مرت الأيام التالية على “لي هانا” وكأنها في حلم مضطرب. كانت كلمات يونغ سوك ما تزال تدوي في عقلها، وكلما نظرت إلى “كيم بارام” وهو يجلس في مقعده الأمامي بهدوئه المستفز، شعرت برغبة عارمة في هز كتفيه وسؤاله: “هل هذا صحيح؟ هل تحبني حقاً؟”. لكن كبريائها كان دائماً يقف حائلاً، فكيف للفتاة الأكثر حيوية وثراءً في المدرسة أن تنحني لمنافسها البارد؟
قررت هانا أن تتبعه. لم يكن الأمر “تجسساً” كما أقنعت نفسها، بل كان “بحثاً علمياً” لكشف حقيقة هذا الشخص الذي يدّعي البرود. وفي أحد أيام الثلاثاء الممطرة، وبعد انتهاء الحصص الإضافية، رأته يغادر المدرسة وحيداً. لم يكن يحمل مظلة، بل كان يكتفي بوضع غطاء سترته السوداء فوق رأسه، ويمشي بخطوات هادئة تحت المطر المنهمر.
تبعته هانا من مسافة آمنة، وهي تمسك بمظلتها الوردية. رأت بارام يتوقف عند زقاق ضيق بالقرب من محطة الحافلات. كان هناك رجل عجوز يحاول جمع كراتين الورق المبللة التي بعثرتها الرياح. كان المشهد حزيناً، والمارة يسرعون الخطى دون التفات.
توقفت هانا خلف زاوية مبنى، واتسعت عيناها وهي تراقب ما يفعله “الآلة البشرية”. تقدم بارام نحو العجوز، وبدون أن ينطق بكلمة واحدة، بدأ بجمع الكراتين معه. لم يبالِ بملابسه التي ابتلت بالكامل، ولا بحذائه الذي غرق في طين الشارع.
”يا بني، اذهب.. ستمرض!” سمعت هانا صوت العجوز المرتعش.
رد بارام بصوته الرخيم الذي بدا دافئاً بشكل غريب في هذا الجو البارد: “لا بأس يا جدي، انتهينا تقريباً. اذهب أنت إلى الداخل وسأضعها لك تحت السقف.”
بعد أن انتهى، أخرج بارام من حقيبته مظلة صغيرة -تبين أنه كان يحمل واحدة طوال الوقت- وأعطاها للعجوز، ثم استدار ليمشي تحت المطر مجدداً، مبتلاً تماماً وضاماً ذراعيه إلى صدره من شدة البرد.
تجمدت هانا في مكانها. شعرت بوخزة قوية في قلبها. “لماذا يفعل هذا؟ ؟”. تذكرت كم مرة وصفته بالمتكبر والأناني أمام الجميع، وهو لم يكلف نفسه عناء الدفاع عن صورته.
بينما كانت غارقة في أفكارها، تعثرت قدمها بقطعة صخرية، فأصدرت صوتاً. التفت بارام بسرعة نحو مصدر الصوت. “من هناك؟”
لم يكن أمامها مفر. خرجت هانا من خلف الزاوية، وهي تحاول مداراة خجلها خلف مظلتها الوردية. “إنه.. إنه أنا.”
توقف بارام، وكان المطر يسيل على وجهه، وقطرات الماء تتعلق برموشه الطويلة وتنساب فوق الوحمة السوداء تحت عينه الرمادية التي بدت الآن أكثر عمقاً وحزناً. نظر إليها بذهول، ثم قال بنبرة جافة يحاول بها استعادة قناعه: “لي هانا؟ هل هوايتك الجديدة هي ملاحقة الناس في المطر؟”
صمت بارام للحظة، ونظر إلى المظلة الوردية التي تظللهما معاً، وإلى هانا التي كانت تنظر إليه بعينين عسليتين مليئتين بالقلق والغضب الممزوج بالشفقة. شعر بقلبه ينبض بقوة، كاد أن يسمع دقاته وسط صوت المطر.
”لا شأن لكِ بي،” قال وهو يحاول الابتعاد عن ظل مظلتها.
لكن هانا أمسكت بطرف سترته المبللة بقوة. “بلى، لي شأن! أنت منافسي، ولا أريد أن أفوز عليك لأنك مريض. أريد أن أهزمك وأنت في كامل قواك. رأيتك.. رأيت ما فعلته مع العجوز. ورأيتك قبل أيام مع الطالب الذي كان يبكي. لماذا تتظاهر بأنك شخص بارد المشاعر يا بارام؟”
تنهد بارام، ونظر إلى السماء الرمادية. “الناس يرون ما يريدون رؤيته يا هانا. وأنا لا أهتم بتصحيح نظرتهم. لقد اعتدت على ذلك، أن يُساء فهمي.. ولكن تلك نفسي وشخصيتي، ليس عليّ أن أغيرها لأرضي الجميع.”
”ولكن ذلك..!” صرخت هانا، ثم صمتت فجأة عندما أدركت أنها قد أساءت فهمه تماماً مثل الجميع، وأدركت في الوقت ذاته مدى قربها منه الآن. كانت رائحة المطر تمتزج برائحة عطره الهادئة، وشعرت بارتباك شديد يجعل الكلمات تفر من لسانها.
قالت بسرعة محاولة استعادة رباطة جأشها: “على أي حال، بما أنك بلا مظلة، سأوصلك إلى المحطة. لا تعترض، هذا أمر من الطالبة الأولى!”
مشيا معاً بصمت تحت المظلة الواحدة. كانت المسافة بين كتفيهما تتقلص مع كل خطوة، وشعرت هانا بأن هذا الصمت لم يكن مزعجاً كما ظنت، بل كان مليئاً بمشاعر لم تجد لها اسماً بعد.
عندما وصلا إلى المحطة، التفت بارام إليها قبل أن يصعد الحافلة. “شكراً يا هانا.. وعلى فكرة، شعرك الطويل الذي تخططين له في الجامعة.. أعتقد أنه سيليق بكِ أكثر.”
اتسعت عينا هانا بذهول. “كيف عرفت أنني أخطط لإطالته؟”
لم يرد بارام، بل اكتفى بنظرة غامضة ثم صعد الحافلة واختفى خلف زجاجها المبلل.
بقيت هانا واقفة في المحطة، والريح تعبث بشعرها البني القصير. شعرت بحرارة في قلبها رغم برودة الجو. “ذاك الوغد.. إنه يراقبني أيضاً!”
في تلك الليلة، لم تفكر هانا في اختبار الكيمياء، بل فكرت في بارام وهو يرتجف تحت المطر. كانت تدرك الآن أن خلف ذلك الجليد بركاناً من المشاعر، وأنها، لسبب لا تفهمه، أصبحت هي الوحيدة التي بدأت تلمس حممه.
لكنها لم تكن تعلم أن هذا اللطف الذي بدأ يذيب قلبها، سيكون هو نفسه السكين الذي سيجرحها عندما تبدأ العواصف الحقيقية في حياتهما بالظهور.
التعليقات لهذا الفصل " 3"