كانت طاولة المفاوضات مقسومة إلى نصفين تمامًا، كأنما انشطر العالم إلى ضفتين متقابلتين تتصارعان على كفة الميزان.
على اليسار، جلس رجال قبيلة كانكورا بأجسادهم الصغيرة المتينة، يتوسطهم شاب يعتمر قبعة قش عريضة تخفي ملامحه إلا من بريق عينيه الحادتين. أما على اليمين، فقد احتل المقاعد رجال النخبة من كتيبة هيزيت، ذوو البنية الجسدية الضخمة التي توحي بالفولاذ المجسد، حتى بين أمثالهم في هيزيت.
في المقدمة، كان الماركيز روسو هيزيت، يملأ صدره بثقة وكبرياء، ينفخ أنفاسه ببطء كمن يطلق زئيرًا خفيًا.
‘السيطرة النفسية تبدأ منذ اللحظة الأولى’، تمتم في نفسه.
في المقابل، فرد رجال كانكورا أكتافهم على اتساعها، وكأن كل خلية في أجسادهم تصرخ: ‘لن نتراجع خطوة!’
كان الهواء نفسه مشحونًا، مشبعًا بشرارات التوتر والعداء، كأن نسيم الشتاء توقف احترامًا للعدو القادم.
عندها، فتح الشاب ذو القبعة العريضة فمه، بصوت هادئ يخفي وراءه عاصفة من الحنكة:
“دعونا نوفر الوقت وندخل في صلب الموضوع مباشرة. إناء المتعة، في يد من هو الآن بالتحديد؟”
كان لون بشرته المتوهج بفعل الشمس وعيناه السوداوين العميقتين يذكران بفرس بري يركض حرًا فوق السهول، لا يروضه لجام.
أجابت أريليتيا بثبات، وصوتها لا يهتز رغم ثقل اللحظة:
“كما قلت لكم سابقًا، لقد تم شراؤه من قبل عائلة بارون إيفيليك، أهل جلالة الإمبراطورة. بعد ذلك، لا أعلم لمن انتقل.”
لكن الشاب لم يكن من أولئك الذين تقتنعهم الكلمات بسهولة.
“نحن عبرنا الحدود بناءً على عهد أبرمناه مع العائلة الإمبراطورية لبيرتيل. ومن غير المنطقي أن يتفوه أحدهم بكذبة كهذه أمام البلاط الإمبراطوري، كذبة تُفضَح فورًا. ثم إن كسر التحالف مع قبيلتنا لا يعود بأي نفع على بيرتيل، أليس كذلك؟”
ابتسمت أريليتيا قليلاً، كمن يقدم درسًا لفارس شاب:
“كلامك منطقي تمامًا، لكن عليك أن تتذكر أن العائلة الإمبراطورية ليست كيانًا موحدًا.”
كانت كلماتها كالسهم، تخترق الصورة المثالية التي يرسمها الجميع عن القصور الملكية.
بيرتيل، الإمبراطورية التي بدت للعالم كتاج مرصع بالذهب، لم تكن سوى أفعى ذات رؤوس أربعة؛ رأس أعظم للإمبراطور، وثلاثة رؤوس أصغر تتصارع في الظلال، تحيك المؤامرات في صمت وتنهش بعضها بعضًا.
ضاقت عينا الشاب من تحت القبعة، وكأن حدسه أيقظ ذكرى مدفونة:
“إذًا، حتى داخل بيرتيل، المصالح متضاربة، أليس كذلك؟”
“تمامًا، هذا ما يحدث.”
لم تكن تلك الفطنة مستغربة منه، فهو الآخر كان يعيش داخل رقعة شطرنج مماثلة.
فمملكة كانكورا، منذ سنوات، غارقة في صراعات دموية على وراثة العرش. صراعات لا تعترف إلا بقانونٍ واحد: “الأقوى هو الملك.”
وفي تلك اللحظة تحديدًا، أصبح من السهل قراءة هويته.
زافيروس. الأمير الثاني لمملكة كانكورا.
‘لم أتوقع أنني اصطدتُ صيدًا بهذا الحجم.’
تحركت شفاه أريليتيا قليلًا، كأنها تبتسم بلا أن تبتسم.
كانت تتوقع حضور سامارخان أو هارهك، لا الأمير ذاته. ربما، لم تكن هذه الأزمة تهديدًا، بل هدية.
بعد صمتٍ ثقيل، نطق زافيروس:
“هل تعرفين ما هو إناء المتعة حقًا؟”
“لا، لا أعرف تمامًا.”
أجابت أريليتيا بجفاف مصطنع. بالطبع، كانت تعرف.
إناء المتعة لم يكن مجرد أداة لصنع النبيذ.
بل، كان أسطورة تُختمر فيها الأرواح لا الثمار.
بغض النظر عن المكونات، فإن أي شراب يُصنع بداخله يتحول إلى طيف من النشوة الخالصة.
وكانت قبيلة كانكورا مولعة بالخمر، تخلّد انتصاراتها بكؤوس مترعة ومزامير لا تهدأ.
ويُروى أن أحد أسلافهم صنع هذا الإناء من طين نادر جُلب من الغابة البيضاء، وكان يُستخدم في أعظم ليالي النصر، ويُمنح شرابه لمن يستحق وسام الملوك وحدهم.
قال زافيروس بهدوء قاتم:
“هذا الإناء، كان في الأصل بيد أخي الأكبر.”
ثم أضاف بعد برهة:
“وكان يخمّر النبيذ داخله باستخدام لحم أعدائه.”
صُعقت الطاولة، وارتجّت المقاعد.
رجال هيزيت شهقوا، حتى وجه أريليتيا — الذي نادرًا ما يتغير — تقلّص نفورًا.
‘يا إلهي…’
تابع زافيروس، كمن يروي فاجعة لا بد من كشفها:
“كلما ازداد الكره نحو الجسد المستخدم، كان العطر أعمق، واللون أصفى، والمذاق؟ مذهل.”
لكن المأساة لم تكمن في الطعم، بل فيمن شربه.
تحولوا إلى وحوش، هائجين، أقوياء، لا يردعهم شيء. وكان الأمير الأكبر، ريبيليوس، قد استغل هذا الإناء ليصنع جيشًا من المجانين.
التعليقات لهذا الفصل " 97"