعرف شيئًا عن حياة النبلاء.”
قال ذلك وهو يطبع قبلة على جانب رأسي بطريقة استعراضية..
“زوجتي لا تتحمل الحر، لذا كنا نبحث عن مكان أكثر برودة، وانتهى بنا الأمر هنا. العمل مهم، لكن لا فائدة منه إن كان سيؤثر على صحة زوجتي العزيزة.”
“يا إلهي، يا له من شاب ذكي!”
نظرت إليه صاحبة النُزل بإعجاب دافئ..
“أنت تفهم الأولويات جيدًا رغم صغر سنك! زوجي لم يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان، والآن ترفض ابنتنا حتى التحدث معه، مما يجعله نادمًا جدًا.”
عندها سُمع صوت سعال خفيف قادم من المطبخ..
نظرًا لأن المدينة تقع على أطراف دوقية رياردن، لم يكن النُزل كبيرًا، لذا كان من السهل سماع المحادثات من المطبخ.
بعد أن أدركت صاحبة النُزل أنها استغرقت وقتًا طويلًا في الحديث معنا، نقر على باب المطبخ مرتين..
بعد لحظات، خرج رجل ذو ملامح خشنة، وهو يتمتم بانزعاج بينما يرفع أمتعتنا من جانب المنضدة..
يبدو أن زوجته كانت معتادة على مثل هذا التصرف، إذ تعاملت معه ببراعة، ثم قادتنا إلى الطابق الثاني..
“لدينا عدد قليل من الغرف، لذا أشعر بالحرج لأنني أتباهى، لكن هذه أفضل غرفة في نُزلنا.”
عندما فتحت النافذة على مصراعيها، غمرت الغرفة أشعة الشمس الذهبية الدافئة مع بداية غروب الشمس..
“تعمدنا وضع نافذتين باتجاهين مختلفين. المنظر الذي ترونه الآن هو أحد مفاخر نُزلنا.”
كما قالت، امتزجت المناظر الطبيعية الهادئة بالمنازل الصغيرة المتناثرة، مما شكل مشهدًا جميلًا..
حين ابتسمتُ تلقائيًا لهذا المنظر، انفجرت صاحبة النُزل ضاحكًا بسرور..
“يبدو أن السيدة أعجبت بالمكان، وهذا رائع، أليس كذلك؟”
وجهت حديثها إلى كاسيان، الذي ألقى نظرة عليّ ثم أومأ برأسه..
عندما لاحظت صاحبة النُزل ذلك، ضحكت بخفة ثم دفعت زوجها إلى الخارج، لتترك لنا الغرفة على عجل..
“استمتعا بوقتكما!”
ومع تلك الكلمات التي جعلتني أشعر ببعض الإحراج، تلاشى صوت مجادلتها مع زوجها تدريجيًا خلف الباب المغلق..
بعد ذلك، رفعني كاسيان بلطف وأجلسني على الأريكة الخشبية المصنوعة بإتقان..
“تبدو وكأنها بلدة لطيفة.”
“نعم، وأجواء السوق لم تكن سيئة أيضًا، رغم أنها تفتقر إلى بعض الحيوية.”
أسندتُ جسدي على حافة النافذة، وجاء كاسيان ليقف بجانبي في نفس الوضعية، ينظر إلى الخارج..
رأينا الناس يشترون حاجياتهم المسائية، والأطفال يركضون في الشوارع، والدخان الأبيض يتصاعد من المداخن حيث بدأ الناس في إعداد العشاء..
كان مشهدًا هادئًا ونابضًا بالحياة، نادرًا ما يُرى في العاصمة.
“هل تشعر بالارتياح؟”
سألتُه، مدركة أنه قد يكون قلقًا بشأن رحلتنا إلى دوقية رياردن..
لكنه لم يرد فورًا، بل ظل يتأمل المنظر بصمت..
كانت والدته، ماربيل، أشبه بالحلم بالنسبة له..
كل ما تبقى منها هو مذكراتها السميكة والقصص التي سمعها من مربيته في صغره..
كان الشيء الوحيد الذي رآه بنفسه هو ذكرياتها القصيرة التي ظهرت عبر السحر، لذا ربما كان هذا المشهد أمامه الآن يعني له أكثر مما يمكنني أن أتصور..
حين خططنا لمسار رحلتنا إلى دوقية رياردن، تعمدتُ الرجوع إلى مذكرات ماربيل.
أنا من اقترح ذلك.
قال كاسيان إن الإمبراطور أرسله إلى هنا ليمنحه وقتًا للراحة، لكنني كنت واثقة أنه فعل ذلك من أجلي أيضًا.
بعد صمت طويل، فتح كاسيان شفتيه وكأنه على وشك التحدث، لكنه سرعان ما أغلقهما مجددًا، ثم أخيرًا نظر إليّ وقال بهدوء..
“نعم.”
رغم بساطة إجابته، شعرتُ أنني فهمتُ الكثير من المعاني الكامنة وراءها..
ارتياحه لكون الأراضي التي كانت تحت حكم عائلة جاموتي لا تزال على حالها..
كاسيان أرتيز كان دائمًا هكذا.
حتى لو لم يستعد دوقية رياردن، كان كل ما يريده هو سعادة الناس الذين يعيشون فيها.
لقد تغير كثيرًا عن الشخصية الأصلية في الرواية، لكنه ظل بنفس القلب الطيب، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أتعلق به أكثر.
بينما كنت أتأمل ذلك، شاهدتُ بصمت كيف بدأ الغروب يصبغ خصلات شعره الذهبية بوهج دافئ..
شعرتُ أنه يمكنني الاستمتاع بهذه اللحظة إلى الأبد.
***
كانت تحقيقات دوقية رياردن واحدة من أكثر الجولات التي استمتعت بها منذ قدومي إلى العاصمة، حتى أنها كانت من بين أفضل ثلاثة أنشطة قمت بها..
وذلك بفضل يوميات ماربيل رياردن، والدة كاسيان، حيث دوّنت فيها تفاصيل دقيقة عن الأماكن الجميلة، والمناطق التي تحتاج إلى تطوير، وحتى أفضل المطاعم في المنطقة..
بمعنى آخر، كانت يومياتها بمثابة دليل سياحي وسجل لأشهى الأطباق في الدوقية.
واليوم، كنت على وشك زيارة أحد الأماكن التي أثارت فضولي أكثر من غيرها..
أثناء قيادته لي نحو الموقع، بدا على كاسيان تعبير غريب بعض الشيء.
“لست متأكدًا مما إذا كان من الجيد أم لا أن تتشابه أذواقك مع أذواق والدتي، يا روز.”
“لكنك كنت فضوليًا أيضًا، أليس كذلك؟”
تجاهلت تذمره الطفيف، وأمسكت بيده بإحكام بينما عبرنا الأدغال الوعرة..
أخيرًا، ظهر أمامنا مدخل كهف غامض موحش.
كان هذا المدخل المؤدي إلى منجم مهجور، تم إغلاقه منذ مئات السنين..
وطبعًا، لم يكن السبب وراء قدومي مجرد الرغبة في استكشاف مكان مخيف..
{لم يُسجل ذلك في التاريخ،
لكن هل من العبث الظن أن هذا المكان كان يومًا ما مهد تنينٍ نائم؟
بالطبع، كلما قررتُ المجيء إلى هنا، كان وجه إرنست يتجعد استياءً،
مما يجعلني أرغب في زيارته أكثر.}
كان ذلك بدافع الفضول حول موضوع “التنين” الذي ذكرته ماربيل في مذكراتها..
التعليقات لهذا الفصل " 114"