المكان التالي الذي زاروه كان متجر “إسمايل”. عندما أخبروه بأنهم تمكنوا من تدبير وسيلة نقل أكثر كفاءة، ازدهر وجه إسمايل بابتسامة مشرقة.
“إذن، لن نضطر لاستئجار العمال في كل مرة بعد الآن، صحيح؟”
“أجل، صحيح، ولكننا لا نزال بحاجة إلى مستودع لتخزين البضائع، لذا أرجو أن يركز باقي العمال على مهام الحراسة أكثر.”
“مفهوم، هذا أمر مريح حقًا، إذ لن نقلق من تسلل اللصوص بعد الآن. بل والأفضل أن الوقت المستغرق في التنقل سيتقلص ليصل إلى ثلثي الوقت السابق تقريبًا، كما يمكننا تقديم موعد تسليم المنتجات المحجوزة!”
“مم، ممتاز.”
كان الهدف إرسال كمية البضائع التي كانوا يرسلونها كل شهرين، مرة واحدة كل شهر. وهذا يعني أيضًا أن فرسان “هيزيت” يجب أن يضاعفوا جهودهم في قتال الوحوش.
عندها بدا القلق واضحًا على وجه إسمايل.
“أوافق على أن علينا اغتنام الفرصة حين تسنح، ولكن، سيدي… ألستم تجهدون أنفسكم أكثر من اللازم؟”
“لا تقلق، لدينا عدد كافٍ من العمال.”
في تلك اللحظة، شحب وجه ريكي الواقف في نهاية المجموعة.
“العمال”… يبدو أنه بدأ يدرك ما المقصود بهذه الكلمة؟ كان صوت ارتطام العظام يتردد في أذنه كما لو كان طنينًا وهميًا.
هؤلاء الهياكل العظمية اللطيفة خاصتي… لقد جمعتهم بنفسي، واحدًا تلو الآخر، من ساحات الإعدام في جميع أنحاء البلاد، وانتقيت فقط أولئك البيض النظيفين…
في تلك اللحظة، صفق إسمايل بفرح.
“آه، فهمت! إن كان الأمر كذلك، فسأبذل المزيد من الجهد في الترويج. في الحقيقة، لم أشأ إخباركم سابقًا كي لا أثقل عليكم، لكننا الآن بصدد عقد اتفاقية شراكة مع متجر ‘لاهان’ في رودافيل الجنوبية.”
“واو، بالفعل وصلتم إلى رودافيل؟”
“نعم! وإذا ما سارت المفاوضات كما نأمل، فسيتضاعف عدد زبائننا بشكل هائل. فالجنوب، ذلك المكان الحار الذي يشتد فيه القيظ، بحاجة ماسّة إلى الثلج الدائم ونَفَس ‘جنية الثلج’ أكثر من أي مكان آخر.”
“مم، أتطلع للعمل معك حتى العام المقبل، وما بعده.”
بينما كانت دموع ريكي تملأ عينيه، لم تلتفت أريليتيا لذلك، بل بادرت بمصافحة إسمايل مصافحة رسمية رصينة.
* * *
في حين غاب ريكي ومعه دانكن المكلف بمراقبته، ليقوما بدفن الجثث، أمضى جلين نصف شهر في قصر “كاسفل”، يعقد لقاءات شاي مع “الزبائن”.
الضيف الأول كان “الكونت ديكارس”، سيد مقاطعة تقع شمال كاسفل، وهو نبيل يتمتع بنفوذ لا يقل عن نفوذ “الفيكونت نيمار” في الشمال.
قال الكونت وهو يلف خصلة من شعره المجعد حول إصبعه السبابة:
“سمعت الكثير عنك، أيها السيد الشاب. نحن ممتنون للغاية لتكفلكم بتطهير الحدود من تلك الوحوش المرعبة، بل وأدهشتنا أكثر بإمدادنا بهذه المواد النادرة. غير أنني لا أخفيك، السعر يبدو مرتفعًا بعض الشيء… مجرد ملاحظة بسيطة، لا تؤاخذني عليها.”
بكلمات أخرى، كان يقصد أن الأسعار باهظة. واصل الكونت حديثه بابتسامة مبطنة:
“لقد ظلت ‘بيرتل’ تقاتل كدرع متين طوال مئة عام، حتى إنني صرت أفكر، أليس الأمر مبالغًا فيه؟ مجرد هراء يردده عجوز مثلي، لا أكثر.”
رد جلين ضاحكًا:
“في الحقيقة، كنت أفكر في أمر مشابه مؤخرًا.”
“نعم؟”
“أفكر فيما إذا كان من المجدي أصلًا أن نستمر في الدفاع عن سلسلة جبال ‘كولدن’ بأكملها.”
“ماذا؟! ولكن… تلك مهمة ‘هيزيت’ المقدسة! بل أن الإمبراطور يمنحكم أجورًا لقاء هذا الدور!”
“آه، تلك الأجور الضئيلة؟” قال جلين بابتسامة جانبية.
لم يعد بحاجة إلى أن يتلقى تلميحات من أريليتيا ليفهم أن هذا النبيل يحاول استغلالهم ببراعة.
“بطبيعة الحال، نحن مستعدون دومًا لبذل أرواحنا من أجل أمن وطمأنينة شعب الإمبراطورية، وخصوصًا سكان الشمال. ولكن، إن تزعزعت معنويات الفرسان والجنود، فكل جهودنا ستذهب سُدى.”
“أ… هذا صحيح، بالطبع…”
“بصفتي سيد الإقطاعية، يجب علي أيضًا السعي لتحسين مستوى معيشة تابعيّ. ولكن يبدو أن جلالة الإمبراطور مشغول للغاية بشؤون العاصمة، لدرجة أنه لم يعد يكترث لأوضاع الشمال. حتى أن أجورنا تتقلص عامًا بعد عام، مما يدل بوضوح على تدهور أوضاع الخزينة الملكية.”
“مم، معك حق… لا بد أن ازدحام العاصمة ‘ديلفور’ أحد الأسباب، ولكن، مهما يكن، لا أظن أن الخزينة بلغت تلك الدرجة من السوء!”
بطبيعة الحال، لم تكن هناك أي أزمة مالية حقيقية؛ فقد كانت بيرتل تنعم بسلام طويل الأمد دام مئة عام، بلا حروب ولا كوارث.
الجميع يعلم الحقيقة، لكن جلين لم يشأ التوضيح. بدلاً من ذلك، ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة، وكأنه يقول:
“إذن، ماذا تعتقد أن هذا يعني؟ فكّر جيدًا.”
“بطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون جلالة الإمبراطور، عن عمد، يتجاهل الشمال، أليس كذلك؟”
كلما زادت النفي، زاد التأكيد. بدت ملامح الكونت مشوشة تمامًا.
“أ… ها…”
“إن أعاد جلالته التفكير في أهمية حراسة الحدود، فأنا على استعداد لخفض الأسعار. فنحن لسنا تجارًا جشعين، بل فرسان شرف، أليس كذلك يا كونت؟”
“……”
“والفرسان، كما تعلم، قوتهم
مستمدة من طعامهم.”
أومأ الكونت، كأنه مسحور، برأسه موافقًا، رغم أن كل ما قاله جلين لم يكن سوى مغالطة، إلا أنه كان مقنعًا بدرجة عجيبة.
وبعد أن استجمع شجاعته، غيّر الكونت موقفه تمامًا، وقال:
“يبدو أنني قد تجاوزت حدودي، ولم أتوقع قط أن الإمبراطور يستخف بـ ‘هيزيت’! هذا أمر لا يمكن السكوت عليه!”
ثم ضرب الطاولة بقبضته تعبيرًا عن سخطه، فما كان من جلين إلا أن لوّح بيديه نافياً:
“أوه، لا، لا، لا. لم أقصد أبدًا الإساءة إلى جلالته. ما كنت أعنيه هو أن الأمر مجرد بعض الإهمال العابر لا أكثر.”
ولكن مجرد تغيير كلمة “هيزيت” إلى “الشمال” جعل الكونت يشعر بغصة في حلقه.
“ما بال الشمال؟! نحن أناس مجتهدون ومثابرون، لا يمكن مقارنتنا بأولئك الخنازير الكسالى الذين يقضون أيامهم في تسمين كروشهم تحت شمس الجنوب!”
“صحيح، كلامك في محله تمامًا.”
“يجب علينا، نحن أهل الشمال، أن نتحد ونرفع أصواتنا للمطالبة بزيادة أجورنا، أيها السيد الشاب! إلى متى سنبقى صامتين على هذا الظلم؟!”
“هاها، حسنًا، فلنبرم العقد أولًا، ثم نتحدث عن اتحاد الشمال!”
“بالتأكيد!”
وفي لحظة، طبع الكونت ديكارس ختمه الرسمي على العقد.
‘هاه، يبدو أنني موهوب فعلًا في التفاوض…’
تمتم جلين ضاحكًا في سرّه، ثم جلس مستقيمًا استعدادًا لاستقبال الضيف التالي.
ولكن، بالطبع، لم يكن ليستطيع إتمام كل هذه الصفقات من دون مساعدة “المعلّمة.
الزبائن التاليون كانوا من الجامعة الملكية للطب والدراسات الصيدلانية، بل من أساتذتها ونواب عمدائها ومديري مختبراتها.
وما إن جلس هؤلاء الأساتذة حتى بدأوا الحديث بنبرة حادة:
“لقد طلبنا مواد بقيمة عشرة آلاف قطعة ذهبية، لماذا موعد التسليم بعد ثلاثة أشهر؟!”
“حسنًا، لأن الكمية كبيرة للغاية…”
“إذن، ماذا عن البضائع التي حصل عليها الكونت ديكارس قبل قليل؟ كنت أظن أن حصتنا ستحظى بالأولوية!”
“في الواقع، الطلبات تُرسل حسب ترتيب الحجز…”
“هذا غير مقبول! العملاء المميزون يجب أن ينالوا معاملة خاصة!”
(يا له من وضع مربك…) ارتسم العبوس على وجه جلين.
الأكاديمية كانت تخضع مباشرة للإمبراطور، والكلمة الخاطئة في هذا الموقف قد تصل إلى أذنه سريعًا.
فجأة، رمق جلين الأريكة المجاورة بنظرة سريعة، ورأى كُرّاس الرسائل يبرز منها كعادته.
إلا أن هناك أمرًا مختلفًا هذه المرة: الكلمات المكتوبة عليه كانت مرتبة ومنظمة أكثر من ذي قبل.
‘يبدو أن المعلمة أريليتيا استعانت بشخص آخر ليكتب بالنيابة عنها، إذ لا تزال تجد صعوبة في كتابة الأحرف بدقة.’
من خلف الأريكة، امتدت يد صغيرة وجذبت كم لاشيان هامسة له سرًا في أذنه.
وبينما همس له “أريليتيا، دوّن لاسيان تلك الكلمات في الكُرّاس، ثم دفعه بهدوء نحو جلين.
قرأ جلين ما كُتب على الورقة بصوت منخفض:
“…إن كنتم واثقين إلى هذه الدرجة من أنفسكم، لماذا لا تأتون بأنفسكم لاستلامها؟”
“ماذا قلت؟!”
كاد جلين يعض لسانه من المفاجأة، لكنه استدرك الموقف بسرعة:
“أوه، ما قصدته هو: إن كنتم بحاجة ماسة جدًا لهذه المواد البحثية، ربما يجدر بكم القدوم شخصيًا إلى مقاطعة ‘هيزيت’ لاستلامها.”
في تلك الأثناء، سأل لاسيان وهو يدير رأسه ناحية أريليتيا:
التعليقات لهذا الفصل " 56"