أنزلت أديلين عينيها بسرعة بتوتّر.
حتى وإن كان رجلًا، فالتحديق بهذا الشكل الصريح في جسد شخص آخر بدا أمرًا غير لائق.
والحمد لله أنّ سيّدها لم يقل شيئًا وتجاوز الأمر بصمت.
“كيف لا يكون هذا أمرًا خطيرًا؟”
قال الخادم بنبرة صارمة وهو يلتصق بجانب راكالت.
راح ينزع الضمادات واللواصق بعناية، وقد بدا وجهه جادًا كأنّه جرّاح يُجري عملية خطيرة.
الجو المشحون جعل أديلين تنظر نحو راكالت بتوتر بالغ.
“آآه!”
فالجرح كان أكبر وأعمق مما توقّعته.
كان أحمر قانيًا ممزقًا، والدم لا يزال يتسرّب منه.
ارتجفت أديلين وأطبقت عينيها لا إراديًا، وكأنّ الألم انتقل إلى جسدها هي.
نظر راكالت إليها وأطلق ضحكة متعجّبة خفيفة.
هل يُعقل أن يكون هناك أحد أكثر خوفًا منها؟
“يبدو أنّ الشفاء سيستغرق وقتًا طويلًا، يا سيّدي. علينا استدعاء الطبيب فورًا…”
“قلتُ إنني بخير.”
“لكن إن ساء الوضع…”
“إن علم الناس بأن إصابتي خطيرة، فسيُشجّع ذلك على المزيد من الهجمات.”
“داخل القصر لا بأس، لكن في الخارج… عليّ أن أفترض بأن كل من يملك عينين يراقبني.”
“…نعم، يا سيّدي.”
كانت أديلين تصغي خلسة لما يدور بين السيّد وخادمه، ثم رفعت نظرها بخجل.
الذي يتألم هو سيّدها… لا الخادم.
إذًا فالسيّد يشعر بالألم فعلًا…
إنه ليس محصّنًا، بل يتحمّله.
ذلك جعلها تدرك فجأة كم أنّ حياة الجنرالات قاسية.
وإن كان هذا واضحًا بديهيًا… إلّا أنّ عدم رؤيتها لساحات الحرب جعلها لا تتصوّر ذلك.
“سأبدأ العلاج الآن.”
بدأ الخادم يعالج الجرح بهدوء.
وأخذت أديلين تتلصّص بنظرات جانبية خائفة.
وبعد لحظات من المراقبة… أمالت رأسها باستغراب.
هي ليست طبيبة… لكن حتى الشخص العادي يمكنه رؤية الخطأ.
فالمطهّر ينسكب هنا وهناك، والضمادات تُلصق بطبقات مشوّهة، واللفافات مرتخية تمامًا.
كان كل شيء يبدو مبعثرًا منذ البداية، لا بفعل الوقت… بل بفعل سوء مهارة الخادم.
هل هكذا سيُشفى الجرح؟
وبعد تردّد مئة مرّة… رفعت يدها أخيرًا.
“…آمم، عفوًا… هل لي أن أجرّب؟”
استدار الخادم نحوها مدهوشًا، يتصبّب عرقًا وهو يلاعب الضمادات كمن يصارع وحشًا.
“هاه؟ أديلين، أأنتِ تعرفين هذا؟”
لم يحاول حتى رفض عرضها بأدب.
لقد بلغ حدّ اليأس من نفسه.
“سـ… سأحاول فحسب.”
ربما لم تكن خبيرة… لكنّها على يقين أنّها ستفعل أفضل منه.
وكأنّ الخادم كان ينتظر هذا، سلّمها الضمادات وقفز مبتعدًا.
وضعت أديلين الرضيع على الأريكة بلطف، ثم اقتربت من راكالت.
“المعذرة… يا سيّدي.”
راقبها راكالت باهتمام بالغ.
الجبانة التي تُغمى عند رؤية الدم… تتطوّع الآن لمعالجته؟
هل تسعى لكسب رصيد؟
مهما كان قصدها… بدا ذلك لطيفًا بشكل ما.
أخفت أديلين ارتجاف يديها بصعوبة وهي تقترب منه.
فقد تدخلت لأنّها لم تحتمل المشهد… لكنّ لمس جسد سيّدها مباشرة جعلها ترتجف أكثر.
ارتجاف من الدم… وارتجاف من الجلد المجرّد أمامها.
وحين اقتربت أكثر من الجرح… نسيت ارتجافها وتجعّد جبينها.
فالجرح من قرب أبشع بكثير.
وليس هذا فحسب… بل هناك ندوب كثيرة متناثرة في أنحاء جسده.
هل كلها عولجت كما يبدو عليه هذا الجرح…؟
الكونت سيغيلون.
سيف الملك.
أعظم جنرالات تيبلون وأكثرهم إخلاصًا.
لكن خلف تلك الأسطورة… جسد مُرهق بجراح لا تُعد ولا تُحصى.
لم تكن حياة سيّدها براقة كما تبدو.
كل إنسان يعاني… لكنها اعتقدت أنّ أصحاب المكانات العالية يعيشون في ترف دائم وسعادة.
لكن الجسد لا يكذب…
كم من محنة مرّ بها ليصل لما هو عليه؟
أدركت أديلين فجأة أنّ هذا الرجل، الذي بدا يومًا كإله بعيد، إنّما هو بشر مثلها تمامًا.
“سأعيد تعقيمه أولًا.”
مدّت يدها نحو المطهّر… أو حاولت.
فما إن اقتربت حتى ارتجف راكالت فجأة.
“أوه! هل آلمك؟”
صرخت وهي لم تلمسه بعد!
“يحكّ.”
قطّب سيّدها وهو ينظر إليها.
لم يكن الألم…
بل موضعٌ لامسه نَفَس أديلين وشَعرها فسبّب له حكّة شديدة.
فهمت فورًا وابتعدت عنه بتوتر.
“…أعتذر.”
ثم مالت للخلف ومدّت ذراعها بحذر لتصل إلى الجرح دون أن تقترب كثيرًا.
ومع أنّ المطهّر كان لا بدّ أن يحرق الموضع المفتوح… لم يرتجف سيّدها أبدًا.
ظلّ جامدًا، كأنّ الأمر يجري على جلد شخص آخر.
والمفارقة أنّ أكبر ردّة فعل له كانت عندما لامسه شعرها فقط!
يا له من رجلٍ غريب.
لا يحتمل الحكّة… أكثر من الألم.
ولكي لا تزعجه مجددًا… عالجت أديلين الجرح بتركيز شديد واجتهاد.
وبذلك… تطهّر الجرح تمامًا.
وبطريقة غريبة… شعور أديلين بالرعب من تهديده الدائم لها: “أتريدين الموت؟” بدأ يخفّ قليلًا.
فالانتقام أفضل علاج على ما يبدو.
والبشر قادرون على التعايش مع كل شيء إن طال الزمن بهم.
مرت أيام قليلة… وبدأ كل من أديلين والطفل يعتادون حياتهم الجديدة.
“أيها الخادم… هذا حفاض الأمس… أتولى أمره؟”
“حسنًا.”
وباتت أديلين تفهم طريقة إدارة هذا البيت أكثر.
لكل بيت نظامه في التعامل مع الخدم.
فهناك من يكلّف خدمه بكل شيء… وهناك من لا يسمح لهم بلمس أي شيء.
وسيّدها من النوع الثاني.
يقوم بكل ما يخصّه بنفسه، ويترك للخادم أمورًا بسيطة كترتيب الغرفة.
والآن… ضمن ذلك الاستجابة لطلبات أديلين الصغيرة.
فليس بوسعها مغادرة غرفته أصلًا.
“وأيضًا… هل يمكن أن… تُحضر لي كوب عصير…؟”
“لقد قضيت ساعة ألاحق الرضيع زحفًا على أربع…
يداي ترتجفان… هل هذا مقبول؟”
“حاضر. ابقي هنا.”
في البداية… كان طلب أي شيء صعبًا عليها؛
فكانت تصمت وتتحمّل.
أمّا الآن… فقد صارت تجد الشجاعة لطلب ما تحتاجه.
“…شكرًا لك.”
رشفت العصير وهدأت أنفاسها أخيرًا.
أما الرضيع، فقد أصبح مرتاح في غرفة راكالت، يتشقلب ويصخب بلا توقف…
وبعد ساعات طويلة… نام أخيرًا.
“لقد أوشك السيّد على العودة.
من الجيّد أنّ الصغيرة نامت في الوقت المناسب.”
فمع أنّ راكالت هو من أمرهما بالبقاء هنا…
كانت أديلين تشعر بالحرج كلّما صرخت الصغيرة.
وبالمراقبة هذه الأيام… اكتشفت أنّ حياته منضبطة كالساعات.
يستيقظ قبل الفجر.
يعتني بنفسه.
يتدرّب.
ثم يراجع الرسائل والتقارير التي تأتيه من كل مكان.
بعدها ينطلق إلى مهامه مع الفرسان، وغالبًا يتناول وجباته في الخارج.
في العصر، يعود ليقضي وقتًا شخصيًا.
وما الذي يفعله حينها؟
الدراسة.
نعم… الدراسة!
لم ترَ بالغًا يستمر في الدراسة بعد الرشد إلّا لو كان عالمًا أو دارسًا.
وحسب قول الخادم… فإنّ راكالت لم يتوقف يومًا عن تعلّم استراتيجيات الحرب وإدارة الإقطاع منذ طفولته.
ثم يعود للتمرين مساءً، أو يذهب للقصر عند استدعائه… ويعود متأخرًا إن حدث ذلك.
وذلك هو الاختلاف الوحيد في روتينه الصارم.
“مذهل… بعد سنوات الحرب تلك… لا يأخذ يوم راحة واحد.”
“لقد عرفته طيلة حياتي… وما زلت أراه مذهلًا.”
“أليس كذلك؟ لا يزور أحدًا… ولا يبدو أنّ لديه أي دعوات اجتماعية.”
“آآآه…”
تفاجأت أديلين.
فهي أيضًا بلا أصدقاء…
لكن سيّدها نبيل!
ظنّت أنّ النبلاء يعيشون من أجل المناسبات الاجتماعية!
“لهذا السبب أشعر أنّ صدري سينفجر من القهر!!!”
صرخ الخادم فجأة، ممسكًا صدره بغضب مكتوم.
التعليقات لهذا الفصل " 14"