لو كان هو نفسه قبل عدة سنوات، لربما باح بالحقيقة بسهولة.
ففي النهاية، هم من جاؤوا يطلبون العون، والكذب على من يحتاج إلى أن يُظهر لهم حسن النية ليس شيئًا يستسيغه جلين في العادة.
لكنه أدرك الآن جيدًا أنه لا يمكن حماية أحد بالطريقة المثلى وحدها.
لقد اكتسب شيئًا على مدى السنوات الثلاث الماضية، حين كرّس نفسه بدور أفتار لأريليتيا.
فنّ التفاوض.
إخفاء ما ينبغي إخفاؤه، وتسليط الضوء على ما قد يؤتي نفعًا.
قال بهدوء:
“صحيح. ليس كل شيء من قبيل المصادفة، بالطبع.”
وأضاف ابتسامة خفيفة لا تكشف عن نواياه، واتزانًا لا يبلغ حد الوقاحة. وصوتٌ ثابت لا يهتز، كقاعدة لا حياد عنها.
“جزء من هذه الرحلة كان بالفعل مخططًا له مع أخذ دوقية ريتشينبارتن بالحسبان.”
“ومن أين يبدأ هذا التخطيط وإلى أين ينتهي؟”
“كنا نعلم أن السفينة الذهبية تمتص الآثار. فأنقذنا ملاحًا سبق له رؤيتها وأبحرنا. وخلال الرحلة، التقيت بأحد جنّيات غابة الفجر وتلقيت مساعدتها.”
“وهل كان لقاءها جزءًا من خطتكم أيضًا؟”
“لقائي بالسيدة سيرينا كان صدفة. لكنني أعتبرها الآن علاقة ثمينة.”
أما بشأن “حكيمة الغابة البيضاء”، فلم يذكرها إطلاقًا. لم يحن وقت كشف كل الأوراق بعد.
“حتى لو قلنا إنكم عثرتم على السفينة بمساعدة جنّية، فكيف صعدتم على متنها؟ هل كنتم تعلمون الطريقة؟”
“السفينة تفرّق بين من تقبلهم ومن ترفضهم. كان بيننا من تنتمي إلى الفئة الأخيرة.”
وهنا ابتسم جلين بهدوء.
“هل ترى أن هذا الاستجواب غير كافٍ بعد؟”
ارتسمت على وجه الدوق نظرة مباغتة.
“استجواب؟… يبدو أن هناك سوء فهم.”
سوء فهم؟
ضحك جلين في سره.
ما دار للتو لم يكن محادثة عادية أو دردشة عابرة. الدوق كان ينظر إليه وكأنه يواجه عدوًا غازيًا، وأصر على الإجابات دون ذرة من المجاملة. هذا استجواب صريح.
لكن الدوق لا يملك حق استجواب جلين.
هم ضيوف في هذه البلاد، بل ومن أعادوا إليها كنزًا وطنيًا. بل إن سيد جلين هو الأمير الثالث لبيرتل، لا دوق ريتشينبارتن.
لا يوجد ما يدفعه للخضوع.
صحيح أنهم بحاجة إلى دعم ريتشينبارتن، لكن ذلك لا يجعل منه الطرف الأضعف.
الكنز الوطني للدوقية، “أسلحة البطل العجوز”، لم يُسلَّم بعد. ما يزال بحوزة جلين.
كفتي الميزان لم تمِل بعد.
قال بثقة:
“الشخص الذي أخدمه هو صاحب السمو الأمير الثالث. وقد سمح لي سموه بالكشف عن هذا القدر فقط، فلن تنالوا إجابة أفضل.”
هذا ليس تضرعًا بل تفاوض.
وكان جلين قد راعى كل أصول اللباقة مع دولة حليفة.
“أعتقد أني أجبت بما فيه الكفاية على أسئلتك أحادية الجانب. لذا أرجو من سمو الدوق أن يبادلني بعض الاحترام. فهدف هذه المحادثة في نهاية المطاف هو أن أعيد إليك الأثر الثمين، أليس كذلك؟”
“…هذا يبدو كأنك لا تنوي تسليم الكنز بسلاسة.”
لمعت في عيني دوق ريتشينبارتن نظرة فضولية حادة.
“ما الذي تريده؟”
***
بينما كان جلين في خلوة مع دوق ريتشينبارتن، كان لاسيان يتفقد الغرفة التي خصصت له.
لكن تسميتها “غرفة” تبدو مجحفة. كانت تحوي غرفة نوم فسيحة، وصالة كبيرة، وصالة استقبال أخرى متصلة بها. كانت تعادل ضعف أو ثلاثة أضعاف حجم غرفته في قصر اللورد هيزيت.
بل حتى أنها أكثر فخامة من غرف قصر الإمبراطور.
“هل غرف النبلاء من الطبقة الرفيعة تكون بهذا الحجم عادة؟”
لطالما عاش لاسيان في غرف متشابهة الحجم، لذا وجد هذا البذخ غريبًا عليه.
كان يعبث بمسند الكرسي المخملي في ارتباك، حين سمع صوتًا يخاطبه من خلفه:
وبعدها فقط لاحظ ملامحها العامة. لم يكن يعرفها، لكن من المستحيل أن يخطئ هويتها.
فملامحها مطابقة تمامًا لملامح والده، الإمبراطور.
“عمّتي.”
كانت هي الأميرة مونيكا، شقيقة الإمبراطور التوأم.
انحنى لاسيان متأخرًا وقال:
“أحيي عمّتي الجليلة.”
لم يسبق له أن التقى بها في حياتيه السابقتين.
كان قد سمع أنها لم تكن على علاقة طيبة بالإمبراطور.
ولهذا السبب، لم ينجح أي من الأمراء في ضم الأميرة مونيكا إلى صفّه، لا في حياته الأولى، ولا الثانية.
ومن هنا، بدا له منذ البداية أن الاعتماد على ريتشينبارتن خطة غير واقعية.
قالت الأميرة مونيكا مبتسمة:
“آخر مرة رأيتك فيها كنت رضيعًا. كيف مضت السنوات بهذه السرعة؟ كم تبلغ الآن؟”
“أحد عشر عامًا.”
شعر بتوتر يشد كتفيه.
كانت المرأة أمامه تشبه والده إلى حد لا يُصدق، حتى إنه لو قيل له إن الإمبراطور ارتدى ثوب امرأة، لصدق.
لكن ليست الملامح وحدها، بل حتى الهالة التي تحيط بها. غير أن نظراتها لم تكن باردة أو مجنونة مثل نظرات الإمبراطور. لعل ملامحها الأنثوية الناعمة خففت من حدّتها.
“عشر سنوات… مرت عشر سنوات إذًا. هل جلالته بخير؟”
“أنا أيضًا كنت أتلقى العلاج طوال السنوات الثلاث الماضية، فلم أره، لكن أظنه بخير.”
“كنت تتلقى العلاج؟ إذًا هذا يفسر كيف وصلت إلى هنا.”
أطلقت الأميرة تنهيدة كمن أدرك شيئًا للتو.
“بما أن الأمير الأول والثاني ما يزالان في القصر، فلابد أن هذا كافٍ لتسلية شقيقي.”
“…”
“على ما يبدو، لم يتغير. ذاك الطبع الكئيب الذي يجعله يراقب كل شيء من بعيد ليستمتع بهدوء.”
إن كان ثمة من يعرف الإمبراطور حقًا، فلا شك أنها هي.
حتى لاسيان، في حياته الثالثة، لم يستطع فهم والده.
كان الإمبراطور رجلًا لا تُفهم دوافعه.
الصراع على العرش بين الأمراء الثلاثة في بيرتل، بدأ في أصله بسبب الإمبراطور.
فقد نصب ابن عشيقته غير الشرعي أميرًا، واستدعى إحدى وصيفات الإمبراطورة حين كانت طريحة الفراش. وحتى ابن الوصيفة، نصبه أميرًا كذلك.
ظاهريًا، يقول إنه يعطي أبناءه فرصًا متساوية، لكنه ظل يراقب بصمت حتى سُحق لاسيان تحت أقدام إخوته.
وليس لأنه ضعيف أو مجرد دمية، بل العكس. يكفي أنه يسيطر على الأكاديمية التي تخرج النخبة الحاكمة مستقبلًا.
ويبدو أن شقيقته التوأم ترى الصورة نفسها.
بعد برهة من الصمت، نظرت إليه دوقة ريتشينبارتن بعمق، ثم قالت فجأة:
“بما أنك وصلت إلى هنا، فهل تفكر في البقاء؟”
“عذرًا؟ تقصدين…؟”
“أعطيك فرصة. من أجل المسكينة سيسيليا.”
كانت سيسيليا والدة لاسيان.
سرعان ما تحولت ملامحه إلى البرود.
“تعرفين والدتي؟”
“كيف لا؟ كنت عند باب الغرفة في اليوم الذي وُلدت فيه. لن أنسى تلك الليلة أبدًا.”
أطلقت ضحكة عالية، كما لو تذكرت شيئًا مسليًا.
ضحكتها كانت حادة ومرتفعة النبرة.
“سمعت أنك قضيت على القراصنة في الشرق. ومررت بمكتب زوجي فعلمت أنك جلبت كنزًا وطنيًا للبلاد. وبالمقابل، ستحظى بحماية ريتشينبارتن.”
“…”
“أقترح عليك اللجوء السياسي إلى الدوقية.”
ما عنته بكلامها هو أنها تملك من السلطة والنفوذ ما يمكّنها من إخراج الأمير من القصر الإمبراطوري.
حينها فقط، فهم لاسيان لماذا أصرت أريليتيا على جعل ريتشينبارتن ظهيرًا لهم، رغم كثرة الخيارات.
فالدوقة، أو الأميرة مونيكا، رغم مغادرتها الوطن منذ زمن، ما تزال تمثل ركنًا من أركان العائلة الإمبراطورية في بيرتل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 74"