الفصل الرابع عشر: التضحية والعمل الشاق.. ذبول الزهرة الذهبية
نفذ بارام قراره القاسي؛ ففي اليوم التالي لمواجهته مع هانا، سحب ملفه من الجامعة بهدوء تام، متجاهلاً نظرات الاستغرب من الأساتذة والطلاب. لم يكن يهرب من العلم، بل كان يهرب من كونه “عبئاً” لا يستطيع دفع ثمن كتبه، ومن كونه يرى هانا تتوسل لأجله.
بدأت رحلة الاستنزاف. كان يوم بارام يبدأ في الرابعة فجراً عند أرصفة الميناء الباردة، حيث يعمل في تفريغ الصناديق الثقيلة. الشاب الذي كانت يداه لا تلمس سوى الأقلام الفاخرة والأوراق العلمية، أصبحت يداه الآن خشنة ومليئة بالجروح، وظهره الذي كان مستقيماً من شدة الثقة، بدأ ينحني تحت وطأة الأحمال والهموم.
أما هانا، فقد كانت تراقبه من بعيد بقلب ممزق. كانت تذهب إلى الميناء وتختبئ خلف الحاويات الكبيرة، تبكي بصمت وهي تراه يمسح العرق عن جبينه الشاحب، والوحمة تحت عينه الرمادية تبدو كأنها تنزف حزناً.
في أحد المساءات، ذهبت هانا إلى المطعم الصغير الذي يعمل فيه بارام كـ “نادل” في النوبة الليلية. جلست في زاوية مظلمة، تراقبه وهو يتحرك بآلية مفرطة، لا يتحدث مع أحد، ولا يبتسم لأحد، فقط يجمع الصحون وينظف الطاولات بصمت مطبق.
عندما رآها بارام، توقف للحظة، واهتزت يده قليلاً. لم يعبث بوجهه أو يظهر ضيقه، بل نظر إليها وابتسم ابتسامته الهادئة المعتادة التي تحاول طمأنتها رغم كل شيء. اقترب من طاولتها ووضع قائمة الطعام برفق.
”ماذا تفعلين هنا يا هانا؟” قال بصوت منخفض ومجهد، لكنه كان يحمل حناناً لا يخطئه قلبها. “هذا المكان لا يناسبكِ.. أنتِ تنتمين للمقاعد الأولى في الجامعة، لا لزوايا المطاعم المظلمة.”
”أنت أيضاً لا تناسب هذا المكان يا بارام،” ردت هانا وهي تمسك طرف قميصه الملطخ. “انظر إلى يديك.. انظر إلى وجهك. أنت تقتل نفسك!”
لمس بارام يدها برقة للحظة، ثم سحب يده بسرعة خاطفة. في تلك اللحظة، اعتقدت هانا أنه فعل ذلك خجلاً من خشونة جلده أو الجروح التي خلّفها العمل الشاق، كأنه يخشى أن يلوث نعومة يدها بفقره الجديد. لكن الحقيقة كانت أعمق وأكثر رعباً؛ فبارام كان يرى في يده شيئاً لم تستطع هي فهمه بعد، شعر وكأن يده التي يلمسها بها لم تعد تنبض بالحياة، وكأنها أصبحت جزءاً غريباً عنه، ميتة وهامدة رغم أنها ما زالت تتحرك.
نظر في عينيها بمرارة مخفية وقال: “أعلم.. ولهذا السبب بالتحديد لا يمكنني أن أسمح لنفسي بأن أسحبكِ إلى قاعي. اذهبي وادرسِي جيداً، حافظي على المركز الأول من أجلي، دون أن تشعري أنني أسحبكِ معي إلى الهاوية.”
قبل أن يغادر، مد يده المرتجفة ووضعها على رأسها برقة فائقة للحظة قصيرة جداً، كانت لمسة مليئة بالوداع والحماية الصامتة، وهمس بصوت يكاد لا يُسمع: و يعيد ما قاله “رؤيتكِ هكذا تكسر ما تبقى مني.”
غادرت هانا المكان وهي تشعر بلمسته فوق رأسها كأنها وصية، بينما وقف بارام يحدق في يده “الغريبة ” في نظره، شاعراً أن العالم بدأ يغيب عنه شيئاً فشيئاً، معلناً بداية السقوط الذي لن يتمكن أحد من إيقافه.
التعليقات لهذا الفصل " 14"