“ششّ!”
شهقت أديلين، ورفعت إصبعها إلى شفتيها.
“آه… أنا آسفة. ششّ، ششّ…”
ارتبك كبير الخدم هو أيضًا، فنظر سريعًا نحو الطفل.
ولحسن الحظ، لم يستيقظ الطفل، لعلّه كان قد غفا تَوًّا.
مقارنةً بما حدث قبل ليالٍ قليلة، حين كان يستيقظ باكيًا لمجرّد أن وتيرة الربت تغيّرت قليلًا… كان هذا تقدّمًا عظيمًا.
“فوووه… حين أفكّر في وريث العائلة، أقول بأنّه بحاجة للقاء إحداهنّ قريبًا، وإحضار سيّدة إلى بيت سيغيليون.
لكنّ السيّد… ليست لديه نيّة… إطلاقًا.”
“لرجل يبدو مستعدًا لفعل أيّ شيء من أجل العائلة… لماذا يتردّد فقط في هذا الشيء؟”
“كيف لي أن أعرف أعماق فكر السيّد…؟”
“لكن أظنّ… هناك الكثيرات المهتمّات به…”
“حقًا؟! أترين ذلك؟!”
اتّسعت عينا كبير الخدم واقترب منها متحمّسًا لكلمتها العابرة.
“أعني… إنّه وسيم… وجسدُه قوي… وعائلته ذات شأن… وثروته…”
“أليس كذلك؟! إذًا… لماذا لم تتقدّم أيّ منهنّ وتعترف بحبّها؟”
“آه…”
في تلك اللحظة… انكشف السرّ المحجوب منذ زمن عن حياة سيّد عائلة سيغيليون العاطفيّة.
ساد الصمت العميق على أديلين.
رغم كثرة التكهنّات حول شؤون السيّد الرومانسيّة… لم يخطر ببال أحد أنّ السبب ببساطة… أنّه غير محبوب.
“لكن… أليس الأرستقراطيّون يتزوّجون بالترتيب غالبًا؟”
صحيح أنّ الزواج عن حبّ أخذ ينتشر… لكن الزواج المرتّب ما يزال قائمًا لدى من يقدّرون مكانة العائلة.
“لا يكون التوافق مناسبًا… أبدًا…”
“إلى أيّ حدّ قد يكون غير مناسب؟”
“إمّا أن تكون العائلات… أرستقراطيّة منهارة لا تملك سوى الاسم… أو عاميّة تملك المال فقط… هكذا دائمًا!”
“ماذا؟! ألا يبحثون عادةً عن تكافؤ في المكانة؟”
زفر كبير الخدم زفرة طويلة، وكأنّه يخرج سنينًا من الغصّة.
“عائلة سيغيليون صارت اليوم عائلة نبيلة راسخة… لكن مجتمع النبلاء المتعصّب ما يزال يرفض اعتبارنا نبلاء حقيقيين.
يقولون إنّهم لا يريدون مصافحة يدٍ تفوح منها رائحة الحديد وما شابه من الهراء! هااه! صدقًا!”
“حتى أمور كهذه…؟”
“أوه، لا تفتحي عليّ هذا الباب!”
“حين ألتقي بخدم بيوت أخرى صدفة… يتصرّفون بتعالٍ… لأنّهم يظنّون أنّي نبيل أنا أيضًا.”
“أفهم…”
والأمر ذاته يحدث مع بعض الخادمات…
يختلن بأنّ السيّدة التي يخدمنها شخصيّة مهمّة… فيتصرّفن بغرور… ثم يتسبّبن بطرد أنفسهنّ.
“لهذا… حتى إن وصلت عروض الزواج… فهي… تافهة.
لو أنّ السيّدة لم ترحل باكرًا…”
مسح كبير الخدم دمعة انحدرت غصبًا.
أطرقت أديلين نادمة لأنها أثارت الموضوع.
“على أيّ حال… حين تنتهي الحرب تمامًا… سيتمكّن سيّدنا أخيرًا من حضور المناسبات الاجتماعيّة.”
هبط قلب أديلين فجأة.
فكبير الخدم لا يعلم…
الحرب لن تنتهي إلّا حين يُقبض على عمّ هذا الطفل.
ولن يعلم أحد أبدًا أنّ أديلين… للحظة خاطفة من خوفٍ وشفقة… كادت تخون وطنها.
“لكن… لعلّه لن يعود إلى ساحة المعركة قريبًا، أليس كذلك؟”
“ليته لا يعود… بل ليت الأمور تنتهي هكذا.
سيّدنا… إذا عزم على شيء… أبدع فيه.
أضمن لكِ… إن شارك في المجتمع… ستتسابق النساء للفوز بقلبه!”
“هاها… سيكون ذلك رائعًا… بل أنا واثقة أنّه سيحدث.”
بدأ خيال أديلين يسرح بمن سيتزوّجها السيّد… ستكون على الأرجح جميلة، ومن عائلة مرموقة…
لكن شخصيّتها؟ قوية؟ أم لطيفة؟
مهلًا…
إن تزوّج السيّد… فهذا يعني أنّني سأتحرّر!
ضربتها الفكرة كالصاعقة.
حتّى لو بقي الطفل في القصر…
فالسيّدة الجديدة لن تسمح لها بمشاركة الغرفة مع السيّد…
وسيمنحها ذلك فرصة للهرب من هذه الحياة!
“…أتمنّى حقًا أن يلتقي السيّد بامرأة عظيمة… ويتزوّج قريبًا!”
تغيّرت أولويّات أديلين تمامًا.
زواجها؟ لاحقًا.
زواج السيّد؟ ضرورة مُلحّة وفوريّة!
الطفل هبط من السماء…
أفلا تهبط الزوجة من السماء أيضًا؟!
لكن بدل الزوجة… هبط وابل المطر.
***
“يا له من يوم مثالي للكمائن…”
تمتم راكالْت، وهو يحدّق بالسماء المظلمة خلف نافذته.
سوء الطقس عطّل نشاطات الفرسان…
ولا استدعاء من القصر…
فلم يجد بدًّا من قضاء اليوم كله محبوسًا في غرفته.
“لم تقع أيّ هجمات منذ أسبوع.
ولم نرصد أيّ تحرّكات مريبة.”
“وماذا عن أخبار الجنرال كياس؟”
“لا جديد… نعتذر.”
رغم فراغ وقته… لا مجال للاسترخاء.
كان يقلّب القلم بين أصابعه، يراجع تقارير العيون والفرسان.
كان يظنّ أنّ الأمور ستستقيم فور القبض على وليّ العهد…
لكن شيئًا لم يسر كما خُطّط.
الجنرال كياس اختفى بعد مواجهة خاطفة…
وخطط العدو الداخلية صارت أكثر هدوءًا مما يفترض.
“هممم…”
أصدر راكالْت تمتمة تفكيرٍ ثقيلة.
الفرسان وقفوا جامدين كالأعمدة.
وأديلين تحدّق بهم منذ ساعات…
حتى كاد يداخلها إحساس بأنّ عليها أن تصبح عمودًا مثلهم!
“آوااا!”
“أوغ— صغيري! آسفة! آسفة!”
لكن بوجود طفلٍ بين ذراعيها… يستحيل الثبات.
كان طبيعيًا أن يُصدر الصغار ضجّة…
لكن في هكذا أجواء… كانت أديلين تعتذر فورًا من شدّة التوتر.
الفرسان… ليسوا مرعبين كسيّدهم…
لكن كثرتهم وحدّة نظراتهم… كافية لترعبها.
“واااه! واااه!”
تردّد بكاء الطفل عاليًا في الغرفة…
غير آبهٍ بمشاعر أحد.
“هيا يا صغير… ششّ… فلنهدأ قليلًا…”
“وااااااه!”
يا لها من لحظة مثالية لإظهار دمٍ ملكيّ لا يخضع!
إن أراد البكاء… بكى.
وصوته… كفيل بإيقاف فارس عن الحديث!
تجمّدت أنظار الجميع على أديلين والطفل.
وتمنّت أديلين لو ترمي نفسها وتبكي معه!
لو كان بإمكانهما الخروج قليلًا…
ربما استطاعت تشتيت الطفل بمناظر جديدة.
لكن بين جدران الغرفة… انعدمت الخيارات.
الملل يلتهم الطفل سريعًا… فيصرخ.
“انظر هنا يا صغير! ما هذا؟ ماذا ترى؟”
فكحيلة أخيرة… رفعت تنورتها قليلًا وأخذت ترقص أمامه.
أرجوك… ارحمني ولو بالفضول!
“جوه… أووا…”
لحسن الحظ… أثار رقصها البائس اهتمامه.
حدّق الفرسان مذهولين…
وأديلين لم تهتم.
فالمهم وجود سكوت.
“هاااه…”
مسحت العرق عن جبينها، وجلست مُنهكة.
الطفل زحف نحوها، ومدّ يديه.
احمليني…
واضحة وضوح الشمس.
تنهدت وحملته.
فرفض الحمل يعني عاصفة بكاء جديدة…
وذاك جحيم لا تطيقه.
“أوووه…”
العناية بالطفل… ليست إنهاك طاقة فقط…
بل تدمير عضلات أيضًا.
كان يكبر يومًا بعد يوم…
وأذرعها على وشك الانفصال!
أطلقت شهقة ألم صغيرة.
هل سأستطيع حتى رفع الملعقة وقت الطعام؟!
وبينما هو يقفز مرحًا في حضنها…
أحست بأنّ عضلاتها تتمزّق.
نظرت نحو أذرع السيّد والفرسان…
كلّ تلك العضلات… يا لروعتها…
ثم فجأة… التقت عيناها بعيني السيّد.
فأدارت وجهها فورًا.
صارت عادة… جسدها يتيبّس كلما رأته.
لكن… لماذا ينظر إليّ؟
السيّد عادةً يتجاهلها بالكامل…
وكأنّها كائن تائه في المكان.
لا يلاحظها إلّا حين تزعجه أو تصدر صوتًا.
والآن… الطفل هادئ…
فما الذي أثار نظره؟
أحسّت بحرارة تسري في وجنتيها…
حاولت التركيز على الطفل…
لكن نظراته كانت واضحة…
وهي تُشعرها بضيق في النفس.
“أديلين.”
“ن… نعم، سيّدي؟”
“هل الطفل بخير؟ يبدو منزعجًا.”
ارتجف قلبها.
“نعم، سيّدي! فقط شعر بالملل قليلًا… فحاولت الترفيه عنه. لقد… رقصت له…”
ارتفع طرف فم راكالْت… ابتسامة خفيفة للغاية.
“رقص، إذًا؟”
نبرة صوته… أكثر ليونة من المعتاد.
“ن-نعم، سيّدي…”
وازداد احمرار وجنتيها.
“يبدو أنّه مُفيد…”
ساد الصمت لحظة…
ثقلها كاد يخنقها.
تحرّك الفرسان قليلًا…
إلا أنّ الجو ظلّ مشحونًا.
سرقت نظرةً نحوه…
فوجدته يحدّق بها بتركيزٍ غريب.
“حسنًا.” قال بصوت منخفض.
“تأكّدي فقط ألّا يزعج الآخرين.
وسأرى ما يمكنني فعله… للترفيه عنه بنفسي.”
رمشت أديلين بدهشة.
“أ… أنت، سيّدي؟ تريد أن…؟”
“نعم.”
اعتدل واقفًا، وتقدّم.
“لديّ طريقتي.”
مدّ يديه إليها.
فتردّدت لحظة…
ذراعاها تؤلمانها، لكنها… متردّدة!
مع ذلك… كانت تدري أنّه قادر على التعامل معه.
سلّمته الطفل بحذر.
تفحّصه الطفل قليلًا…
ثمّ تثبّت في حضن راكالْت دون أيّ اعتراض.
“هكذا…” تمتم السيّد وهو يثبّته جيّدًا.
“والآن… لنرَ ما يمكنني فعله لإضحاكك.”
حدّقت أديلين مذهولة…
السيّد… يغيّر ملامحه!
يُحرّك وجهه بسخافة!
وضحك الطفل… ضحكًا صافيًا مُدهشًا.
وابتسمت أديلين دون أن تشعر…
دفء لطيف انساب في صدرها.
وتغيّر الجوّ.
وصار كل شيء… أخفّ.
ربما… الأمور ليست سيّئة كما تخيّلت.
وربما… راكالْت ليس ذاك الجدار الجلموديّ كما ظنّت.
تحت قسوته… قلب يستطيع التواصل… ولو مع طفل.
في تلك اللحظة…
انبثق أمل صغير في قلبها.
ربما المستقبل… ليس كلّه تعبًا ووحدة.
ربما هناك فسحة للفرح… للدفء…
وربّما… لابتسامات غير متوقّعة.
بينما واصل راكالْت اللعب مع الصغير…
انسحبت أديلين قليلًا…
تسمح لنفسها بأن تتنفّس.
لن تفكّر الآن بالمخاوف التي تنتظرها.
ففي هذه اللحظة…
ثمّة رابط صغير ينشأ…
يكفي ليُشعرها بأنّ الحياة… ما تزال قادرة على الابتسام.
التعليقات لهذا الفصل " 15"