الفصل السادس
* ❀ *
أدرتُ رأسي بسرعةٍ نحو مصدر الصوت.
كنتُ منشغلةً بالتنّين، لكنّ عدم وجود أيّ إشارةٍ جعلني أجهل وجوده تمامًا.
كان رجلًا طويل القامة يقارب الـ190 سنتيمترًا، ذا بشرةٍ داكنة.
شعره الأبيض كان مضفورًا في ضفيرةٍ طويلة، وأزرار قميصه مغلقةٌ حتّى أعلى العنق.
لم ينطق بكلمة، لكنّ الأجواء الباردة التي تحيط به وحدقته الطويلة الشبيهة بحدقة الأفعى جعلتني أدرك غريزيًّا أنّ هذا الرجل هو التنّين الذي أمامي.
نظر إليّ بوجهٍ خالٍ من التعابير وسأل:
“كيف جئتِ إلى هنا؟”
تفحّصتني عيناه الخاليتان من العاطفة.
شعرتُ بقشعريرةٍ غريبةٍ تنتابني، كما لو كنتُ أرى دميةً مصنوعةً بدقّةٍ تتحرّك.
“أنا من يجب أن يسأل، أين هذا المكان؟ كنتُ في القصر بوضوح…”
“القصر؟ هل تقصدين قصر بالفروغا؟”
لمع بريقٌ في عينيه الزرقاوين.
أجبتُ بتوتر
“صحيح. هل أنت من أحضرني إلى هنا؟”
“قد أكون أنا، وقد لا أكون.”
‘صوتك يشبه صوته تمامًا.’
ابتلعتُ الكلمات التي كادت تخرج من حلقي.
من الأفضل عدم قول شيءٍ قد يثيره.
تقدّم بخطوةٍ واسعةٍ نحوي.
أردتُ التراجع لتجنّبه، لكنّ خلفي كان جسد التنّين الضخم يسدّ الطريق، فلم أجد مفرًّا.
انحنى الرجل نحوي حتّى أصبحت عيناه في مستوى عينيّ.
كان حتّى أنفاسه تحمل برودةً قارسة.
تفحّصني بنظراته كما لو كانت لسان أفعى يستكشفني.
سأل:
“ما اسمكِ؟”
“فيليا فولدفيش. لا، لأنّني تزوّجت، فأنا الآن فالروجا.”
“هذا الاسم لم يُطلق عليكِ إلّا لفترةٍ قصيرةٍ لا تكفي لاعتباره اسمكِ، أليس لديكِ اسمٌ آخر استُخدم لمدّةٍ أطول؟”
نظرتُ إلى وجهه، لكنّه ظلّ خاليًا من أيّ تعبير.
‘هل يعرف أنّني انتقلتُ إلى هذا الجسد؟’
‘ما هويّته الحقيقيّة؟’
تراجعتُ خطوةً دون وعي، لكنّني تعثّرتُ وكدتُ أسقط، فأمسك بذراعي ليدعمني.
“لا يهمّ. إذا أردتِ أن تُدعي بهذا الاسم في المستقبل.”
ثمّ استدار نصف دورةٍ وأبعدني عن التنّين.
للحظةٍ وجيزة، شعرتُ بقشعريرةٍ من البرد الذي تركه لمسته على ذراعي.
تراجع خطوةً للخلف، مبتعدًا عنّي، كما لو كان يؤكّد أنّه لا ينوي إيذائي.
ثمّ مرّر يده على جسد التنّين الضخم الشبيه بجبلٍ ثلجيّ وقال:
“اختري اسمًا لي.”
“ماذا؟ اسمك؟”
“بسرعة. ليس لدينا الكثير من الوقت.”
كنتُ في حيرةٍ شديدةٍ من هذا الموقف الغريب الغائب عن القصّة الأصليّة.
لم أعد أميّز إن كان هذا حلمًا أم حقيقة.
لذا، قلتُ اسمًا عشوائيًّا:
عندما كنتُ صغيرةً في دار الأيتام، كنتُ أربّي كلبًا أسود، ومنذ ذلك الحين، كنتُ أطلق الاسم نفسه على كلّ حيوانٍ في الدار.
“إذن… كامانغي؟”
“ماذا؟ لحظة…”
لأوّل مرّة، ظهر تعبيرٌ على وجهه.
لكن في تلك اللحظة، شعرتُ بدوارٍ مشابهٍ لما شعرتُ به عندما جُلبتُ إلى هنا.
* * *
عندما فتحتُ عينيّ، كنتُ على سريري في غرفتي.
صاح لوس: “نونا!”
عندما رآني أستيقظ، اندفع نحوي بعينين مغرورقتين بالدموع.
شعرتُ بالطمأنينة عند رؤية وجه لوس.
‘يا له من حلمٍ غريب.’
“لا داعي للقلق، لوس. لستُ مريضة.”
ربتّ على ظهره لأطمئنه، لكنّه بدا مضطربًا جدًّا ورفض مغادرة جانبي.
“بالمناسبة، لوس، كم الساعة الآن؟ كم مضى على نومي؟”
تردّد لوس وهو ينظر إليّ بحذر.
“لوس؟”
“لقد مرّ يومٌ كامل منذ أن غفوتِ.”
“حقًّا…؟ مهلًا؟”
أضاف: “المهلة ستنتهي قريبًا، نونا.”
‘يا إلهي.’ كنتُ أنوي التأكّد ممّا إذا كان فروغ قد نقل الأحجار الكريمة سرًّا.
همس لوس وهو ملتصقٌ بي:
“فروغ لم يفعل شيئًا.”
‘كيف عرف؟’
نظرتُ إليه بدهشةٍ بعد ذلك الحلم الغريب.
“هذا ما كنتِ قلقةً بشأنه، أليس كذلك؟”
لكنّ ابتسامة لوس البريئة كانت كالمعتاد.
‘حسنًا، لوس ذكيّ بما يكفي ليكون البطل، وهو يعرف كلّ خططي.’
قلتُ: “حسنًا، إذن لم يبقَ سوى تنفيذ الخطّة.”
أمسكتُ يده وابتسمتُ بخبث.
“تثق بي، أليس كذلك؟”
أومأ لوس برأسه.
* * *
توجّهتُ أنا ولوس إلى غرفة العمل.
كان القصر مكتظًّا بالناس بسبب الإشاعات التي نشرها فروغ بجدّ.
“سيّدتي، هل أنتِ بخير؟”
“سيّدتنا ضعيفةٌ جدًّا، ماذا نفعل؟”
“هل يجب أن نحرق المزيد من الحطب؟”
ردّ رابع: “لكن ليس لدينا مالٌ لشراء الحطب.”
بينما كانت الأحاديث تتردّد بين الناس، كان فروغ يقف متباهيًا بمفرده.
قال: “حسنًا، سيّدتي، المهلة ستنتهي قريبًا. هل أعددتِ عشرة ملايين مارك؟”
كان متأكّدًا أنّني لم أجهّز المال.
بالطبع، فقد انتشرت إشاعةٌ في القصر أنّني قضيتُ الأسبوع بأكمله متكاسلة.
هززتُ رأسي
“ليس بعد. لكنّ مليون مارك يمكن جنيها بسرعة.”
صاح فروغ:
“كيف يُعهد بالإدارة إلى فتاةٍ مثلها؟ تقول إنّها تستطيع جني مليون مارك بسهولة! هل تصدّقون ذلك؟”
نظر إلى الحشد بنبرةٍ مسرحيّة.
استدرتُ بهدوءٍ دون أن أتزعزع
“إن كنتَ فضوليًّا، سأريك كيف أجني مليون مارك الآن. تعالوا جميعًا.”
تبعني الناس وهم يتهامسون، متأثّرين بثقتي.
سأل أحدهم: “سيّدتي، إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
قال آخر: “هل يمكن جني مليون مارك في القصر؟”
أضاف ثالث: “لم يبقَ سوى ثلاثين دقيقة حتّى انتهاء المهلة!”
قدتُ الحشد نحو غرفة فروغ.
في البداية، سخر منّي، لكنّ تعبيره تحول إلى القلق تدريجيًّا.
عندما أدرك أنّني متّجهةٌ إلى غرفته، شحب وجهه.
عندما أمسكتُ مقبض باب غرفته، وقف أمامي مصدومًا وحاول منعي.
“لحظة! ما هذا التصرّف؟ حتّى لو كنتِ السيّدة، لا يمكنكِ اقتحام غرفتي!”
حينها قال لوس بنظرة باردة
“فروغ، تنحّ.”
احتجّ فروغ و التفت له
“الدوق!”
“هل تعصي أمري؟ تنحّ فورًا.”
ارتبك فروغ و شحب وجهه و هو يتلعثم
“لا! لا أستطيع! هذا رهانٌ خسرته السيّدة! ما علاقة غرفتي؟”
مع تصاعد تمرّده، تحوّلت أنظار الناس الذين كانوا ينظرون إليّ بدهشةٍ إلى فروغ.
تصاعدت الهمسات بين المتفرجين
“ما الذي يخفيه في غرفته ليتصرّف هكذا؟”
“لكن لماذا ذهبت السيّدة إلى غرفة فرغ؟”
“أليس تصرّفه غريبًا؟ لا يوجد سببٌ لإخفاء غرفته هكذا.”
عندما سمع فرغ ردود فعل الناس، بدا وكأنّه أدرك خطأه.
حدّق بي لفترةٍ ثم تنحّى ببطء.
“كنتُ أحاول حماية خصوصيّتي فقط، فلا تسيئوا الظنّ. أتمنّى ألّا تعبثوا بأغراضي داخل الغرفة.”
نظر إليّ محذّرًا.
“لا تقلق.” رددتُ بلا مبالاة.
‘لن أحتاج إلى التفتيش أصلًا.’
كانت غرفة فروغ قذرةً كما كانت دائمًا.
عندما تعلّقت أكوام الأوراق المتراكمة بأطراف تنّورتي، ضجّ فروغ:
“لحظة! احذري! هذه غرفتي…”
“اصمت.”
دفعته جانبًا ورفعتُ السجادة.
بدت تعابير الناس فضوليّة، لكن فروغ بدا كمن سينهار في أيّ لحظة.
“لحظة! هذا…”
حاول منعي، لكن لوس أمر أحدهم بإمساكه أوّلًا.
“لا! لا يمكن! هذا ملكي! كيف تجرؤين أيتها اليتيمة على لمس أغراضي؟!!”
تجاهلتُ صراخه ورفعتُ لوحًا خشبيًّا.
عندما فتحتُ صندوقًا صغيرًا في الفراغ تحته، برزت أحجارٌ كريمةٌ تتلألأ أمام الناس.
ارتفعت صيحاتٌ من الحشد، مزيجًا من الدهشة والذهول.
“هذه ممتلكاتي! إرثي الشخصيّ! كيف تجرئين أنتِ…”
فتّشتُ الصندوق وأخرجتُ خاتمًا وقلتُ بثقة:
“وهذا أيضًا إرثك؟”
‘من يخدم عائلة فالروجا يعرف.’
هذا الخاتم المنقوش بختم العائلة يخصّ الدوق القائد للعائلة.
“هذا يخصّ الدوق السابق…”
“سمعتُ أنّه فُقد بعد وفاة الدوق في حادث، فلماذا هو مع فروغ؟”
“ما الذي يحدث؟”
ضرب فروغ من يمسكه بمرفقه وحاول الهروب بين الحشد المذهول.
صرختُ و انا أشير للناس من حولي
“امنعوا فروغ من الهروب!”
أمسك الناس بفروغ تلقائيًّا.
حاول التملّص صارخًا، لكنّ الناس استعادوا رباطة جأشهم وأحكموا قبضتهم عليه.
أُجبر فروغ على الركوع أمامي وأمام لوس، وفمه مسدودٌ بقطعة قماش، يحدّق بي بنظراتٍ مليئةٍ بالضغينة.
تجاهلتُ نظراته وسلّمتُ الصندوق الصغير إلى لوس
“هذا ليس إرثك، فروغ، بل يخصّ لوس.”
حينها أدرك الناس ما حدث.
صاح أحدهم باستنكار
“إذن، فروغ سرق متعلّقات الدوق؟”
“لا يمكن تفسيره إلّا هكذا! وإلّا لماذا يخفيها؟”
“ما كلّ هذه الأحجار الكريمة المتراكمة؟”
جاء الجواب من لوس:
“لقد نهب ثروة العائلة سرًّا. و اكتشفت زوجتي ذلك، فيليا.”
“السيّدة الجديدة هي من اكتشفت ذلك؟”
“إذن، كان يجمع الثروة بينما كنّا نعاني من الجوع؟”
“بيع هذه الأحجار سيمنعنا من الجوع!”
“صحيح! صحيح!”
“إنّها نعمة!”
“سيّدتنا نعمة! نعمة هذا القصر!”
“صحيح! صحيح!”
“لولاها، لكُنّا ما زلنا مخدوعين بفروغ!”
فجأة، رفع أحدهم يديه وصاح:
“عاشت سيّدتنا النعمة!”
“عاشت سيّدتنا النعمة!”
رفعني الناس الذين لم يتمالكوا فرحتهم وحملوني على الأكتاف.
“لحظة…”
“ثلاث هتافات لسيّدتنا!”
“عاشت سيّدتنا! عاشت! عاشت!”
حاولتُ تهدئتهم لكنّ ذلك كان مستحيلًا.
كيف أصف فرحة الناس الذين وجدوا أخيرًا سبب فقرهم الطويل وثروةً مخبّأة تكفي لإطعامهم؟
ومع ذلك، شعرتُ بالدفء وأنا أرى الناس يتعانقون فرحًا.
بعد أيّام، بدأ تحقيقٌ رسميّ مع فروغ، وتكشّفت أدلّة جرائمه واحدًا تلو الآخر.
في البداية، نفى فروغ ذنبه، لكنّه أقرّ به أخيرًا.
عوقب بالنفي بدون ممتلكات بدلًا من الموت.
لن يعود إلى هذه الأراضي أبدًا.
نظرتُ من النافذة إلى ظهر فروغ البائس وهو يغادر القصر وحيدًا.
بعد يومين من تولّي إدارة القصر رسميًّا، وجدتُ نفسي مدينةً بـ10 مليارات مارك.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"