كانت الوجبة على اليابسة بعد غياب طويل فاخرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد تتابعت أطباق المأكولات البحرية التي قلّما تُقدَّم في إقليم هيزيت.
رغم أن عدد الأسماك التي التهموها في أشهر الإبحار الماضية قد يتجاوز المئات، فإن الكركند المشوي الذي أعدّه الطاهي المتخصص كان له نكهة لا تقارن.
بل إن صاحب المطعم أصرّ على عدم تقاضي أجر، ولوّح بيده رافضًا، ما أثار فيهم تأثرًا عميقًا.
“أخي كان أحد أولئك البحّارة الذين يصطادون هذه الكائنات، لكنه لقي حتفه العام الماضي على يد القراصنة… لم نعثر حتى على جثته. فقط حطام المركب عاد إلينا.”
“أوه، له من أمرٍ مؤلم…”
“رغم أن البحرية تخرج في حملات كل عام، إلا أن هذه أول مرة نسمع فيها عن اجتثاث جذري كهذا. اعتبروا هذه الضيافة عربون وفاءٍ لروح أخي. ابقوا كما شئتم، واستريحوا بقدر ما تحتاجون.”
اغرورقت أعين الجميع بالدموع في لحظة صمتٍ خاشعة.
في تلك الليلة…
غادرت أريليتيا فراشها الدافئ وفتحت الباب بهدوء.
لم تكن تتوقع هذا النوع من الحفاوة، فشعرت برغبة عارمة في حك خدّيها وذقنها كما كان جلين يفعل بعد الظهر.
“مع ذلك، أشعر بأنني قد فعلت شيئًا حسنًا.”
لم يسبق لها أن تلقت هذا القدر من المديح.
كان صاحب النزل قد منحهم طابقًا كاملاً ليقيموا فيه. وعندما توقفت أريليتيا أمام أحد الأبواب وطرقت عليه، سُمع صوت خافت من الداخل.
انفتح الباب قليلًا، وظهر لاسيان من خلفه.
“ما الأمر؟”
“بدوت مكتئبًا.”
دخلت في صلب الموضوع مباشرة.
منذ مغادرتهم سفينة ماجنوليا وحتى وصولهم الميناء، لاحظت أريليتيا تعبيرات الكآبة تطغى على ملامح لاسيان بين الحين والآخر.
حتى أثناء الطعام، لم ينبس ببنت شفة.
“قلقت عليك، فجئت أطمئن.”
“… ادخلي أولاً.”
فتح لاسيان الباب قليلاً.
وما إن دخلت أريليتيا الغرفة حتى سألته:
“ما الذي يزعجك؟”
أمضت وقت العشاء كله تراقبه، وبنت عدة فرضيات.
هل لأنه شعر بأن سكان الميناء يهتفون باسم هيزيت أكثر من الأمير الثالث؟ أم لأنه يغار من جلين؟
أم لعل الأمر ببساطة أنه قد أنهكه الإبحار لثلاثة أشهر؟
لكن جوابه جاء مغايرًا تمامًا لما توقعت:
“… أشعر أنني لا أساعد أخي كما تفعلين أنت.”
“…؟”
“أنتِ من اكتشفتِ سفينة الذهب، وأنتِ من عثرتِ على الآثار، وأنتِ من جعلتِ أخي بطلاً. أما أنا… فما الذي فعلته؟”
“…”
“أفكر فقط بأنني ما زلت شخصًا لا قيمة له.”
إذاً، كان يشعر بالغيرة، لا من جلين… بل منها هي.
ردّت أريليتيا ببرود:
“حسنًا، ربما الأمر كذلك الآن.”
بدت علامات الامتعاض على وجه لاسيان.
“عندما يفتح أحد قلبه، فمجرد الاستماع يكفي، أفهمت؟”
“أنا آسفة.”
“لم أطلب منكِ اعتذارًا.”
“أنا فقط… لا أجيد كلمات المواساة الفارغة. ولا أرغب في قولها. فهي لا تنفعك بشيء، أليس كذلك؟”
“بل تفيدني نفسيًا! ألا تعلمين أن العقل السليم في الجسم السليم؟!”
“العكس، يا فتى. الجسم السليم هو الذي يصنع العقل السليم. لماذا القلق وأنت لا تواجه أمرًا عاجلًا الآن؟”
“…”
“هل لأن البصيرة لا تعمل كما تريد؟”
تنهد لاسيان تنهيدة طويلة وفرك ما بين حاجبيه.
كانت حقًا بارعة في إصابة كبد الحقيقة.
“… نعم، بالضبط، هذا هو السبب!”
لقد اختبر الأمر مباشرة في معاركه ضد القراصنة في البحر.
الفكرة في حد ذاتها، استخدام البصيرة في القتال، كانت ثورية. وقد سبق أن نجح فيها عندما كان في التاسعة من عمره فقط.
لكن… أحيانًا يراوده الشك: هل كانت تلك المرة مجرد صدفة؟
خصوصًا حين كان عالقًا في مواجهة جيش الهياكل العظمية التابع لريجي، وشاهد المستقبل لا إراديًا.
فعندما تفقد السيطرة، ينهار الجسد فورًا… ويصبح عاجزًا عن القتال.
قوة لا يمكن استخدامها بإرادة حرة… قد تكون عبئًا أكثر منها نعمة.
عقله يدرك أنه لا داعي للعجلة، وقد سبق أن جلس غلين معه طويلًا محاولًا تهدئته.
“التدريب يشبه سقي تربة جافة… في البداية لا تدري إن كان تحتها بذرة أصلاً. ومع ذلك، تسقيها برفق، بانتظام. لو توقفت لأن النتائج لم تظهر، فلن تنبت أبدًا. وإن سقيتها بجنون بدافع القلق، ستتعفن البذرة.
حتى وإن لم تلاحظ ذلك، فإن الجذور تنمو بصمت تحت الأرض.”
كلام سليم. هو ما زال في الحادية عشرة من عمره.
لكن رؤية فتاة في السابعة تقود الجميع بثقة وجرأة… كان يخنقه.
تلك المشاعر التي ضربت قلبه كانت مزيجًا غريبًا من الإحباط المألوف، والإعجاب الجديد.
أما الكراهية التي كانت تمزقه تجاه خصلات شعرها القرمزية، فقد أصبحت باهتة، كأنها ذكرى من حياة سابقة.
تغير الأمر دون أن يدري. ولم يكن الاعتراف بهذا مريحًا.
باختصار، كان لاسيان يعيش حالة من التشتت. مشاعر يصعب تصنيفها تعصف به.
ونظرت إليه الفتاة، بعينيها الهادئتين كعادتها، ليصرف هو بصره سريعًا محاولةً للسيطرة على اضطرابه.
“إن لم يكن لديك ما تقولينه، فارجعي إلى النوم، أيتها الصغيرة. جلين يقلق لأنك تشتكين من الحمى دومًا.”
“هممم…”
“لا تتنهدي. عودي للنوم وكفى.”
“أنت غريب فعلًا.”
“ماذا؟”
بل هذا ما كنت أنا سأقوله! نظر إليها بدهشة، بينما كانت تحدق فيه بتمعن.
“في الحقيقة، لا أفهم لماذا تريد أن تكون نافعًا بهذا الشكل.”
لم تصادف أريليتيا من قبل أميرًا يسعى لإثبات فائدته.
الأمير الأول ألبرت، والأمير الثاني لوسيوس… كلاهما اعتاد على إعطاء الأوامر دون أن يشارك شخصيًا في المعارك.
الأمراء عادةً لا يحتاجون لإثبات جدارتهم. فهم وحدهم رمز وقيمة، يحملون الراية خلفهم الآلاف.
وإذا مات أمير، فإن القوى التي تدين له بالولاء تتحول فورًا إلى عصيان، يُحسب خيانة.
لهذا، يجب حماية الأمير قبل كل شيء، والبقاء على قيد الحياة حتى النهاية.
حتى عندما أرسلت لاسيان إلى جبال كولدن، لم تغفل أريليتيا عن حمايته لحظة واحدة. فقد خصصت له فرسانًا يتبعونه من الظل لحراسته.
لكن لاسيان رد بحدة:
“إذًا، هل على الإمبراطور أن يختبئ خلف ظهر جنوده وهو يراقبهم يموتون؟”
“…”
“إن كان الأمر كذلك، لكان من المفترض أن أكون إمبراطورًا في حياتي السابقة. لا أحد مات دون أن يفعل شيئًا كما فعلت أنا.”
صمتت أريليتيا عن عمد.
وفي تلك اللحظة، لاحظت أن روح الأمير لوسيان، التي تبعتهم من السفينة الذهبية، كانت تحدّق في لاسيان باهتمام شديد.
“أنا أكره الشعور بالعجز. لا شيء يجعلني أشعر بالحقارة أكثر من أن أكون غير قادر على الفعل.”
“…”
“لقد عشت حياة الانتظار والصمت بما فيه الكفاية.”
لم يكن ذلك مجرد كبرياء… بل أشبه باليأس.
رغم عامين من التدريب المستمر، كان العطش ينهشه من الداخل.
“لا أستطيع العيش هكذا بعد الآن. ظننت أنكِ ستفهمين… فلماذا تسألين؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات