تَأَمَّلَ تِرِيُون التَّقَدُّمَ الَّذِي سَجَّلَهُ الْمُعَلِّمُ السَّابِقُ وَشَعَرَ بِالاعْجَابِ.
“هَذَا مُذْهِلٌ يَا صَاحِبَ السُّمُوِّ، لَقَدْ قَطَعْتَ شَوْطًا كَبِيرًا فِي مَنْهَجِ تَارِيخِ الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ فِي غِيَابِي.”
لَوْ كَانَ طِفْلًا عادِيًّا فِي الْعَاشِرَةِ مِن عُمُرِهِ لَارْتَسَمَتِ السَّعَادَةُ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الثَّنَاءِ، لَكِنَّ لوس ظَلَّ صَامِتًا بِمَلامِحَ بَارِدَةٍ.
رُبَّمَا كَانَ أَيُّ شَخْصٍ آخَرَ سَيَشْعُرُ بِالارْتِيَابِ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي لا يُشْبِهُ تَصَرُّفَاتِ الأَطْفَالِ، لَكِنَّ تِرِيُون رَأَى فِيهِ هَيْبَةَ الْمُلُوكِ الْحَقِيقِيَّةِ.
فَالْمَلِكُ لا يَجِبُ أَنْ يَفْرَحَ أَوْ يَحْزَنَ لِكُلِّ كَلِمَةِ مَدِيحٍ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكْبَحَ مَشَاعِرَهُ وَيُحَافِظَ عَلَى وَقَارِهِ.
لَقَدْ مَضَى شَهْرَانِ فَقَطْ مُنْذُ أَنْ بَدَأَ تِرِيُون مُرَاقَبَةَ تَعْلِيمِ لوس بِشَكْلٍ جِدِّيٍّ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِمُسَاعَدَةِ الدُّوقِ السَّابِقِ.
وَكَانَ لوس الَّذِي عَرَفَهُ سَرِيعَ التَّعَلُّمِ وَمُتَفَوِّقًا لِلْغَايَةِ.
“إِذَنْ، سَنَتَعَلَّمُ الْيَوْمَ عَنْ إِنْجَازَاتِ الإِمْبِرَاطُورِ كُوسِير، كَانَ الإِمْبِرَاطُورُ كُوسِير هُوَ الْحَاكِمُ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلإِمْبِرَاطُورِيَّةِ…”
كَانَتْ دُرُوسُ تِرِيُون قَاسِيَةً، لَكِنَّ لوس كَانَ يَتْبَعُهَا دُونَ نَبَسِ بِبِنْتِ شَفَةٍ.
وَفِي النِّهَايَةِ عِنْدَمَا انْتَهَى الدَّرْسُ، تَحَدَّثَ تِرِيُون بِحَذَرٍ.
“سُمُوُّ الدُّوق، لَدَيَّ أَمْرٌ أُرِيدُ مُنَاقَشَتَهُ مَعَكَ بِخُصُوصِ السَّيِّدَةِ.”
“مَا هُوَ؟”
عِنْدَمَا جَاءَ ذِكْرُ فِيلِيَا، لَمَعَتْ عَيْنَا لوس بِاهْتِمَامٍ لأَوَّلِ مَرَّةٍ.
“هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ السَّيِّدَةَ تُدِيرُ شُؤُونَ مَنْزِلِ الدُّوقِ الآنَ؟”
“نَعَمْ.”
“وَأَنْتَ مَنْ وَكَّلْتَ إِلَيْهَا هَذِهِ الْمَهَمَّةَ؟”
“وَمَاذَا فِي ذَلِكَ؟”
“أَرْجُو أَنْ تَسْتَرِدَّ تِلْكَ السُّلْطَةَ مِنْهَا.”
“مَاذَا؟”
قَطَّبَ لوس حَاجِبَيْهِ.
وَبِمُجَرَّدِ أَنْ لاحَظَ تِرِيُون غَضَبَ لوس، تَابَعَ حَدِيثَهُ بِسُرْعَةٍ.
“وَضْعُ الْعَائِلَةِ الآنَ فِي خَطَرٍ، نَحْنُ فِي حَالَةٍ قَدْ نَتَعَرَّضُ فِيهَا لِلالْتِهَامِ دُونَ قُدْرَةٍ عَلَى الْمُقَاوَمَةِ. لَقَدْ تَحَقَّقْتُ مِنَ الأَمْرِ، وَتَصَرُّفَاتُ السَّيِّدَةِ مُؤَخَّرًا مُثِيرَةٌ لِلشُّبُهَاتِ. كَيْفَ لَهَا بَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ وُصُولِهَا أَنْ تَكْتَشِفَ اخْتِلاسَ فُروغ، وَتَكْشِفَ احْتِيَالَ عائِلَةِ الْمَارْكِيز لِيهُولاَس فَوْرًا؟ لا بُدَّ أَنَّ هُنَاكَ عائِلَةً تَدْعَمُهَا مِنْ خَلْفِ السِّتَارِ. إِذَا تَرَكْنَا الأَمْرَ هَكَذَا، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ الْعائِلَةَ الْمُرْتَبِطَةَ بِهَا سَتَبْتَلِعُ دُوقِيَّةَ فالروجا.”
كَانَ الْمَوْقِفُ يَدْعُو لِلشَّكِّ فِعْلًا.
وَآمَنَ تِرِيُون أَنَّ لوس سَيَتَّبِعُ كَلامَهُ.
لَكِنَّ رَدَّ لوس كَانَ عَلَى نَقِيضِ تَوَقُّعَاتِهِ تَمَامًا.
“وَمَا الْمُشْكِلَةُ فِي ذَلِكَ؟”
“عَفْوًا؟”
هَلْ كَانَ كَلامُهُ صَعْبَ الْفَهْمِ؟
ارْتَبَكَ تِرِيُون وَكَرَّرَ قَوْلَهُ.
“أَعْنِي أَنَّنَا إِذَا اسْتَمْرَرْنَا هَكَذَا، فَإِنَّ الْعائِلَةَ الَّتِي تَدْعَمُ السَّيِّدَةَ سَتَسْتَوْلِي عَلَى دُوقِيَّةِ فالروجا…”
“أَعْلَمُ، تَقْصِدُ أَنَّ الْعائِلَةَ الَّتِي تَقِفُ خَلْفَ نونا قَدْ تَأْخُذُ الدُّوقِيَّةَ بِأَكْمَلِهَا.”
‘إِذَنْ هُوَ لَمْ يُسِئِ الْفَهْمَ.’
“نَعَمْ، هَذَا صَحِيحٌ! أَنْتَ هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ لِلْعائِلَةِ، لِذَلِكَ…”
“أَنَا لا أَهْتَمُّ.”
“… مَاذَا؟”
رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ كَبِيرَ خَدَمٍ يَمْتَازُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَقْيِيمِ الأَوْضَاعِ بِبَرَاعَةٍ، إِلا أَنَّهُ لا يَعْرِفُ كَمْ مَرَّةً بَدَا فِيهَا أَحْمَقَ هَذَا الْيَوْمَ.
تَحَدَّثَ لوس بِوُضُوحٍ.
“لا يَهُمُّنِي إِنِ اسْتَحْوَذَتْ نونا عَلَى دُوقِيَّةِ فالروجا. سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ أَوْ تِلْكَ الْعائِلَةُ الَّتِي تَدْعَمُهَا كَمَا تَدَّعِي. إِذَا قَرَّرَتْ نونا فِعْلَ ذَلِكَ، فَأَنَا مُوَافِقٌ.”
“مَا هَذَا… لا، انْتَظِرْ لَحْظَةً يَا سُمُوَّ الدُّوق. أَرْجُو أَنْ تُعِيدَ النَّظَرَ. إِذَا تَرَكْتَ الأُمُورَ هَكَذَا، فَمَصِيرُ عائِلَةِ فالورجا هُوَ النِّهَايَةُ. سَتَخْتَفِي تَمَامًا فِي عَهْدِكَ.”
هَذَا أَمْرٌ لا يُعْقَلُ.
أَنْ يَقِفَ صَاحِبُ الْعائِلَةِ مَكْتُوفَ الأَيْدِي بَيْنَمَا تَضِيعُ عائِلَتُهُ.
نَظَرَ لوس إِلَى تِرِيُون بِنَظْرَةٍ بَارِدَةٍ.
رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ طِفْلًا أَصْغَرَ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، إِلا أَنَّ تِرِيُون شَعَرَ وَكَأَنَّ لوس يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ.
“هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّنِي لا أُدْرِكُ الْمَوْقِفَ لأَنَّنِي صَغِيرٌ؟”
“…”
“أَنَا أَعْرِفُ جَيِّدًا مَعْنَى الْعائِلَةِ، وَثِقَلَ لَقَبِ الدُّوقِ الَّذِي أَحْمِلُهُ. وَأَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّنِي سَيِّدُ هَذِهِ الْعائِلَةِ، وَإِذَا اتَّخَذْتُ قَرَارًا، فَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَاعَ لَهُ.”
أَدْرَكَ تِرِيُون حِينَهَا.
أَنَّ لوس يَفْهَمُ وَضْعَهُ بِدِقَّةٍ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الطَّرِيقَ.
“نونا لَيْسَتِ الشَّخْصَ الَّذِي يَسْلِبُ الْعائِلَةَ. وَحَتَّى لَوْ حَدَثَ مَا قُلْتَهُ، وَسَلَبَتْهَا ثُمَّ حَطَّمَتْهَا وَبَاعَتْهَا فِي أَيِّ مَكَانٍ، فَسَأَدْعَمُ قَرَارَهَا.”
“سُمُوُّ الدُّوق! هَلْ جُنِنْتَ حَقًّا؟!”
صَرَخَ تِرِيُون.
“جُنِنْتُ؟”
ابْتَسَمَ لوس ابْتِسَامَةً خَفِيفَةً.
رَغْمَ شُعُورِهِ بِالْيَأْسِ، إِلا أَنَّ تِرِيُون شَعَرَ بِقَشْعَرِيرَةٍ.
لَقَدْ رَأَى فِيهِ مَلامِحَ الْحَاكِمِ الْمُتَعَالِي وَالْمُسَيْطِرِ الَّذِي طَالَمَا تَمَنَّى رُؤْيَتَهُ فِي الدُّوقِ السَّابِقِ.
لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ رُؤْيَتَهَا فِي مَوْقِفٍ كَهَذَا.
“رُبَّمَا أَكُونُ مَجْنُونًا بِهَا إِذَنْ. إِذَا أَرَادَتْ نونا، فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِتَقْدِيمِ هَذِهِ الْعائِلَةِ لَهَا فِي مِغْلَفِ هَدِيَّةٍ. فَفِي النِّهَايَةِ، أَنَا وَهَذِهِ الْعائِلَةُ مَدِينُونَ لَهَا بِحَيَاتِنَا.”
شَعَرَ تِرِيُون بِالْيَأْسِ التَّامِّ.
لَكِنَّ كَلامَ لوس لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ.
“وَبِالْمُنَاسَبَةِ أَيُّهَا الْخَادِمُ.”
أَدَارَ لوس الْقَلَمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
“أَنَا أَرَى أَنَّ كَبِيرَ الْخَدَمِ الَّذِي يُحَاوِلُ الْوَقِيعَةَ بَيْنَ الدُّوقِ وَزَوْجَتِهِ هُوَ الأَكْثَرُ إِثَارَةً لِلشُّبُهَاتِ، أَلا تَعْتَقِدُ ذَلِكَ؟”
“…”
وَجَّهَ لوس سِنَّ الْقَلَمِ نَحْوَ تِرِيُون.
كَانَ مُجَرَّدَ قَلَمٍ عادِيٍّ فِي يَدِ طِفْلٍ، لَكِنَّ تِرِيُون شَعَرَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَكَأَنَّ سَيْفًا مُصَوَّبًا نَحْوَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْحَرَاكَ.
“إِذَا حَاوَلَ كَبِيرُ الْخَدَمِ الْمَسَاسَ بِالسَّيِّدَةِ، فَسَأَقْتُلُهُ لأَمْنَعَهُ.”
بَدَا الأَمْرُ كَتَهْدِيدٍ، لَكِنَّ لوس كَانَ يَائِسًا.
تَحْتَ رِعَايَةِ وَالِدَيْنِ غَيْرِ مُبَالِيَيْنِ، كَانَ لوس يَمُوتُ بِبُطْءٍ دَاخِلَ قَلْعَةٍ بَارِدَةٍ.
كَانَتْ زَوْجَتُهُ قَوِيَّةً، وَجَمِيلَةً، وَرَائِعَةً.
أَمَّا هُوَ، فَكَانَ صَغِيرًا، وَضَعِيفًا، وَمُجَرَّدَ عِبْءٍ.
فَمَاذَا لَوْ أَثَارَ هَذَا الْخَادِمُ غَضَبَهَا وَجَعَلَهَا تَرْحَلُ؟
إِذَا قَالَتْ فِيلِيَا إِنَّهَا تُرِيدُ الانْفِصَالَ عَنْهُ، فَلَنْ يَمْلِكَ لوس أَيَّ وَسِيلَةٍ لإِبْقَائِهَا.
“لا دَاعِيَ لِحُضُورِكَ الدُّرُوسَ بَعْدَ الآنَ. وَإِذَا اسْتَمْرَرْتَ فِي التَّفْكِيرِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، فَغَادِرِ الْقَلْعَةَ.”
قَرَّرَ لوس أَنَّ الْحَدِيثَ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ.
أَمْسَكَ تِرِيُون بِذِرَاعِ لوس وَهُوَ يَمُرُّ بِجَانِبِهِ، لَكِنَّ لوس دَفَعَهُ بَعِيدًا بِبُرُودٍ.
وَبَقِيَ تِرِيُون وَحِيدًا فِي الْغُرْفَةِ.
******************
“هَذَا… لا يُعْقَلُ أَبَدًا…”
كَانَ تِرِيُون يَتَمَرَّغُ عَلَى الأَرْضِ مُحْتَضِنًا زُجَاجَةَ خَمْرٍ.
“أَنَا… أُحَاوِلُ إِنْقَاذَ هَذِهِ الْعائِلَةِ… تَبًّا… !”
رَائِحَةُ الْخَمْرِ تَفُوحُ مِنْهُ وَوَجْهُهُ شَدِيدُ الاحْمِرَارِ.
لَقَدْ كَانَ ثَمِلًا تَمَامًا.
رَكَلَ بِيُوتِشِر تِرِيُون بِمَلَلٍ وَدَحْرَجَهُ عَلَى الأَرْضِ.
لَمْ يَفْهَمْ لِمَاذَا يَأْتِي هَذَا الْوَغْدُ إِلَى غُرْفَتِهِ عِنْدَمَا يَثْمَلُ بَدَلًا مِنْ أَنْ يَنَامَ فِي غُرْفَتِهِ.
“هِي، هَذَا مُزْعِجٌ، اذْهَبْ إِلَى غُرْفَتِكَ وَنَمْ.”
“لا… هَذَا غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ… لِمَاذَا بَحَقِّ السَّمَاءِ…؟ الدُّوقُ يَقُولُ إِنَّهُ سَيَبِيعُ الْعائِلَةَ… هَلْ يُعْقَلُ هَذَا…؟”
“مَاذَا؟ يَبِيعُ الْعائِلَةَ؟ لِمَنْ؟”
سَأَلَ بِيُوتِشِر بِدَهْشَةٍ، فَأَجَابَ تِرِيُون بَاكِيًا.
“لِلسَّيِّدَةِ! هِي، هِي هِي…”
“آه، مَاذَا، لَقَدْ أَخَفْتَنِي لِلاشَيْءِ. إِذَا كَانَتْ لِلسَّيِّدَةِ فَمَا الْمُشْكِلَةُ… ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَةَ هِيَ دُوقَةُ الْعائِلَةِ، هَلْ يُمْكِنُ بَيْعُ الْعائِلَةِ لَهَا؟ هَلْ سَتُصْبِحُ السَّيِّدَةُ هِيَ الدُّوقَ؟”
“مَاذَا، هَلْ أَنْتَ أَيْضًا تَنْحَازُ لِلسَّيِّدَةِ! هاه!”
أَشَارَ تِرِيُون بِإِصْبَعِهِ نَحْوَ بِيُوتِشِر.
“وَمَاذَا فِي ذَلِكَ. فَهِيَ سَيِّدَتُنَا عَلَى أَيِّ حَالٍ. مَا الْمُشْكِلَةُ فِي أَنْ أَنْحَازَ لَهَا قَلِيلًا.”
“السَّيِّدَةُ… هِيَ السَّيِّدَةُ فَقَطْ…! لَيْسَتِ الدُّوقَ…!”
“عَمَّا تَتَحَدَّثُ.”
حَكَّ بِيُوتِشِر أُذُنَهُ بِيَدِهِ.
لِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ السَّكْرَانُ مُزْعِجين.
“السَّيِّدَةُ… لا يَجُوزُ… إِذَا قَامَتِ السَّيِّدَةُ… هاه! بِالْتِهَامِ دُوقِيَّتِنَا بِالْكَامِلِ… مَاذَا سَنَفْعَلُ حِينَهَا…! هاه؟”
أَجَابَ بِيُوتِشِر عَلَى الْفَوْرِ.
“أَعْتَقِدُ أَنَّ الأَمْرَ سَيَكُونُ جَيِّدًا؟ فَهِيَ تُبْلِي بَلاءً حَسَنًا الآنَ.”
“أَيُّهَا الْوَغْدُ!”
“مَاذَا!”
صَرَخَ بِيُوتِشِر أَيْضًا دُونَ تَرَاجُعٍ.
“أَنْتَ… يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي صَفِّي، أَيُّهَا اللَّئِيمُ…”
نَظَرَ بِيُوتِشِر إِلَى تِرِيُون بِشَفَقَةٍ.
تَشَبَّثَ تِرِيُون بِسَاقِ بِيُوتِشِر وَهُوَ يَنْتَحِبُ.
عِنْدَمَا يَكُونُ فِي وَعْيِهِ، يَكُونُ بَارِعًا فِي عَمَلِهِ وَرَغْمَ غُرُورِهِ فَهُوَ شَخْصٌ جَيِّدٌ، لَكِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى كَائِنٍ مُزْعِجٍ عِنْدَمَا يَشْرَبُ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَضَيَا سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً مَعًا.
قَالَ بِيُوتِشِر تَقْدِيرًا لِتِلْكَ الصَّدَاقَةِ.
“اسْمَعْ يَا تِرِيُون.”
“مَاذَا…”
“تَوَقَّفْ عَنِ الشَّكِّ فِي السَّيِّدَةِ. لَوْ كَانَتْ شَخْصًا غَرِيبَ الأَطْوَارِ، لَكُنْتُ قَدْ لَاحَظْتُ ذَلِكَ أَنَا أَيْضًا.”
تَحَدَّثَ بِيُوتِشِر بِجِدِّيَّةٍ.
“أَلَمْ تَشْعُرْ… أَلَمْ تَشْعُرْ بِالارْتِيَابِ…؟ لَقَدْ كَشَفَتْ ذَلِكَ الاحْتِيَالَ بِسُهُولَةٍ كَبِيرَةٍ…؟”
“هَذَا الْوَغْدُ حَقًّا!”
رَكَلَ بِيُوتِشِر تِرِيُون بِقُوَّةٍ.
“مَنْ قَالَ لَكَ إِنَّ السَّيِّدَةَ اكْتَشَفَتِ الأَمْرَ بِسُهُولَةٍ! هَلْ تَعْلَمُ كَمْ عَانَتِ السَّيِّدَةُ؟! أَيُّ وَغْدٍ أَنْتَ! أَنْتَ هُوَ الْجَاسُوسُ بِتَأْكِيدٍ! هَلْ تَعْلَمُ كَمْ تَنَقَّلَتْ هُنَا وَهُنَاكَ بِجَسَدِهَا الضَّعِيفِ، وَكَمْ لَيْلَةً سَهِرَتْهَا؟”
كُلَّمَا تَكَلَّمَ، ازْدَادَ غَضَبُهُ.
رَكَلَ بِيُوتِشِر تِرِيُون بِقَدَمِهِ الأُخْرَى هَذِهِ الْمَرَّةَ.
“آخ…”
لَمْ يَسْتَطِعْ تِرِيُون حَتَّى الْمُقَاوَمَةَ، وَتَدَحْرَجَ مِنْ رَكَلاتِ بِيُوتِشِر.
“لأَنَّكَ لَمْ تَرَ ذَلِكَ، لَكِنَّ كُلَّ مَنْ فِي الْقَلْعَةِ يَعْرِفُونَ. كَمْ تَبْذُلُ السَّيِّدَةُ مِنْ جُهْدٍ، وَكَمْ تُفَكِّرُ فِي هَذِهِ الْقَلْعَةِ! هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْجَمِيعَ هُنَا أَغْبِيَاءُ!”
لَقَدْ رَأَى بِيُوتِشِر بِعَيْنَيْهِ.
فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَجرًا بَيْنَمَا الْجَمِيعُ نِيَامٌ، كَانَتِ السَّيِّدَةُ تُجْبِرُ عَيْنَيْهَا النَّاعِسَتَيْنِ عَلَى الْبَقَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ لِمُرَاجَعَةِ الْوَثَائِقِ.
قَبْلَ لِقَاءِ اتِّحَادِ تُجَّارِ فُوكْس، كَانَتْ تَتَدَرَّبُ مَعَ نَاوِل مِرَارًا وَتَكْرَارًا حَتَّى الصَّبَاحِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَرْتَكِبَ خَطَأً.
وَقَبْلَ إِجْرَاءِ الصَّفْقَةِ مَعَ الْمَارْكِيز لِيهُولاَس، كَانَتْ تَحْتَضِنُ الدُّوقَ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى يَهْدَأَ ارْتِجَافُهَا.
لَقَدْ رَأَى كُلَّ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لأَيِّ شَخْصٍ أَنْ يَشُكَّ فِيهَا؟
“لَوْ نَظَرْتَ إِلَى السَّيِّدَةِ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ لَمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَخَجِلْتَ مِنْ نَفْسِكَ وَلَمَا قُلْتَ مِثْلَ هَذَا الْكَلامِ.”
نَظَرَ تِرِيُون إِلَى السَّقْفِ دُونَ أَنْ يَنْبِسَ بِبِنْتِ شَفَةٍ.
“أَنَا أَفْهَمُ مَوْقِفَكَ، لَكِنْ لا تَحْكُمْ بِنَاءً عَلَى أَفْكَارٍ مُسْبَقَةٍ، وَانْظُرْ إِلَيْهَا جَيِّدًا وَلَوْ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.”
“انْظُرْ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ النَّاسِ هِيَ. وَإِذَا نَظَرْتَ جَيِّدًا وَمَا زِلْتَ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا لا تَسْتَحِقُّ الثِّقَةَ، فَتَعَالَ إِلَيَّ.”
رَفَعَ بِيُوتِشِر قَبْضَتَهُ.
“فَهَذَا لَنْ يَعْنِيَ سِوَى أَنَّ رَأْسَكَ هُوَ الْمُعَطَّلُ، وَسَأَقُومُ بِإِصْلاحِهِ تَقْدِيراً لِصَدَاقَتِنَا الْقَدِيمَةِ.”
أَنْ يَنْظُرَ ‘بِشَكْلٍ صَحِيحٍ’.
هَذَا هُوَ الأَمْرُ الصَّعْبُ حَقًّا.
لَكِنَّ تِرِيُون كَانَ يُحِبُّ هَذِهِ الْقَلْعَةَ، وَيُحِبُّ هَذِهِ الْعائِلَةَ.
إِذَا كَانَ الْجَمِيعُ يَتَحَدَّثُونَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ هَكَذَا، فَمِنْ وَاجِبِ كَبِيرِ الْخَدَمِ أَنْ يُعِيدَ التَّفْكِيرَ مَرَّةً أُخْرَى.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، اسْتَيْقَظَ تِرِيُون عَلَى الأَرْضِيَّةِ الْبَارِدَةِ.
لَقَدْ تَرَكَهُ بِيُوتِشِر يَنَامُ عَلَى الأَرْضِ بِالْفِعْلِ.
خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَكَأَنَّهُ يُطْرَدُ دُونَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ عَيْنَيْهِ جَيِّدًا وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَطْعَمِ، وَيَبْدُو أَنَّ الإِشَاعَاتِ قَدِ انْتَشَرَتْ، فَقَدْ قَدَّمَتْ لَهُ الْخَادِمَةُ الإِفْطَارَ دُونَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ.
“هِمْف!”
وَضَعَتِ الْخَادِمَةُ الأَطْبَاقَ بِقُوَّةٍ لِدَرَجَةِ أَنَّ الْحَسَاءَ تَنَاثَرَ هُنَا وَهُنَاكَ.
بَلْ إِنَّ الْحَسَاءَ لَمْ يَكُنْ يَحْتَوِي عَلَى قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخُضَارِ أَوْ اللَّحْمِ.
شَعَرَ تِرِيُون بِبَعْضِ الْحُزْنِ.
‘هَلْ هَذَا أَيْضًا مِنْ تَأْثِيرِ تِلْكَ السَّيِّدَةِ…؟’
تَنَاوَلَ تِرِيُون طَعَامَهُ وَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَكْتَبَةِ.
انْتَظَرَ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، لَكِنَّ لوس لَمْ يَأْتِ حَقًّا.
‘… يَبْدُو أَنَّ عَلَيَّ الاعْتِذَارَ لِسُمُوِّ الدُّوقِ أَيْضًا.’
لَمْ يَتَوَقَّعْ أَنْ يَرْفُضَ سُمُوُّهُ التَّعْلِيمَ حَقًّا.
مِنَ الدُّوقِ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الْقَلْعَةِ، كَانَ الْجَمِيعُ مَفْتُونِينَ بِالسَّيِّدَةِ.
حَسَنًا، إِذَا كَانَتْ تَمْلِكُ كُلَّ هَذِهِ الشَّعْبِيَّةِ، فَلا بُدَّ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا مُمَيَّزًا فِي تِلْكَ الزَّوْجَةِ.
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ تِرِيُون يُغَادِرُ الْمَكْتَبَةَ وَحِيدًا، وَقَعَتْ عَيْنَاهُ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الدُّوقِيَّيْنِ.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"