منذ أن تم القبض عليه ووُضع في السجن السفلي، كان يحاول جاهدًا الحفاظ على هدوئه، لكن وجهه الآن بدا وكأنه فقد السيطرة تمامًا..
“أنا—!”
لكن، على الرغم من تعابيره المتشنجة، كانت كلماته تخرج ببرود وكأنهما لا ينتميان لبعضهما.
“لا أعرف ما علاقتي بمملكة باسماه، فأنا لم أعش إلا في الإمبراطورية منذ ولادتي.”
كان يضغط على أسنانه بقوة لدرجة إصدار صوت صرير، محاولًا إخفاء اضطرابه بالحديث المستمر.
آه… ماذا سيفعل لو كسر أسنانه بهذا الشكل؟ لا أعتقد أن زراعة الأسنان متاحة هنا.
بل حتى قال..
“إعادة فتح التجارة مع مملكة باسماه؟ بصفتي مواطنًا مخلصًا للإمبراطورية، أهنئكم على ذلك.”
لكن بسبب تشنجه، خرجت كلماته مشوهة لدرجة أنه بالكاد نطق كلمة “أهنئكم” بشكل صحيح..
على أي حال، لم يكن يهمني ذلك.
فما إن يواجه الملك شخصيًا، ستتحطم ثقته المزعومة لا محالة.
“يسعدني سماع ذلك، السيد جيلارد. إذن، سنلتقي بعد ثلاثة أيام في مأدبة العشاء مع جلالة ملك باسماه.”
بهذه الكلمات، غادرتُ السجن السفلي برفقة الدوق لوبيز بخطوات واثقة..
“ما هذا الهراء! لماذا قد يتم اصطحاب مجرم مثلي إلى حدث مهم مثل إعادة فتح التجارة؟!”
وصلت إلينا صرخاته من الخلف، لكنها لم تستحق عناء الرد عليها..
بعد ثلاثة أيام، في مأدبة العشاء مع ملك باسماه.
“إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بجلالة ملك باسماه وجهًا لوجه.”
رحّب الإمبراطور بحرارة بالملك..
“الشعور متبادل، وأخيرًا يمكن لكلٍّ من مملكة باسماه والإمبراطورية تجاوز الماضي والنظر إلى المستقبل.”
ثم التفت الملك إلى الدوق لوبيز بابتسامة ودودة..
“لقد مر وقت طويل، دوق لوبيز.”
“بالفعل، لم أتصور أن مغادرتي على عجل بسبب الحادث الذي وقع لسيدة البلاط ستصبح آخر مرة نلتقي فيها.”
أجاب الدوق بأدب، ثم انحنى احترامًا لكلٍّ من الإمبراطور والملك..
“أشعر بالخجل، لكن لم يكن بوسعي فعل المزيد، لذا أعتذر.”
“ليس خطأك، لا أنت ولا والدك، فلطالما حذرتماني من أن حسن النية وحده لا يكفي عندما يكون الطرف الآخر متعصبًا لأحكامه المسبقة.”
بتعبير متردد، أشار الملك إلى أحد حراسه ليصبّ للدوق كأسًا من الشراب..
“كان يجب أن أصغي إلى تلك النصيحة، ولو فعلت، لما استغرق الأمر كل هذه السنوات لإصلاح العلاقة بيننا.”
عند هذه الكلمات، ارتجف دوق جاموتي الجالس على الطاولة للحظة..
‘مثير للإعجاب أنه أدرك المعنى الضمني بهذه السرعة.’
إذ كان ذلك تلميحًا واضحًا إلى فشله..
عندما وقعت حادثة سقوط المحظية التابعة لمملكة باسماه، اجتاح الغضب البلاد بالكامل، وكان الوضع متوترًا للغاية..
لكن، وبفضل جهود دوق لوبيز في التعامل مع العواقب، كان من الممكن إصلاح العلاقات بمرور الوقت لو بُذل جهد كافٍ.
غير أن دوق جاموتي…
“بصراحة، لم يكن لدينا الحجة المناسبة لمبادرة التواصل مع الإمبراطورية، ولم يبدو أنهم مهتمون ببلادنا.”
كما أشار ملك باسماه، لم يتم بذل أي جهد حقيقي لاستعادة العلاقات..
كانت هناك بعض الطلبات الرسمية لجلسات استماع، لكنها لم تكن سوى إجراءات شكلية لا غير..
“ألم يكن يُقال دائمًا إن المملكة كانت هي من تغلق أبوابها؟”
حتى الإمبراطور نفسه، الذي كان يفضّل المحظية الرابعة حينها، وبّخ دوق جاموتي مرارًا على إهماله في هذه المسألة..
وبعد كل توبيخ، كان الدوق يُبدي اهتمامًا زائفًا لفترة قصيرة فقط قبل أن يعود إلى طبيعته المتقاعسة.
بالطبع، حاول الإمبراطور تعيين شخص آخر مسؤولًا عن العلاقات الخارجية، لكن في كل مرة، كانت سكارليت جاموتي تتدخل لتعطيل القرار..
بالإضافة إلى ذلك، كلما وقع خلاف، كان يحقق إنجازات دبلوماسية في دول أخرى ليمنع الإمبراطور من اتخاذ أي خطوة ضده..
كان ذلك نقطة ضعف الإمبراطور؛ رغم دهائه، كان شديد الحرص على المبررات الرسمية..
مع تعطل التجارة مع باسماه، تضررت المناطق الجنوبية في الإمبراطورية، لكن الضرر كان أسوأ بكثير على المملكة، مما جعل هذه المأدبة حدثًا بالغ الأهمية لهم..
لولا الجهود الكبيرة التي بذلها دوق لوبيز فور حصوله على صلاحياته الدبلوماسية، لما كان من السهل إقناع الملك بالحضور، حتى بعد إلقاء القبض على جيلارد باسماه.
‘وحتى لو حاولتُ التدخل، لكان دوق جاموتي قد عرقلني بكل وسيلة ممكنة.’
فبالنسبة لعائلة جاموتي، لم تكن مملكة باسماه ذات فائدة تُذكر، إذ أنَّ استئناف التجارة معها كان يصب في مصلحة رجال الأعمال والخزانة الإمبراطورية فحسب..
أما الآن، فها هو الدوق يجلس متجمدًا في مكانه، غير قادر حتى على تناول طعامه بشكل طبيعي بسبب الجو المشحون..
قطع ملك باسماه شريحة لحم ووضعها في فمه، لكنه كاد يختنق وهو يراقب دوق جاموتي يسعل بارتباك..
نظر إليه الملك باشمئزاز قبل أن يحوّل انتباهه إلى الإمبراطور..
“لهذا السبب، أنا ممتن للغاية لأن الإمبراطورية بادرت بالتصالح أولًا.”
“نحن نتحمل مسؤولية ما حدث أيضًا، ملك باسماه. وكما أخبرك الدوق لوبيز، من غير العدل أن ننسب الفضل كله إلينا.”
“من النادر أن يكون جلالة الإمبراطور متواضعًا إلى هذا الحد.”
بينما كنت أتابع بصمت، لاحظت أن نظرات ملك باسماه تحولت إليّ..
يبدو أنه قضى الأيام الثلاثة الماضية في جمع المعلومات عني..
“لقد أخبرني الدوق لوبيز مسبقًا عنكِ. لم أصدق أنك شابة لم يمضِ سوى بضع سنوات على ظهورك في البلاط.”
“وأنا أُدهش منها أيضًا، أحيانًا أفاجأ بما تفعله!”
ضحك الإمبراطور وهو يتحدث، ثم أضاف..
“لقد كانت هي من لاحظت الخلل في اختبارات المتقدمين.”
“أشكر لكِ جهودكِ، مركيزة كلوبيا.”
عندما وجّه لي الملك شكره مباشرة، انحنيت بتهذيب..
عندها، رمقني الإمبراطور بنظرة غريبة، لكنني تجاهلتها تمامًا وأجبت ملك باسماه..
“لكن كما نقل لك الدوق لوبيز، لا يزال علينا التحقق من بعض الأمور النهائية.”
“نعم، لقد أخبرني أن الشخص المعني يرفض الاعتراف حتى مع وجود أدلة دامغة.”
“هذا صحيح.”
تنهد الملك بعمق، ثم قال..
“حتى بعد مرور كل هذه السنوات، لم يتغير إطلاقًا… أشعر أنه لا حاجة حتى لاختبار إثبات الهوية.”
وبحركة تدل على إحساسه بالصداع، هز رأسه يمنة ويسرة، لكنه لم يكن يرفض الفكرة..
“بل على العكس، كأخيه الأكبر، من واجبي أن أجعله يواجه الحقيقة.”
وبمجرد أن أنهى كلامه، أومأتُ بإشارة، فدخل جيلارد باسماه إلى القاعة، يديه مقيدتان بسلاسل رفيعة..
وما إن وقع بصر ملك باسماه عليه، حتى تحولت تعابير وجهه من الدفء إلى البرود القاتل..
“إذن، كان لا بد من إحضاري إلى هذا الحدث المهم لمجرد ‘خطأي الطفيف’، أليس كذلك، مساعدة ساليس؟”
حاول أن يحافظ على لهجته المتعجرفة، لكن عجزه عن التحدث بوقاحة صريحة كشف مدى توتره..
بام-!
ما إن سمع تلك الكلمات حتى انتفض ملك باسماه واقفًا بغضب، لدرجة أن كرسيه انقلب للخلف..
“ما زلت، ما زلت! لم تنضج بعد، أليس كذلك؟!”
كان يضغط قبضته، كما لو أنه على وشك أن ينفجر غضبًا.
“… لا أفهم لماذا تتحدث إليَّ وكأنك تعرفني، أيها النبيل الجليل.”
بالطبع، لا يزال جيلارد باسماه متشبثًا بتمثيليته..
“أنا مجرد البارون جون سيرلينغ، الذي انتهى به الأمر في السجن بسبب إلقاء اللوم على الآخرين في فشله.”
“هل تظن أنني لا أعلم أنه لا يوجد بيت نبيل بهذا الاسم؟!”
سخرية جيلارد غير المعقولة جعلت ملك باسماه يزداد غضبًا، متناسياً هدوءه السابق..
لهذا، تدخلت قائلةً..
“لا داعي لأن تجهد نفسك بالكلام، جلالتك. فلدينا وسيلة تثبت الحقيقة دون الحاجة إلى نقاش.”
أخرجت الأداة السحرية الخاصة بالكشف عن صلة الدم، والتي كنت قد حصلت عليها من ويسلي موريل…
“هذه أداة صنعها القديس ويسلي موريل بنفسه. إذا وضعنا فيها شعرة من كل منكما، ستتشابك إن كنتما من دم واحد، وستنفصل إن لم تكونا كذلك.”
تجمد وجه البارون جون تمامًا. يبدو أنه أدرك أن الكلام وحده لن ينقذه هذه المرة..
“بما أن شهادة القديس هنا، إن كنتَ تعترض على النتيجة، يمكنك تقديم احتجاجك مباشرة إلى المعبد.”
أومأ ملك باسماه موافقًا بكل ارتياح، بينما كان جيلارد يفكر في أي حجة يختلقها للخروج من هذا الموقف..
فأضفتُ بلطف
“إن لم تكن من العائلة المالكة، فسنعتذر منك رسميًا ونطلق سراحك فورًا. ولكن إن كنت…”
رسمتُ ابتسامة مشرقة على وجهي، ليظهر على جيلارد وجه متحجر، كما لو كان حيوانًا مدربًا أدرك الإشارة..
لقد بدأ يفهم أخيرًا أن ابتسامتي تعني أنه على وشك تلقي ضربة قاضية.
“لنبدأ، إذن.”
مع إعلاني هذا، بدأ جيلارد يتلوى محاولًا منع أي شخص من الحصول على شعرة منه..
ولكن لم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن يتدخل كاسيان أرتيز بهدوء قاتل..
“يمكنني قص شعرك بنفسي إن شئت. بالطبع، إذا كنتَ ترغب في فقدان شعرك بالكامل، فهذا خيارك.”
عبارته الباردة جعلت جيلارد يجمد في مكانه.
***
النتيجة كانت واضحة تمامًا.
لم أعرف كيف صنع ويسلي هذه الأداة، لكنها عندما بدأت العمل، أطلقت صوتًا غريبًا وهي تجمع الشعرين معًا..
«-أخ! هذا هو! القتال سيئ! المخطأ واضح، لذا اعتذر فورًا!»
لم يكن الأمر مجرد كشف لصلة الدم، بل إنها حددت علاقتهما العائلية بدقة..
لم يسبق لي أن رأيت أداة كشف عن صلة الدم تصدر صوتًا بهذه الطريقة من قبل..
أما جيلارد، الذي لم يجد مهربًا، فقد استدار فجأة، ثم صرخ مستنجدًا..
“المحظية الأولى! يجب أن تحميني! أنا فقط نفذتُ أوامركِ!”
كان يصرخ باتجاه الشخص الوحيد الذي يمكنه اللجوء إليه.
“أنتِ من عرض عليَّ الصفقة قبل عشرات السنين! كل هذا كان بأوامركِ!”
بدا وكأن صوته لا يحمل سوى الحقيقة الخالصة، كما لو أنه كان ضحية بريئة..
التعليقات لهذا الفصل " 110"