1
الفصل 001
“…مُوتي الآن.”
انطلقت شفرة باردة تلمع نحوها، وهي التي كانت قد شُوّهت سلفًا.
غاصت تلك الشفرات الحادّة في حلقها.
فأطلق الألم النافذ منها أنّةً كانت تحاول كبحها.
يؤلم، يؤلم، يؤلم كثيرًا.
فتحت عينيها في اللحظة نفسها التي شعرت فيها بالألم.
كادت صرخة أن تفلت من فمها، إذ إن صدمة الموت لا تزال عالقة فيها. لكنها كتمتها حين أدركت أنه كان حلمًا، وأن عليها ألا تصرخ.
دفنت وجهها في الوسادة وصرخت.
وفي محاولة لتهدئة نفسها، دفنت وجهها فيها عميقًا حتى باتت عاجزة عن التنفّس.
إنه حلم.
مجرد حلم.
أنا حيّة.
رغم تكرارها لذلك عشرات المرات، ظلّ جسدها يرتجف دون انقطاع، وكان منامها مبتلًا بالعرق البارد.
لقد غمرها رعب الموت.
أنا خائفة.
رفعت يدها المرتجفة ولمست عنقها.
أنا بخير. لا يزال في مكانه.
وككلّ يوم، طمأنت نفسها بعمق وواستها.
لا بأس. أنا بخير.
أنا حيّة.
صدر طقطقة ناعمة في أذنيها حين أزاحت يدها عن عنقها وغاص وجهها مجددًا في الوسادة.
وإن لم تستطع رفع رأسها، إلا أنها سمعت الصوت بوضوح.
من دون أن تتحقق، عرفت زائر الليل هذا.
إنه إيغون.
الابن الأكبر لدوق رودري، أخيها.
“شش….”
أصدر إيغون صوتًا كمن يهدّئ طفلًا، ووضع يده على كتفها.
لطالما فعل ذلك كلما دخل غرفتها ورآها ترتجف كوحش جريح.
“كان كابوسًا آخر، إيف. لا بأس الآن.”
راحت كفّاه الخشنتان، الناتجتان عن مداومته على تدريب السيف، تربت على ظهرها مرارًا.
وبينما أخذ تنفّسها يستقر، تلاشى الارتجاف في جسدها.
حقًا، البطل هو البطل.
فيه قوى سحرية عجيبة.
ولم يكن لها إلا أن تقرّ بذلك.
أنا بحاجة إليه.
رفعت وجهها عن الوسادة وارتمت على إيغون.
عانقته بقوة كأنه طوق النجاة الوحيد لها.
راح إيغون يربّت على شعرها ليواسيها.
احتضنها ونظر حول الغرفة منتظرًا أن تهدأ تمامًا.
ولشدة التصاقهما، لم يبقَ بينهما موضع لفراغ.
“إيف، إيف، إيفلين….”
ناداها إيغون بلطف كما لو كان يُغنّي اسمها، وهو يحتضنها كأنّها بالونة لا وزن لها.
لم تكن تحب أن يُنادى اسمها بهذه الطريقة، لكنها لم تستطع كرهه. فهي تحتاج إليه.
“إيف، انظري. القمر ساطع الليلة.”
وبينما كان يتحدث بحماس طفيف، أدارت رأسها ببطء من على كتفه.
حقًا.
كان القمر يضيء بسطوع خارج النافذة.
“هل أنتِ بخير؟”
أومأت برأسها ردًا على سؤاله.
“لا تخافي.”
قالها إيغون.
كما لو أنه يتعامل مع طفل رأى كابوسًا.
غير أنه لم يكن هناك أطفال في هذه الغرفة، فهي تبلغ السادسة عشرة، وهو قد تجاوز التاسعة عشرة.
“ممَ كلّ هذا الخوف؟”
سأل إيغون وهو يطبع قبلة على رأسها.
ثم انحنى لينظر في عينيها.
تمايلت خصلات شعره الأشقر المصبوغ بالبياض أمام وجهها.
وحين رفع غُرّته الطويلة قليلًا، انكشف وجه وسيم إلى حد لا يُطاق.
لا موضع فيه لا يُرضي البصر.
حتى رموشه كانت طويلة وهشّة.
لكن عينيه الزرقاوين الفاتحتين، ذات التشبّع الضئيل، كانتا تشبهان عيني وحش لا إنسان.
“هاه؟ أخبريني، ما الذي أخافكِ؟”
سألها من جديد.
لكن بدلًا من أن تُجيب، عضّت شفتها السفلى.
لم تستطع الكلام.
تسك.
أصدر إيغون صوتًا بطرف لسانه.
“لا تعضي شفتيكِ.”
تسلّلت أصابعه الطويلة البيضاء إلى فمها، مفرّقة بين أسنانها واللحم الطري.
وانبعث من أطراف أصابعه عبير جسده الفريد.
غاصت في عبيره وسحبت أنفاسها.
وتلاقت نظراتهما.
وفي لحظة، نشب في رأسها تمرد غريب.
فقامت بعضّ إصبعه بقوة.
تـك.
رفع إيغون إصبعه الآخر وربّت بطرفه على أنفها بخفة.
تلاقى بصراهما.
ورأت شفتيه الجميلتين ترتجفان.
كأن خيطًا قد شُدّ من طرفيه. توتر تسلّل بينهما.
انحدرت قطرة من العرق البارد على ظهرها.
كانت هي من رفعت الراية البيضاء في لحظة بدت وكأنها الأبد.
انهارت ودفنت وجهها في كتف الفتى مجددًا.
“إيغون….”
نادته باسمه طويلًا، كأنها تستنجد به.
وبدلًا من الإجابة، راح إيغون يُسوّي طرف منامتها المجعّد.
لامست أصابعه الباردة قفا عنقها.
وفي لحظة، عاد حلم اليوم إلى ذاكرتها.
المكان الذي بلغته يد إيغون كان الموضع ذاته الذي اخترقته فيه الشفرة في الحلم.
ارتجفت من الدهشة، ثم تلوّت بجسدها محاولة الإفلات من إيغون، وراحت تضرب كتفيه بقبضتيها كلتيهما.
هزّت رأسها وجسدها سعيًا للهرب منه.
لكن ما فعلته لم يكن بأكثر نفعًا من ضرب صخرة بقبضة عارية.
فهي بالكاد تستطيع مجاراة قوة إيغون، الذي نال لقب الفارس في الرابعة عشرة، وأصبح سيدًا للسيف في السابعة عشرة.
“اهدئي، إيف.”
يدٌ رخوة وصوتٌ منخفض أعادا السكون إلى كيانها.
“هذا يجعلني أشعر وكأنني كابوسكِ اللـ*ـين.”
يبدو وكأن صوت إيغون يقطر ضحكًا، أو لعلها توهّمت.
راودها فضول أن تتحقق من ملامحه في تلك اللحظة.
لكن بدلًا من أن ترفع رأسها لتراه، أخفضته أكثر، وأخذت تفركه بصدره.
كانت تخشاه بقدر ما تخشى الموت.
منذُ أن وطأت قدماها هذا القصر، لم يمرّ يوم واحد دون كابوس.
داعبت الشمس وجنتيها، ففتحت عينيها.
لم تكن تذكر متى أو كيف غرقت في النوم.
آخر ما تتذكّره هو إيغون وهو يُسجّيها على السرير، ويملس شعرها بكفّه.
وحين استدارت، تداخلت روائح الشمس المتشبثة بالمفارش، والأزهار الطازجة في المزهرية، وعطر إيغون الذي لا بد أنه استيقظ مبكرًا، لتكوّن مزيجًا دوّخ حواسها.
ربما ظلّ راقدًا إلى جوارها طويلًا بعد نومها، ثم مضى.
جلست في السرير وشدّت الحبل.
وبعد قليل، فتح الخدم الباب ودخلوا.
لقد بدأ يوم آخر مخيف وعقيم، لكنها اعتادت عليه.
اغتسلت، وارتدت ثيابها، وصفّفت شعرها.
وحين انتهت، وقفت أمام المرآة.
من النظرة الأولى، تبدو الفتاة التي تنتصب في المرآة شابة نبيلة من الطبقة الأرستقراطية، لكن الواقع مختلف؛ كلّ ذلك محض تمثيل.
كدمية معلّقة بخيط، يتلاعب بها محرّك الدمى كما يشاء.
“…الدوق قد وصل إلى غرفة الطعام.”
قالت الخادمة التي كانت تقف خلفها.
بهذه الكلمات القليلة، عادت إليها يقظتها.
“حقًا؟ يجب أن أُسرع.”
كانت نبرتها شابّة أنيقة كصوت فتيات الطبقة النبيلة، لكنها لم تكن نابضة بالحياة من الداخل.
فمنذ لحظة مغادرتها للغرفة، تبدأ سلسلة من الاختبارات.
سارت في الرواق كما لو أنها تخطو فوق صفيح جليديّ هشّ.
“إيف.”
استدارت إلى مصدر الصوت الذي ناداها.
وقبل أن تدير جسدها، كان الفتى قد اقترب منها.
“صباح الخير. هل نِمتِ جيدًا؟”
إنه إيغون.
رفع يدها وطبع عليها قبلة، كأخ عطوف.
رغم وداعته الظاهرة، كانت عيناه تتوهّجان بلمعان مخلوق ذهبي مفترس.
سحبت يدها منه بأكثر الطرق طبيعية، وانحنت لتحيته.
“صباح الخير، أخي.”
وقف إيغون والنافذة خلفه، يبتسم ببريق.
وكأن هالة من النور تتوّج وسامته.
ومن ينظر إليه، يجد صعوبة في تصديق أنّ هذا الفتى الوسيم النبيل هو سيد السيف الوحيد في الإمبراطورية.
“أتمنّين عليّ بشرف مرافقتكِ إلى غرفة الطعام؟”
وضع يده على صدره وطلب بلهجة مهذبة مبالغ فيها، تنضح بسخرية خفيفة.
الأبصار كلها موجّهة إليها.
لم تحتج إلى النظر خلفها لتعرف.
عشرات العيون في الممر تترقب منها أن تخطئ، أن تخرج عن المرسوم.
قصر الدوق مكتظّ بأشخاص يكرهونها، أو يمقتونها، أو يشفقون عليها.
ابتسمت ورفضت أن تنجرّ إلى لعبته.
وعند رفضها، لم يفعل إيغون شيئًا سوى الابتسام. ثم أمسك بيدها.
ولم يترك يدها.
فاضطرت أن تسير في الممر، وهي تمسك يد إيغون.
رغم أنها لم تكن ترغب، خطت إلى الأمام بساقين مرتجفتين.
* * *
موتي، المزيّن بالبلاغة، لا يبعد عني سوى ثلاث سنوات.
أنا أتذكّر حياتي السابقة.
وهذا العالم. مجرّد خيال.
كان الأمر غريبًا.
كأن حاسوبًا محمولًا عُرض في سوق المستعمل كمنتج جديد، بعد أن مُسحت بعض ملفاته، ثم أُعيد تهيئته.
أملك ذكريات نادرة عن تلك الفترة التي وُلدتُ فيها.
بالطبع، لم تؤثّر ذكريات حياتي السابقة عليّ كثيرًا، لأن العالمين كانا مختلفين تمامًا.
لا أتذكّر على وجه التحديد أي نوع من الأشخاص كنتُ، لكنني وُلدتُ كابنة رابعة لعائلة من عامة الشعب ذات حال غامضة.
لم تكن عائلتي فقيرة، لكنها لم تكن ثرية كذلك. ولهذا، لم أكن موضع ترحيب منذُ لحظة ولادتي.
حين رآني والدي كرضيعة، لم يحملني حتى بين ذراعيه، بل قال، ‘مجرد التفكير في مهر بناتي الأربع يجعل رأسي يؤلمني.’ لم يحمل في قلبه مشاعر طيبة من البداية.
ومع ذلك، لم أكن أعلم حينها أن حياتي ستؤول إلى الدمار.
كطفلة، كان هوايتي أن أستمع إلى أحاديث الآخرين بدافع الملل. ولأنني كنتُ رضيعة، لم يكن أحد يحذر وجودي، فكانوا يتحدثون أمامي عن أسرار النبلاء، وعن الشائعات الرخيصة التي تتداول في الأرجاء.
وهكذا، عرفتُ أن العالم الذي وُلدتُ فيه يُشبه كثيرًا عوالم الروايات المروّعة التي كنتُ أحب قراءتها في حياتي السابقة.
أتذكّر الرواية بوضوح، منذُ لحظة ولادتي تقريبًا.
كان أمرًا عجيبًا. أن أتذكّر رواية قرأتها، دون أن أستطيع تذكّر من كنتُ، أو كيف انتهت بي حياتي السابقة.
كأن أحدهم رتّب الأمر عمدًا.
يُتبعُ في الفَصلِ التالِي.
التعليقات لهذا الفصل " 1"