الفصل الثاني عشر: صمت مطبق.. وبداية الانكسار الجسدي
مرت أسابيع أخرى، وتحول بارام إلى شبح داخل الحرم الجامعي. لم يعد يشارك في النقاشات، ولم يعد يهتم بالمركز الأول. أصبح الصمت هو لغته الوحيدة، صمت ثقيل يغلفه هدوء مريب كان يخفي خلفه عاصفة من التدهور النفسي.
في أحد الأيام، وبينما كانت هانا تجلس معه في زاوية منعزلة بالحديقة، لاحظت أن بارام يحدق في يده لفترة طويلة دون أن يرمش. كانت يده ترتجف بشكل طفيف، وعيناه بدا فيهما برود غريب، وكأنه ينظر من خلال الأشياء لا إليها.
”بارام؟ بماذا تفكر؟” سألت هانا بصوت خفيض وهي تلمس كتفه.
انتفض بارام وكأنه استيقظ من غيبوبة، ونظر إليها بتشوش. “لا شيء.. فقط شعرت بدوار بسيط. ربما هو قلة النوم.”
لكن الحقيقة كانت أعمق بكثير. في الليل، لم يكن بارام ينام. كانت الكوابيس تهاجمه بمجرد أن يغمض عينيه؛ كوابيس يرى فيها نفسه يتلاشى، ويرى جدران منزله تنهار عليه، بينما يقف والده مكبلاً بالديون. والأكثر رعباً، كانت تلك اللحظات التي يشعر فيها في منتصف الليل وكأن جسده لم يعد ينتمي إليه، وكأن أطرافه أصبحت ثقيلة كالحجر أو باردة كالجثث.
في صباح اليوم التالي، وجدته هانا في المكتبة يحدق في صفحة بيضاء منذ ساعة. عندما اقتربت منه، لاحظت وجود بقعة دماء صغيرة على الصفحة.
”بارام! أنت تنزف من أنفك!” صرخت هانا وهي تسحب المنديل من حقيبتها بذعر.
لم يبدُ على بارام أي رد فعل. مسح الدم ببرود مخيف وقال: “إنه مجرد إرهاق يا هانا. الضغط يرفع ضغط دمي قليلاً. توقفي عن القلق .”
”هذا ليس إرهاقاً عادياً!” ردت هانا والدموع تملأ عينيها. “أنت لا تأكل، ولا تنام، وتكاد لا تتحدث. حتى نظرتك لي تغيرت.. وكأنك لم تعد هنا!”
نظر إليها بارام، ولأول مرة رأت في عينيه الرماديتين صراعاً مريرًا. أراد أن يصرخ، أن يخبرها أنه يشعر بالضياع، وأن رأسه يكاد ينفجر من الأصوات والصور المرعبة، لكن شعوره بالثقل عليها منعه؛ لم يرد أن يضيف حطامه إلى حياتها التي كانت تبدو له مشرقة جداً مقارنة بظلامه.
اكتفى بالابتسام ابتسامة باهتة لا تصل إلى عينيه، وبالوقوف وجمع كتبه بصمت مطبق، ثم غادر المكان دون أن يلتفت خلفه، تاركاً إياها غارقة في حيرتها.
قضت هانا ليلتها في البحث عن تلك الأعراض، لكنها لم تجد جواباً شافياً. وفي المقابل، كان بارام في غرفته يواجه أول نوبة حادة من “الغياب عن الواقع”. وقف أمام المرآة، لكنه لم يستطع التعرف على وجهه. لمس يده، لكنه لم يشعر بلمستها. همس لنفسه بمرارة: “هل أنا ما زلت حياً؟ أم أنني بدأت أموت قبل الأوان؟”
كان الصمت الذي يلف بارام هو الهدوء الذي يسبق العاصفة الطبية الكبرى. ومع تزايد الصداع والكوابيس، بدأ الخيط الرفيع الذي يربطه بالواقع يتمزق، تاركاً هانا وحيدة في مواجهة جدار من الغموض الذي بدأ يفرق بين قلبيهما.
التعليقات لهذا الفصل " 12"