“أُوغ…”
مَعَ تَمَايُلِ الْعَرَبَةِ مَرَّةً أُخْرَى، شَعَرْتُ بِرَغْبَةٍ فِي التَّقَيُّؤِ.
لَقَدْ كُنْتُ أُعَانِي مِنْ دُوَارِ الْحَرَكَةِ فِي حَيَاتِي السَّابِقَةِ، وَيَبْدُو أَنَّهُ لَاحَقَنِي حَتَّى بَعْدَ التَّقَمُّصِ.
مُجَرَّدُ رُكُوبِ الْعَرَبَةِ كَانَ كَفِيلًا بِإِصَابَتِي بِالدُّوَارِ، لَكِنَّ انْضِمَامَ الطُّرُقِ غَيْرِ الْمُمَهَّدَةِ جَعَلَ مَعِدَتِي فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا.
‘عِنْدَمَا أَجْنِي الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ، سَأَبْدَأُ بِإِصْلَاحِ الطُّرُقِ أَوَّلًا.’
فَالطُّرُقُ الْمُمَهَّدَةُ جَيِّدًا تُسَاعِدُ فِي تَطْوِيرِ الْقَلْعَةِ مِنْ نَوَاحٍ عَدِيدَةٍ.
وَالأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّنِي سَأَخْرُجُ كَثِيرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا كُنْتُ سَأُعَانِي مِنْ هَذَا الدُّوَارِ كُلَّ مَرَّةٍ، فَلَنْ تَصْمُدَ مَعِدَتِي طَوِيلًا.
“سَيِّدَتِي. هَلْ أَنْتِ بِخَيْرٍ؟”
رَبَتَ بِيُوتِشِر عَلَى ظَهْرِي بِحَذَرٍ.
“نَعَمْ… أُوغ.”
“تَحَمَّلِي قَلِيلًا. سَنَصِلُ قَرِيبًا.”
فِي الْبِدَايَةِ، كَانَ مِنْ الْمُفْتَرَضِ أَنْ أَزُورَ مَنْطِقَةَ مَاتِيك مَعَ تِرِيُون فَقَطْ.
لَكِنَّ بِيُوتِشِر أَصَرَّ عَلَى الْمَجِيءِ قَائِلًا:
“وَمَنْ سَيَحْمِي السَّيِّدَةَ؟”.
وَحِينَهَا، لَيْسَ لوس فَقَطْ، بَلْ حَتَّى تِرِيُون وَافَقَ عَلَى ذَلِكَ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعٍ، وَتَمَّ إِقْرَارُ الأَمْرِ بِالإِجْمَاعِ.
تَذَكَّرْتُ وَجْهَ لوس وَهُوَ يُوَدِّعُنِي بَيْنَمَا يَحْبِسُ دُمُوعَهُ حِينَمَا عَلِمَ أَنَّنِي سَأَغِيبُ لِبِضْعَةِ أَيَّامٍ.
عِنْدَمَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي سَأَشْتَرِي لَهُ هَدِيَّةً عِنْدَ عَوْدَتِي، قَالَ إِنَّهُ لا يُرِيدُ شَيْئًا سِوَى أَنْ أَعُودَ بِسَلامَةٍ؛ شَعَرْتُ حِينَهَا وَكَأَنَّنِي أُمٌّ تَتْرُكُ طِفْلَهَا لِتَذْهَبَ إِلَى الْعَمَلِ.
‘رُبَّمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْ أَحَدِهِمْ رَسْمَ صُورَةٍ لِلوس.’
لأَضَعَهَا فِي مِحْفَظَتِي، أَوْ بِالأَحْرَى فِي جَيْبِي، كَتَعْوِيذَةٍ لِمَنْحِي الْقُوَّةَ.
“عَلَى أَيِّ حَالٍ، تلكَ السحلية هَادِئة جِدًّا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ هَلْ لأَنَّ السَّيِّدَةَ هِيَ مَنْ تُرَبِّيهِا؟”
أَمَالَ بِيُوتِشِر رَأْسَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْكِيسِ الْمَوْضُوعِ عَلَى حِجْرِي.
دَاخِلَ الْكِيسِ الَّذِي صُنِعَ بِيَقَظَةٍ مِنْ بِطَانَةٍ نَاعِمَةٍ لِيَكُونَ كَسَرِيرٍ صَغِيرٍ، كَانَ كَايمن يَقْبَعُ هُنَاكَ.
رَغْمَ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لا يَجُوزُ أَبَدًا مَعَ سحلية عَادِيٍّ، إِلا أَنَّ كايمن كَانَ حَيَوَانًا مُقَدَّسًا لِذَا لا بَأْسَ.
فَهُوَ كَائِنٌ يَعِيشُ حَتَّى دُونَ طَعَامٍ.
“لأَنَّهُ طِفْلٌ مُمَيَّزٌ.”
عِنْدَمَا مَسَحْتُ عَلَى الْكِيسِ، أَخْرَجَ كايمن رَأْسَهُ.
“أَعْتَقِدُ أَنَّ السَّيِّدَةَ هِيَ الْوَحِيدَةُ فِي الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الَّتِي تُرَبِّي سحلية. حَقًّا، السَّيِّدَةُ شَخْصٌ مُمَيَّزٌ لِلْغَايَةِ.”
“لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِّ. كَيْفَ تَسِيرُ أُمُورُ تَشْكِيلِ الْمُنَظَّمَةِ السِّرِّيَّةِ؟”
بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْنِي الْمَالَ، قَرَّرْتُ أَنْ أَجْعَلَ بِيُوتِشِر قَائِدًا وَأُعِيدَ تَشْكِيلَ الْمُنَظَّمَةِ السِّرِّيَّةِ.
“تَسِيرُ عَلَى مَا يُرَامُ. أَعْتَقِدُ أَنَّهَا سَتَكْتَمِلُ بِمُجَرَّدِ عَوْدَتِنَا وَإِجْرَاءِ بَعْضِ التَّعْدِيلاتِ.”
“آسِفَةٌ لأَنَّنِي جَعَلْتُكَ تَتْرُكُ مَكَانَكَ فِي وَقْتٍ حَسَّاسٍ كَهَذَا.”
“مَا هَذَا الْكَلامُ يَا سَيِّدَتِي! حِمَايَتُكِ هِيَ الأَمْرُ الأَكْثَرُ أَهَمِّيَّةً! بَلْ أَنَا مَنْ يَجِبُ أَنْ أَكُونَ مُمْتَنًّا لأَنَّنِي الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُهُ خِدْمَةُ السَّيِّدَةِ الْمَحْبُوبَةِ، كَانَ عَلَيَّ الْمَجِيءُ مَهْمَا حَدَثَ!”
“لَكِنَّ تِرِيُون مَوْجُودٌ.”
“تِرِيُون لا يَزَالُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمَهَارَةِ فِي خِدْمَةِ السَّيِّدَةِ، لِذَا لا يُمْكِنُ الاعْتِمَادُ عَلَيْهِ.”
قَالَ بِيُوتِشِر ذَلِكَ بِمَزَاحٍ، وَهُوَ يَنْظُرُ بِطَرَفِ عَيْنِهِ إِلَى تِرِيُون الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِي الْمَقْعَدِ الْمُقَابِلِ مُغْمِضَ الْعَيْنَيْنِ وَمُشَبِّكَ الذِّرَاعَيْنِ.
كَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَنِي أَنْضَمُّ إِلَى هَذِهِ الرِّحْلَةِ.
رَغْمَ أَنَّنِي كُنْتُ أَنْوِي تَقْلِيلَ الرِّحَلاتِ لِكَثْرَةِ الأَعْمَالِ فِي الْمَنْطِقَةِ.
‘مَاذَا يَدُورُ فِي عَقْلِهِ حَقًّا؟’
فَجْأَةً، فَتَحَ تِرِيُون عَيْنَيْهِ.
تَجَنَّبْتُ نَظَرَاتِهِ لِشُعُورِي بِارْتِيَابٍ لا دَاعِيَ لَهُ، فَقَالَ تِرِيُون:
“لَقَدْ وَصَلْنَا.”
نَظَرْتُ مِنَ النَّافِذَةِ إِلَى الشَّوَارِعِ.
“وَاااو.”
عَلَى عَكْسِ مَنْطِقَةِ فالروجا الَّتِي تُشْبِهُ الأَطْلالَ، كَانَتْ مَنْطِقَةُ الْبَارُونِ مَاتِيك مَكَانًا أَكْثَرَ ازْدِهَارًا مِمَّا تَصَوَّرْتُ.
رَغْمَ أَنَّهَا لا تَرْتَقِي لِمُسْتَوَى شَوَارِعِ سِيُول الْلامِعَةِ، إِلا أَنَّ الْمَبَانِيَ الصَّغِيرَةَ الْمُصْطَفَّةِ بِدِقَّةٍ ذَكَّرَتْنِي بِالْقُرَى الرِّيفِيَّةِ فِي أُورُوبَّا.
لَقَدْ كُنْتُ أَتَمَنَّى دَائِمًا أَنْ أَجْنِيَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ لأُسَافِرَ إِلَى أُورُوبَّا وَلَوْ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
بِالتَّفْكِيرِ فِي الأَمْرِ، لَقَدْ تَغَيَّرَ الْعَالَمُ فَقَطْ، لَكِنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ سَفَرًا بِمَعْنًى مَا.
بَعْدَ مُرُورِنَا بِطُرُقٍ مُمَهَّدَةٍ جَيِّدًا، وَصَلْنَا إِلَى قَلْعَةِ مَاتِيك الَّتِي بَدَتْ أَصْغَرَ وَأَكْثَرَ تَوَاضُعًا مِمَّا تَوَقَّعْتُ.
كُنْتُ سَأَسْأَلُ بِيُوتِشِر، لَكِنَّنِي اعْتَقَدْتُ أَنَّ تِرِيُون سَيَكُونُ أَكْثَرَ مَعْرِفَةً بِهَذِهِ الأُمُورِ، فَهَمَسْتُ لَهُ:
“الْقَلْعَةُ أَصْغَرُ مِمَّا تَخَيَّلْتُ، هَلْ هَذَا لأَنَّهُ بَارُونٌ؟”
“لا. هَذَا الْحَجْمُ يُعْتَبَرُ مُتَوَسِّطًا. بِمَا أَنَّهُ لا تُوجَدُ قَلْعَةٌ فِي الْقَارَّةِ بِأَكْمَلِهَا أَكْبَرُ مِنْ قَلْعَةِ فالورجا، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَرَيَهَا صَغِيرَةً.”
“حَتَّى أَكْبَرُ مِنَ الْقَصْرِ الإِمْبِرَاطُورِيِّ؟”
“الْقَصْرُ الإِمْبِرَاطُورِيُّ يَبْدُو وَاسِعًا لأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، لَكِنْ إِذَا قَارَنَّا حَجْمَ الْبِنَاءِ فَقَطْ، فَهُوَ لا يَرْقَى لفارولجا.”
لاحَظْتُ مَسْحَةً مِنَ الْفَخْرِ الْغَرِيبِ عَلَى وَجْهِ تِرِيُون وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ.
عِنْدَمَا أَرَى مِثْلَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، أَشْعُرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ حَقًّا بِفَالْبُرُوغَا، فَهَلْ يُمْكِنُ لِشَخْصٍ مِثْلِهِ أَنْ يَخُونَ؟
عِنْدَ وُصُولِنَا إِلَى الْقَلْعَةِ، أَخْبَرَنَا كَبِيرُ الْخَدَمِ أَنَّ الْبَارُونَ مَاتِيك خَارِجَ الْقَلْعَةِ لِلْعَمَلِ، وَتَمَّ اصْطِحَابُنَا مُبَاشَرَةً إِلَى غُرَفِنَا.
تَقَاسَمَ بِيُوتِشِر وَتِرِيُون غُرْفَةً وَاحِدَةً، بَيْنَمَا تَمَّ تَخْصِيصُ الْغُرْفَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِي.
كَانَتِ الْغُرْفَةُ وَاسِعَةً وَنَظِيفَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَبْدُ كَغُرْفَةٍ فَاخِرَةٍ جِدًّا.
انْتَهَيْتُ مِنْ تَرْتِيبِ أَمْتِعَتِي، وَلَكِنَّ الْبَارُونَ لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ.
بَعْدَ أَنْ لَعِبْتُ مَعَ كايمن لِفَتْرَةٍ، لَمْ أَعُدْ أُطِيقُ الْمَلَلَ فَاقْتَحَمْتُ الْغُرْفَةَ الْمُجَاوِرَةَ.
“تِرِيُون. أَنَا لا أَعْرِفُ الْكَثِيرَ، لَكِنْ هَلْ جَعْلُ الضُّيُوفِ يَنْتَظِرُونَ هَكَذَا يَتَوَافَقُ مَعَ قَوَاعِدِ الإِتِيكِيتِ؟”
“لا. بَلْ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ إِهَانَةً بَيْنَ النُّبَلَاءِ. لِهَذَا السَّبَبِ قُلْتُ لَكِ إِنَّنِي سَآتِي بِمُفْرَدِي.”
قَالَ تِرِيُون ذَلِكَ بِهُدُوءٍ دُونَ أَنْ يَبْدُوَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ.
بِالتَّفْكِيرِ فِي الأَمْرِ، بِمَا أَنَّ تِرِيُون هُوَ مَنْ كَانَ يُجْرِي الْعُقُودَ دَائِمًا مَعَ الْبَارُونِ مَاتِيك، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُ مَرَّ بِهَذَا الْمَوْقِفِ مِرَارًا.
رَبَطْتُ الْكِيسَ الَّذِي يَحْتَوِي عَلَى كَامَانغِي بِإِحْكَامٍ عِنْدَ خَصْرِي وَسَأَلْتُ:
“بِمَا أَنَّ صَاحِبَ الْمَكَانِ لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ، فَهَلْ يُمْكِنُنِي التَّجَوُّلُ فِي الْقَلْعَةِ؟”
لأَكْتَشِفَ أَيَّ شَيْءٍ، يَجِبُ عَلَيَّ جَمْعُ الْمَعْلُومَاتِ أَوَّلًا.
لِحُسْنِ الْحَظِّ، كَبِيرُ الْخَدَمِ الَّذِي بَدَا صَارِمًا لَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ التَّجَوُّلِ.
لَكِنَّهُ أَرْسَلَ مَعِي شَخْصًا بِحُجَّةِ ‘إِرْشَادِي فِي الْقَلْعَةِ’.
قَوْلُهُ إِرْشَادٌ يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ مُرَاقَبَتِي لِكَيْ لا أَتَجَوَّلَ بِحُرِّيَّةٍ.
قَدَّمَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ بِاسْمِ بُرُودِي، وَقَالَ إِنَّهُ يَعْمَلُ تَحْتَ إِشْرَافِ كَبِيرِ الْخَدَمِ فِي إِدَارَةِ الْقَلْعَةِ.
وَانْضَمَّ إِلَيَّ بِيُوتِشِر بِحُجَّةِ حِمَايَتِي، ثُمَّ لَحِقَ بِنَا تِرِيُون أَيْضًا لِمَنْعِ وُقُوعِ أَيِّ طَارِئٍ.
كَانَ هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يَتَجَوَّلُونَ دَاخِلَ الْقَلْعَةِ، وَعِنْدَمَا رَأَوْنَا، حَيَّوْنَا بِصَمْتٍ.
رَغْمَ أَنَّ مِسَاحَةَ الْقَلْعَةِ لا تَصِلُ لِخُمْسِ مِسَاحَةِ فَالْبُرُوغَا، إِلا أَنَّ عَدَدَ الْخَدَمِ بَدَا أَكْبَرَ بِخَمْسِ مَرَّاتٍ.
‘لِهَذَا السَّبَبِ لا تِزَالُ هُنَاكَ مَنَاطِقُ كَثِيرَةٌ فِي فالورجا تَتَرَاكَمُ فِيهَا الأَتْرِبَةُ.’
ثُمَّ لاحَظْتُ فَجْأَةً أَنَّ نَظَرَاتِ الْخَادِمَةِ الَّتِي تُحَيِّينِي تَتَّجِهُ إِلَى خَلْفِي.
عِنْدَمَا الْتَفَتُّ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَى تِرِيُون وَبِيُوتِشِر.
وَبَعْدَ أَنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، شَعَرْتُ أَنَّ نَظَرَاتِ الْكَثِيرِ مِنَ الْخَادِمَاتِ كَانَتْ مُوَجَّهَةً نَحْوَنَا.
‘أَوْه، لِمَاذَا؟ آه.’
بِالتَّفْكِيرِ فِي الأَمْرِ، كِلاهُمَا كَانَ وَسِيمًا.
فِي حِينِ أَنَّ بِيُوتِشِر كَانَ وَسِيمًا بِشَعْرِهِ الْبُنِّيِّ وَمَلامِحِهِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الارْتِيَاحِ، كَانَ تِرِيُون وَسِيمًا مِنَ النَّوْعِ الأَنِيقِ بِشَعْرِهِ الأَشْقَرِ.
وَرَغْمَ كَثْرَةِ النَّاسِ فِي قَلْعَةِ مَاتِيك، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُضَاهِيهِمَا وَسَامَةً.
‘بِالطَّبْعِ، الأَكْثَرُ وَسَامَةً هُوَ لوس.’
إِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْوَسَامَةِ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَنَا أَتَشَوَّقُ لِرُؤْيَتِهِ عِنْدَمَا يَكْبَرُ.
بِمُجَرَّدِ أَنْ يَبْدَأَ لوس ظُهُورَهُ فِي الْمُجْتَمَعِ الرَّاقِي، سَيَنْقَلِبُ الْعَالَمُ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ.
لَكِنْ إِذَا كَانَ لَدَيْهِنَّ اهْتِمَامٌ بِبِيُوتِشِر وَتِرِيُون، فَلِمَاذَا يَشْعُرْنَ بِالذُّعْرِ عِنْدَمَا تَلْتَقِي أَعْيُنُهُنَّ بِعَيْنَيَّ؟
“هِمْ…”
عِنْدَمَا أَمَلْتُ رَأْسِي بحثًا عَنِ السَّبَبِ، قَامَتِ الْخَادِمَاتُ بِتَغْطِيَةِ أَفْوَاهِهِنَّ بِأَيْدِيهِنَّ.
هَلْ فَعَلَ بِيُوتِشِر شَيْئًا حِينَمَا لَمْ أَكُنْ أَنْظُرُ؟
الْتَفَتُّ نَحْوَ بِيُوتِشِر، فَوَجَدْتُهُ يَرْمِشُ بِبَرَاءَةٍ.
وَلأَنَّنِي لَمْ أَفْهَمِ السَّبَبَ، اكْتَفَيْتُ بِالابْتِسَامِ لِلْخَادِمَاتِ اللَّاتِي الْتَقَتْ أَعْيُنُهُنَّ بِي.
حِينَهَا، بَدَأَتِ الْخَادِمَاتُ بِالصُّرَاخِ وَخَبَّأْنَ وُجُوهَهُنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ.
يَا إِلَهِي، كَيْفَ لَهُنَّ الصُّرَاخُ هَكَذَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ وَجْهِي.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، سُرْعَانَ مَا شَعَرْتُ بِالْمَلَلِ مِنْ رُؤْيَةِ أَنْحَاءِ الْقَلْعَةِ.
فَمَهْمَا كَانَتْ قَلْعَةُ مَاتِيك مُدَارَةً جَيِّدًا، إِلا أَنَّهَا لا تَرْقَى لفالروجا.
حَتَّى لَوْ تَمَّ بَيْعُ كُلِّ التُّحَفِ الْفَنِّيَّةِ، فَلا يُمْكِنُ بَيْعُ أَعْمِدَةِ قَلْعَةِ الدُّوقِ.
لأَنَّ قَلْعَةَ دُوقِ فالروجا الَّتِي بُنِيَتْ بِلَمَسَاتِ حِرَفِيِّينَ مُبْدِعِينَ، كَانَ كُلُّ عَمُودٍ فِيهَا بِمَثَابَةِ تُحْفَةٍ فَنِّيَّةٍ.
لَكِنْ كَانَ لَدَيَّ هَدَفٌ آخَرُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ.
“بَدَلًا مِنْ هَذَا، أُرِيدُ رُؤْيَةَ الأَشْخَاصِ الَّذِينَ تُسَمُّونَهُمُ الْحِرَفِيِّينَ.”
“الْحِرَفِيِّينَ؟”
بَدَا بُرُودِي حَذِرًا.
يَبْدُو أَنَّ الْبَارُونَ مَاتِيك يَهْتَمُّ بِحِرَفِيِّيهِ حَقًّا.
وَلِتَقْلِيلِ حَذَرِهِ، ابْتَسَمْتُ كَفَتَاةٍ لا تَعْرِفُ شَيْئًا عَنْ أُمُورِ الْعَالَمِ وَأَوْمَأْتُ بِرَأْسِي.
“نَعَمْ. لَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ سُيُوفَ مَنْطِقَةِ مَاتِيك مَشْهُورَةٌ. أُرِيدُ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ صُنْعِ السُّيُوفِ.”
عِنْدَ رُؤْيَةِ ابْتِسَامَتِي، ارْتَسَمَتْ ابْتِسَامَةٌ عَلَى شَفَتَيْ بُرُودِي.
يَبْدُو أَنَّ تَمْثِيلِي كَانَ نَاجِحًا جِدًّا، فَقَدْ كَانَتْ ابْتِسَامَتُهُ تَقُولُ: ‘مَاذَا سَتَفْهَمِينَ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ’.
انْخَفَضَ حَذَرُهُ نَحْوِي تَمَامًا، وَبِفَضْلِ ذَلِكَ، أَوْمَأَ بُرُودِي بِرَأْسِهِ مُوَافِقًا.
“حَسَنًا. تَقَضَّلِي بِاتِّبَاعِي.”
كَانَتِ الْقَرْيَةُ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْحِرَفِيُّونَ تَقَعُ فِي ضَوَاحِي الْقَلْعَةِ.
وَبِمَا أَنَّهَا كَانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الشَّارِعِ، فَقَدْ بَدَا مِنَ الصَّعْبِ لِقَاءُ أَشْخَاصٍ آخَرِينَ.
كَانَتِ الْمَنْطِقَةُ الْمُحِيطَةُ بِالْقَرْيَةِ تَخْضَعُ لِحِرَاسَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ.
‘يَا لَهَا مِنْ إِدَارَةٍ صَارِمَةٍ.’
عِنْدَمَا أَظْهَرَ بُرُودِي الْبِطَاقَةَ، أَدَّى الْفُرْسَانُ التَّحِيَّةَ وَفَتَحُوا الْبَابَ.
“وَاااو.”
كَانَتْ قَرْيَةُ الْحِرَفِيِّينَ حَقًّا قَرْيَةً بِأَكْمَلِهَا.
كَاانغ! كَاانغ!
أَصْوَاتٌ صَاخِبَةٌ لِطَرْقِ الْمَعَادِنِ وَأَفْرَانٌ ضَخْمَةٌ.
عَرَبَاتٌ مُحَمَّلَةٌ بِالْخَامِ تَمُرُّ بِسُرْعَةٍ فِي الشَّوَارِعِ، وَرَأَيْتُ أَيْضًا أَشْخَاصًا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ سُيُوفٍ تَمَّ صُنْعُهَا بِالْفِعْلِ.
شَعَرْتُ وَكَأنَّنِي دَخَلْتُ إِلَى قَلْبِ مَصْنَعِ حِدَادَةٍ ضَخْمٍ.
“أُرِيدُ رُؤْيَةَ السُّيُوفِ. هَلْ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ؟”
“بِالطَّبْعِ.”
عِنْدَمَا أَشَارَ بُرُودِي، اقْتَرَبَ رَجُلٌ كَانَ يَدْفَعُ عَرَبَةً مُحَمَّلَةً بِالسُّيُوفِ مِنْهُ.
بَدَتِ السُّيُوفُ حَادَّةً لِلْغَايَةِ، لَكِنَّنِي لا أَفْهَمُ فِيهَا كَثِيرًا فَجَمِيعُهَا تَبْدُو حَادَّةً فِي عَيْنَيَّ.
“بِيُوتِشِر، مَا رَأْيُكَ؟ أَنْتَ تَفْهَمُ فِي السُّيُوفِ أَكْثَرَ مِنِّي.”
سَلَّمَ بُرُودِي سَيْفًا وَاحِدًا لِبِيُوتِشِر.
قَامَ بِيُوتِشِر بِتَوْجِيهِ نَصْلِ السَّيْفِ نَحْوَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، ثُمَّ نَقَرَ عَلَيْهِ بِإِصْبَعِهِ لِيَسْمَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ أَبْدَى إِعْجَابَهُ.
“هَذَا جَيِّدٌ حَقًّا؟ رَغْمَ أَنَّنِي لا أَسْتَطِيعُ وَصْفَهُ بِالسَّيْفِ الأُسْطُورِيِّ، إِلا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ كَافٍ لِيَسْتَخْدِمَهُ الْجُنُودُ الْعَادِيُّونَ. وَلَكِنْ بِمَا أَنَّهُ مِنْ صُنْعِ عائِلَةِ مَاتِيك، فَسِعْرُهُ سَيَكُونُ مُرْتَفِعًا قَلِيلًا.”
عِنْدَ سَمَاعِ كَلامِ بِيُوتِشِر، أَخْرَجَ كَامَانغِي رَأْسَهُ قَلِيلًا مِنَ الْكِيسِ لِيُشَاهِدَ السَّيْفَ.
قَالَ بُرُودِي وَهُوَ يَسْتَعِيدُ السَّيْفَ مِنْ بِيُوتِشِر:
“لا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ. فَقَلْعَتُنَا تَصْنَعُ السُّيُوفَ بِاسْتِخْدَامِ الْحَدِيدِ الصَّلْبِ النَّقِيِّ فَقَطْ.”
“الْحَدِيدُ الصَّلْبُ؟ هَلْ صُنْعُهَا مِنْهُ يَجْعَلُهَا أَفْضَلَ؟”
عِنْدَمَا سَأَلْتُ، شَرَحَ بِيُوتِشِر:
“السُّيُوفُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ الْحَدِيدِ الصَّلْبِ النَّقِيِّ تَمْتَازُ بِصَلابَةٍ أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ السُّيُوفِ الْمَمْزُوجَةِ بِمَعَادِنَ أُخْرَى. وَلَكِنَّ سِعْرَهَا يَكُونُ أَغْلَى طَبْعًا.”
“وَكَيْفَ نَعْرِفُ ذَلِكَ؟ لا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ بِالْعَيْنِ الْمُجَرَّدَةِ.”
“نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ خِلالِ وَزْنِهِ. لِذَلِكَ نَحْنُ نَقُومُ دَائِمًا بِوَزْنِ السُّيُوفِ قَبْلَ شَحْنِهَا.”
“فَهِمْتُ.”
“وَالأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تِجَارَتَنَا تَقُومُ عَلَى ثِقَةِ عُمَلائِنَا.”
قَالَ بُرُودِي ذَلِكَ بِفَخْرٍ وَهُوَ يَرْفَعُ صَدْرَهُ.
“لَقَدْ قَامَتْ عائِلَةُ مَاتِيك بِتَوْرِيدِ السُّيُوفِ لِلْعائِلَةِ الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ لِسَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ. وَتَمَّ مَنْحُنَا لَقَبَ الْبَارُونِ تَقْدِيرًا لِهَذِهِ الْجُهُودِ. وَالآنَ، يَثِقُ النُّبَلاءُ الآخَرُونَ بِعائِلَتِنَا وَيَطْلُبُونَ السُّيُوفَ مِنَّا.”
“هَذَا مُذْهِلٌ.”
تِلْكَ الثِّقَةُ هِيَ ثَرْوَةٌ كَبِيرَةٌ لا يُمْكِنُ بِنَاؤُهَا بَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحَاهَا.
عِنْدَمَا تَعَمَّقْنَا أَكْثَرَ فِي الْقَرْيَةِ، بَدَأْنَا نَرَى عَمَلِيَّةَ صُنْعِ السُّيُوفِ بِشَكْلٍ فِعْلِيٍّ.
رِجَالٌ نِصْفُ عُرَاةٍ يَطْرُقُونَ الْحَدِيدَ الْمُحْمَرَّ بِالنَّارِ.
مَعَ كُلِّ ضَرْبَةِ مِطْرَقَةٍ، كَانَ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
رَغْمَ تَسَاقُطِ الشَّرَرِ عَلَى سَوَاعِدِ الْحِرَفِيِّينَ وَمَلابِسِهِمْ، إِلا أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْرُقُونَ السُّيُوفَ دُونَ اكْتِرَاثٍ وَكَأَنَّهُمْ لا يَشْعُرُونَ بِالْحَرَارَةِ.
كُنْتُ أَرْغَبُ فِي مُشَاهَدَةِ عَمَلِيَّةِ الصُّنْعِ مِنْ مَكَانٍ أَقْرَبَ، لَكِنَّ الأَمْرَ كَانَ مُسْتَحِيلًا.
فَمُجَرَّدُ الاقْتِرَابِ كَانَ سَيُسَبِّبُ حُرُوقًا.
مَرَرْنَا بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَشْكِيلِ الْحَدِيدِ، ثُمَّ رَأَيْنَا أَشْخَاصًا يَقُومُونَ بِغَمْرِ الْحَدِيدِ فِي الْمَاءِ.
“مَاذَا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ؟”
“إِنَّهُمْ يَقُومُونَ بِعَمَلِيَّةِ التَّسْقِيَةِ. هَذَا يَجْعَلُ السَّيْفَ أَكْثَرَ صَلابَةً.”
أَوْمَأْتُ بِرَأْسِي لِكَلامِ بُرُودِي، ثُمَّ حَاوَلْتُ التَّحَدُّثَ مَعَ رَجُلٍ مُسِنٍّ كَانَ يَجْلِسُ أَمَامَ الْمَاءِ.
“مَعْذِرَةً.”
فَجْأَةً، مَنَعَنِي بُرُودِي.
“أَرْجُو أَلا تَتَحَدَّثِي مَعَ الْعُمَّالِ أَثْنَاءَ عَمَلِهِمْ. فَهُمْ يَصْنَعُونَ سِلَعًا مُهِمَّةً وَتَرْكِيزُهُمْ ضَرُورِيٌّ جِدًّا.”
قَالَ بُرُودِي ذَلِكَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، لَكِنَّ عَيْنَيْهِ كَانَتَا تُحَذِّرَانِي بِوُضُوحٍ.
‘يَا لَلْعَجَبِ. هَلْ يَخْشَى أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْهِمُ الانْضِمَامَ إِلَيَّ؟’
رَغْمَ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَخْلُو مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ، إِلا أَنَّنِي لَمْ أَتَوَقَّعْ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا إِلَى هَذَا الْحَدِّ.
لَقَدْ كَانَتْ حِمَايَةُ الْحِرَفِيِّينَ مُبَالَغًا فِيهَا مُنْذُ حِرَاسَةِ الْمَدْخَلِ.
“إِذَنْ، هَلْ لا بَأْسَ بِأَنْ أُشَاهِدَ فَقَطْ بِعَيْنَيَّ؟”
“إِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلا بَأْسَ.”
رُبَّمَا كَانَ بُرُودِي وَاثِقًا مِنْ أَنَّنِي لَنْ أَكْتَشِفَ شَيْئًا بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ، لِذَا وَافَقَ بِسُهُولَةٍ.
ابْتَعَدْتُ عَنْ بُرُودِي بِبِضْعِ خَطَوَاتٍ وَبَدَأْتُ أُشَاهِدُ عَمَلِيَّةَ التَّسْقِيَةِ.
كَانَ الرِّجَالُ يَسْخَنُونَ الْحَدِيدَ مَرَّةً أُخْرَى فِي فُرْنٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَضَعُونَهُ فِي الْمَاءِ.
وَعِنْدَمَا يَلْتَقِي الْحَدِيدُ الْمُحْمَرُّ بِالْمَاءِ، يَصْدُرُ صَوْتُ تْشِيِيِيِييك وَيَرْتَفِعُ دُخَانٌ أَبْيَضُ.
بَدَأَ الدُّخَانُ يَتَصَاعَدُ فَوْقَ الْمَاءِ الصَّافِي.
فِي عَيْنَيَّ، كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو مُثِيرًا لِلادْهَاشِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ لِأَكْتَشِفَهُ.
لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الأَمْرَ كَانَ مُخْتَلِفًا فِي عَيْنَيْ كايمن.
‘هَذَا غَرِيبٌ.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"