الفصل الخامس عشر: السقوط الأول.. وبداية الكابوس الطبي
استمر بارام في جدوله المنهك؛ متنقلاً بين أعماله الجزئية التي اختارها ليعيل عائلته دون أن يطلب المساعدة من أحد. لم تكن حالته المادية معدمة، بل كانت “سيئة عادية”؛ كفاح شاب يحاول سد الديون وتأمين لقمة العيش بكرامة، لكن الضغط النفسي والجسدي كان يفوق طاقة بشري في عمره.
كان جسده يرسل له إشارات التحذير منذ أيام: صداع ينبض خلف عينيه الرماديتين، طنين مستمر، وشعور متزايد بأن أطرافه لم تعد تستجيب له كما ينبغي.
في صباح يوم شتوي عاصف، وبينما كان يقطع الشارع متوجهاً إلى عمله، شعر بارام فجأة وكأن الأرض مالت به. الأصوات من حوله تلاشت، وحلت محلها موجة من السواد الكثيف. سقط بارام في وسط الطريق، مبعثراً أوراقه القليلة وحقيبته التي ارتطمت بالأرض بقوة.
”أيها الشاب! هل أنت بخير؟” صرخ أحد المارة وهو يسرع نحوه محاولاً إفاقته.
نُقل بارام إلى المستشفى العام. لم يكن معه أحد في تلك اللحظة، كان وحيداً تماماً يواجه مصيره تحت أضواء الطوارئ الباردة. عندما استيقظ، وجد نفسه تحت أضواء بيضاء باهتة، ورائحة المعقمات تملأ رئتيه، وشعور بالثقل يجتاح رأسه.
دخل الطبيب، وهو يحمل ملفاً طبياً ونظرة جدية للغاية. “السيد كيم بارام؟”
أومأ بارام بتعب، وهو يحاول الجلوس. “ماذا حدث؟ هل يمكنني المغادرة الآن؟ لدي عمل..”
”اجلس يا بني،” قال الطبيب بحزم هادئ. “نتائج التحاليل وصور الأشعة المقطعية التي أجريناها لك وأنت فاقد الوعي تظهر أمراً مقلقاً. الصداع والإغماء ليسوا بسبب الإرهاق فقط.”
صمت الطبيب للحظة قبل أن يتابع: “لديك ورم في الفص الصدغي. إنه يضغط على مراكز حيوية في دماغك، وهذا يفسر نوبات الصداع والاضطرابات التي كنت تشعر بها.”
شعر بارام وكأن برداً قارساً اجتاح قلبه. لم يسأل عن العلاج أولاً، بل كان سؤاله المليء بالخوف المكتوم: “هل سأموت؟”
”العلاج ممكن، انه فقط يتطلب جراحة دقيقة، والأهم من ذلك.. الراحة التامة والابتعاد عن أي ضغوطات نفسية أو جسدية. الضغط الذي تضعه على نفسك الآن هو بمثابة انتحار بطيء.” نظر الطبيب إليه بشك وتابع: “أيضاً، لاحظنا في تقييمك الأولي بعض الوصف لما تشعر به تجاه جسدك.. أعتقد أنك بحاجة لاستشارة طبيب نفسي أيضاً.”
ابتسم بارام ابتسامة شاحبة، ابتسامة يأس. “طبيب نفسي؟ لا يهم.. المهم الآن هو كيف سأستمر.”
في تلك اللحظة، انفتح باب الغرفة بعنف. كانت هانا، التي علمت بالخبر بطريقة ما، تسرع نحو سريره ووجهها مغطى بالدموع. ارتمت في حضنه وهي ترتجف من القلق. “بارام! ماذا حدث؟ أخبروني أنك سقطت في الشارع!”
نظر بارام إلى هانا، وشعر بغصة في حلقه. مسح دموعها بيده التي كانت ترتجف، وابتسم ابتسامة رقيقة وواسعة لكي يطمئنها، وقال بصوت هادئ: “لا تبكي يا هانا.. إنه مجرد إجهاد. الطبيب يقول إنني بحاجة لبعض الفيتامينات والراحة فقط. سأكون بخير، أعدك.”
نظرت هانا حول الغرفة، لاحظت أنه وحيد تماماً، لا يوجد أحد من عائلته معه في هذه اللحظة الحرجة. زاد بكاؤها وقالت بشهقات مريرة: “أنا آسفة.. أنا آسفة لأنني لا أستطيع فعل شيء.. أنا عاجزة أمام ما تمر به!”
تأثر بارام بعمق؛ كان وجود هانا حوله في تلك اللحظة هو الشيء الوحيد الذي يهدأ العاصفة داخل رأسه، وكأنها العازل الوحيد بينه وبين عالم من الألم والديون. “لا بأس يا هانا.. لن يتكرر هذا أبداً، سأعتني بنفسي من أجلك.”
لم يخبرها بالحقيقة، ولم يخبرها عن الورم، بل قرر أن يحمل هذا السر الثقيل وحده، لكي يظل عالمها مشرقاً، بينما يبدأ هو في الغرق في ظلام مرضه الذي بدأ يتفاقم وصراعه مع إحساسه الغريب في جسده.
التعليقات لهذا الفصل " 15"