الفصل 90
* * *
المكان الذي أوصلهم إليه زعيم القافلة كان متجراً قديماً متصلاً من الخلف بالمحل الرئيسي.
طرقوا الباب، فخرجت فتاة قصيرة القامة. كانت تغطي رأسها وكتفيها برداء ثقيل، فلم يظهر منها سوى شفتيها وذقنها.
“س… سَيدتي سون؟”
حتى صوتها وحركاتها… بدت كأنها دمية خشبية متيبسة.
“ت… تَعا… لو.”
دخلت الفتاة دون أن تسأل عن أسمائهم.
تقدم قائد فريق التنظيف أولاً، وتبعه قائد فريق العمليات.
لكن قبل أن يخطوا بضع خطوات، انتابهما شعور غريب.
كانت برودة قاسية تفوح من الفتاة التي تسير أمامهم.
رائحة الموت… نذير شؤم.
لقد قضى عمره بين الجثث ومن شارفوا على أن يصبحوا جثثاً. لم تخطئ أنفه قط في تمييز برودة أو نتانة الموتى.
أدخل قائد التنظيف يده في جيبه ببطء. لكنه لم يكن قد أمسك بخنجره بعد، حتى شعر بشيء يزحف على الأرض ويمسك بكاحله بقوة.
“أوااه؟!”
خبط خبط!
“بعينك الوقحة تحدق في مَن؟!”
تدحرج قائد التنظيف أرضاً، ونظر بدهشة إلى الشخص الذي ظهر فجأة أمامه.
كان شاباً بعينين محمرتين كأنه وضع مساحيق تجميل، ينظر إليه بغضب شديد. وجهه مغطى بقناع يخفي أنفه وأسفل وجهه، لكن ملامح تبدو مألوفة.
وقبل أن يتدارك مشاعره، صرخ الشاب فجأة:
“كيف تجرؤ على التهديد بنظراتك؟ ألن تُخرج ما تُخفيه في جيبك؟!”
“م… من أنت؟! أيُّ أسلوب تعامل هذا مع الضيوف…؟!”
ثم اهتز شيء ما حول يده الموضوعة على الأرض.
نظر قائد التنظيف دون قصد إلى الأسفل، ثم صرخ بفزع:
“آاااه!!”
كانت جماجم تتساقط بكثرة في الممر.
وبشكل مزعج، بدأت تلك الجماجم تتحرك كأنها حشرات حية.
“لو نظرت إلى أختي مرة أخرى، فسأسلّط هذه الهياكل العظمية على رقبتك لتفصلها!”
“أوه، يا ويلي!”
ظهر شخص جديد في المشهد.
شاب يحمل مكنسة ومجروداً في يديه، وأخذ يركض نحوهما بارتباك.
“هل أنتما بخير؟ لقد أرعبكما الموقف، أليس كذلك؟”
كان شاباً ذو شعر أسود وفكّ محدد المعالم، ويرتدي نظارات ذات عدسات كبيرة لدرجة أن عينيه بدتا صغيرتين جداً كشكل السمك المسطح.
“أعتذر، أيها الزبائن. يبدو أن الهياكل العظمية الزخرفية قد تحطمت. دعوني أنظف هذا الفوضى، وادخلوا من فضلكم. السيد ريتي بانتظاركم.”
جرف الشاب النظاراتي الجماجم إلى المجرود، بينما صاح الشاب ذو العيون الحمراء:
“لا تعاملها هكذا بفظاظة!”
سحب الشاب النظاراتي الآخر من ذراعه واختفيا خلف الممر.
وفي هذه الأثناء، كانت الفتاة ذات الرداء قد تقدمت وفتحت باب المكتبة.
دخل قائد العمليات وقائد التنظيف دون أن يخفضا حذرهما.
لم يكن في الداخل ما يلفت النظر. مجرد غرفة عادية بها مكتب كبير بجانب النافذة، وكرسي أمامه.
من خلف ظهر الكرسي، برز رأس أحدهم. من عرض كتفيه، يمكن تخمين بنيته الجسدية.
ذلك هو السيد ريتي.
ابقَ متيقظاً. إن لم تسر المفاوضة كما خططنا، علينا قتله.
طَرق!
توقف كلا الرجلين فجأة، بعدما تبادلا نظرة صامتة.
كانت الفتاة ذات الرداء قد عادت دون أن يشعروا، وألقت بأكواب وشاي على الطاولة.
أعطت قائد التنظيف كوباً فجائياً، فأخذه بلا وعي.
“ش… شاي، سأعطيك.”
ثم سكبت الماء المغلي بسرعة في الكوب.
فاض الماء وسُكب على ظهر يد قائد التنظيف.
“آااه، حار!”
بشكل انعكاسي، قذف الكوب بعيداً، ليُسكب الشاي هذه المرة على فخذه.
“حاااار! دقّقي… دقّقي في التصويب!”
“كو… كوب.”
سكبت الفتاة الماء كأنها تسقي نباتاً، وأسرع قائد التنظيف لالتقاط الكوب وإعادته تحت الماء المنسكب.
صوت تقطير.
وبعد أن فرغت من إبريق الشاي، استدارت الفتاة بصوت صرير.
“س… سأعود، لأحضر كوبا… آخر.”
“لا داعي لذلك!!”
كان في صدمة تامة. طوال ثلاثين عاماً من حياته كقاتل محترف، لم يتعرض لموقف مذل كهذا.
“عمي، أنت بخير؟”
صوت جديد ينبعث من جانبهم، هذه المرة صوت فتاة صغيرة.
كانت أصغر من الفتاة ذات الرداء، وترتدي قبعة أنيقة تُخفي شعرها، وتضع نظارات مثل الشاب النظاراتي، بعينين صغيرتين أشبه بأزرار.
هل هي أخته؟ يبدو أن ضعف البصر مشترك بينهما…
أمسكت الفتاة الصغيرة بمنديل، وأخذت تمسح بحزم يد قائد التنظيف المحترقة.
“مؤلم؟ أنا… أنا من سيفعل. أعطني يدك.”
“لا بأس، سأضع لك دواءً أيضاً.”
سكبت مطهراً على يده المتقرحة، فتلوّى من شدة الألم.
هل… هل وضعت مشاعرها كلها في تلك اللمسة؟!
لكن الفتاة ابتسمت له ببراءة، كأنها ملاك.
“تبا، اذهبي، آآآه، ارجعي من حيث أتيتِ، أيتها الصغيرة! يكفي هذا!”
بينما كان قائد التنظيف يمسح دموعه، بقي قائد العمليات يحدق في المكتب. بالرغم من كل هذا الضجيج، لم يتحرك الشخص الجالس هناك قيد أنملة.
نظّف قائد العمليات حنجرته.
“هل أنت السيد ريتي؟”
“أجل، أنا هو.”
دار الكرسي نصف دورة.
“أنا جامع تحف أثرية. عرضت كنوزي في مزاد، ويبدو أنكما جئتما لشرائها، صحيح؟”
لم يكن هناك شك. وجهه الشبيه بحبة البطاطا، والتجاعيد، واللحية الرمادية الخفيفة… تطابق تام مع الصورة التي قدّمها فيل مون.
وقف السيد ريتي واقترب نحو الأريكة. كان أضخم مما توحي به صورته، وظلال جسده أسدلت فوق رأسي الرجلين.
نسي قائد التنظيف ألمه وانبهر بعضلاته المتفجرة.
هل كان يتخيل، أم أن ريتي بدا سعيداً بنظرات الإعجاب تلك؟
“بما أنكما جئتما للشراء، دعوني أعرض عليكم البضاعة أولاً. وأرى أنكما أظهرتما النية الطيبة بالفعل.”
اقتربت الفتاة ذات العيون الزرّية ببطء، ووضعت صندوقاً حريرياً على الطاولة.
فتح السيد ريتي الغطاء.
“…!”
لا شك في الأمر.
الحجم، اللون، النقوش الدقيقة، والجو الغامض الذي ينبعث منه… تحفة حقيقية لا غبار عليها.
مدّ قائد التنظيف يده المتورمة ليلمسه، لكن الغطاء أُغلق فجأة.
“نريد شراء هذا الأثر، سيدي.”
“إذن، أرِني أولاً شيئاً مثل هذا.”
“مثل ماذا؟”
“رفيع، صلب، ومستطيل. كهذا تماماً.”
لوّح ريتي بشيك مصرفي بابتسامة مخيفة. كان نفس الشيك الذي سلّمه قائد العمليات لزعيم القافلة إسمائيل قبل قليل.
أخرج قائد العمليات شيكاً فارغاً من صدره على مضض.
“كم تطلب بالضبط؟”
“أنت من يجب أن يقترح.”
ثم أضاف: “في الواقع، لدي عميل آخر مهتم بهذا الأثر. الآنسة سيرينا؟”
ظهرت إلف جميلة وجلست على الأريكة المقابلة.
ابتسم ريتي بسعادة.
“سأبيعه لمن يدفع السعر الأعلى. فكروا بها كأنها مزاد غير رسمي.”
فقالت إلف دون تردد:
“حتى من وجهة نظري كإلف، هذا الأثر نادر وفريد. سأشتريه بثلاثين ألف قطعة ذهبية.”
“…!”
تغيّرت نظرات قائد العمليات فجأة.
تفحص القُزمية بعناية، وجهها، وضعية جسدها، حركاتها الدقيقة… كل شيء.
لهجتها المتكلّفة، كتفاها المتيبسان، نظراتها المرتبكة، تكرار نظرها نحو الفتاة الصغيرة…
هذا الإحساس… واضح.
الثلاثون ألف ذهبية مبلغ كبير، نعم، لكن…
عيني قائد العمليات لمعت بحدة.
من ردّ فعلها، هذا أعلى مبلغ تستطيع دفعه.
صرخ بثقة:
“نحن نعرض خمسين ألفاً!”
وقعَت في الفخ.
ابتسمت أريليتيا بخبث.
التعليقات لهذا الفصل " 90"