الفصل 50
* * *
“هاه…!”
فتح الرجل عينيه فجأة وهو يلهث بأنفاس متقطعة.
كان الإحساس بانهيار جسده إلى ذرات دقيقًا كأنه حقيقي.
راح يتحسس جسده المرتجف في محاولة لاستعادة شعور الواقع، ثم نهض بلهفة.
“تبا… لم أسمع عن وجود سيّد سيف في كاسفل، كخخ، لم أسمع بذلك أبدًا…!”
انقطعت الصلة بينه وبين الهياكل العظمية كلها دفعة واحدة. وكان أثرها يضرب صدره بعنف.
تماسك وهو يتنفس بعمق ليكتم شعور الغثيان، ثم بدأ يتحرك متمايلًا.
المكان الذي يقف فيه كان كهفًا ضخمًا تحت الأرض، مخبأ أثري سري مدفون تحت تلة منخفضة في غرب كاسفيل.
منذ أن اكتشف هذا الملجأ قبل عدة أشهر، نقل إليه كل ما يتعلق بأبحاثه الثمينة.
من خلف الستار انبعثت رائحة نتنة قوية، لكن الرجل رفع الستار وتقدم نحو السرير دون أن يظهر عليه أي انزعاج، كأن حاسة الشم لديه ميتة.
“إليزا… إليزا؟”
على السرير، كان هناك جسد صغير وهزيل مغطى بقطعة قماش سوداء.
تنفس الرجل الصعداء حين أدرك أن “هي” ما تزال في مكانها، دون أن تُمسّ.
ولكن لم يدم شعور الراحة طويلًا. فبمجرّد أن تذكّر أنه عاد خالي الوفاض، دفن وجهه في كفّيه.
“اصبري قليلًا فقط، إليزا… قليلًا فقط… آه…”
كان يتحطم في كل ليلة حين يتحقق من حال من ترقد هنا. ينهار، ثم ينهار مجددًا.
يأسٌ متجدد لا يهدأ.
“لا يمكن… لقد بلغنا الحد…”
من كان مستعدًا للتضحية بحياته من أجلها… قد ذابت بالفعل.
خلال الصيف، كانت الرائحة تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، ومنذ يومين فقط بدأت الديدان تتكاثر. لم يجدِ أي تطهير نفعًا.
وما زاد الطين بلّة أن أبحاثه لم تكتمل بعد. إن تحللت إليزا قبل أن يتم سحر حياته، فلن يكون لكل جهوده أي معنى.
“لا يمكنني الاستسلام الآن. سأعيدك إلى الحياة يا إليزا، بجمالك وبراءتك كما كنت تمامًا، أعدك.”
شد الغطاء بقوة، ومسح دموعه من عينيه بظهر كفه.
في عينيه البنفسجيتين كان الحزن والجنون يتلألآن معًا.
“عنصر التجميد… لو أملك حتى مواد ذات خاصية التبريد، لأمكنني إبطاء التحلل…”
طالما أن إليزا لم تتحلل بالكامل، فبإمكانه الاستمرار في أبحاثه إلى الأبد.
المواد التي يحتاجها كانت تُشحن من هيزيت إلى كاسفيل مرة واحدة كل شهر. وإن ضاعت الفرصة الآن، فعليه الانتظار حتى الشهر المقبل.
ولم يكن بإمكانه أخذ إليزا وبقية عينات أبحاثه إلى الشمال القارس.
وفوق ذلك، كانت أعمال الحفر على قدم وساق في كاسفيل، واكتشاف هذا الكهف السري لم يكن إلا مسألة وقت.
في خضم هذا، ظهر “نَفَس الجنية الثلجية”، وكان بمثابة المعجزة والخلاص.
لا يمكنني الاستسلام.
غطّى جسد إليزا بلطف، ثم خرج من خلف الستار. كانت الهياكل العظمية التي استُدعيت عائدة الآن.
شعر بهالة قوية تلاحقهم.
أخذ نفسًا عميقًا وأغمض عينيه وهو يتلو تعويذة.
[يا من استعدتم الحياة من القبور بقوة الظلام.]
بدأت سُحُب سوداء ترتفع من حوله كلما اكتملت جملة من التعويذة.
[يا من وُلدتم من الحزن، وتركتم وراءكم حقدًا لا يُنسى.]
تحرك شيء ما داخل الصناديق المستطيلة المصفوفة على جدران الكهف. راحت الأغطية ترتجف، ثم انطلقت منها أجساد تنهض.
وكان عددها بالمئات.
[استيقظوا الآن، في هذا المكان…]
قبل أن تكتمل التعويذة، دوّى صوتٌ حاد في الكهف:
“توقف، يا ريكي!”
كان صوت طفلٍة صغيرة.
وفي اللحظة نفسها، انبثق شيء من ينبوع أسود انفتح في أرضية الكهف.
عربة محطمة، وطفلان متدليان من سقفها، وشاب وسيم وفارس بعضلات مفتولة.
الهالة القوية كانت بلا شك تعود للشاب في المقدمة.
لكن ما شدّ انتباه ريكي لم يكن سوى الطفل الصغير على سقف العربة.
عينا الطفل بلون الزمرد الأخضر اللامع، تلمعان كالأفعى، تحدّقان به مباشرة.
“مر وقت طويل، يا صديقي.”
همست أريليتيا ببرود.
لقد التقوا مجددًا أخيرًا.
عدوها الأكبر وحليفها القديم في حياتها الثانية… الساحر الأسود ريكي.
* * *
الغبار العظمي في الهواء كان كثيفًا إلى درجة تعيق الرؤية. ربما استنشقوا بعضه دون قصد.
سقط الفريق بعربتهم إلى هذا المكان. لحسن الحظ، هالة جلين حالت دون اصطدامهم بالأرض.
وحين لاحظهم الشخص الذي كان يتلو التعويذة، اختبأ فورًا.
انتشر عبير المياه الراكدة وسط الغبار، وترددت الأصوات كصدى خافت.
“كهف، على ما يبدو.”
“إنه مقر العدو، حيث يقيم بجسده الحقيقي.”
قالت أريليتيا بوضوح وهي منكمشة في ذراع لاسيان، رغم الوضعية الغريبة.
“من الآن فصاعدًا، لا نعلم ما قد يظهر أمامنا. الأفضل أن نؤمن موقعًا آمنًا أولًا.”
“همم، مفهوم. لكن أظن أن علينا أولًا أن نُجلس الأميرة والمعلمة بشكل لائق؟”
أثناء السقوط، احتضن لاسيان أريليتيا لا إراديًا. وحين أدرك ذلك، أطلق سراحها بنفور، ثم أعادها إلى وضعية الجلوس.
أريليتيا شعرت بالدهشة من سهولة حمله لها، رغم أنه لم يبدُ قويًا.
(كنت أظنه ضعيفًا تمامًا، لكنه ليس كذلك إذًا…)
لكن لم يكن هناك وقت للتفكير.
فقد بدأت الكائنات المظلمة تتحرك مستغلة الظلام.
أصوات احتكاك العظام تصاعدت تدريجيًا، حتى أصبحت ضجيجًا حادًا يثير الأعصاب.
حين سحب جلين هالته، بدأ الغبار العظمي يهدأ، وانكشفت معالم المكان.
كان كهفًا بقبّة شاهقة، تفوح منه رائحة كريهة لا تُطاق.
“إنهم يقتربون.”
قالت أريليتيا بتوتر.
من أحد أركان الظل، وُصِلت التعويذة التي قُطعت سابقًا:
[…انهضوا، في هذا المكان الآن!]
“…!”
وكأن زلزالًا ضرب الكهف، فبدأت الأرض تهتز. وخرجت كائنات غارقة في السخط من الظلام.
“ما هذا الحجم…؟”
كان عددًا مذهلًا، يفوق الوصف.
جيش من الهياكل العظمية، مشهد مرعب يشلّ الأبدان.
لكن ما حاصرهم لم يكن مجرد هياكل نظيفة، بل أجساد متحللة جزئيًا، لحمها المتعفن لا يزال ملتصقًا بالعظام.
حتى جلين بدت ملامحه شاحبة، فما بالك بدانكن. كان المنظر كافيًا لجعل أي ضعيف القلب يتقيأ.
“…يا معلمتي، لا أظن أن كلمة ‘شرير’ تكفي لوصف هذا.”
قال جلين، وفي صوته غضب مكتوم.
“من تجرأ على سرقة كل هذه الجثث؟!”
وقبل أن ينهي كلامه، انقضّت الجثث دفعة واحدة.
وسال دم أسود على خدّ جلين وهو يقطع أحدهم. صاحت أريليتيا وهي تشير إلى عمق الكهف:
“سأشرح لاحقًا! الآن يجب أن نصل إلى نهاية الكهف. هناك نقطة ضعف ريكي!”
“علم، سنصل إلى العمق إذًا؟”
لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة.
فالعدو كان يتكاثر باستمرار، والعدد لا ينقص.
تفجير الهالة ليس خيارًا، فقد يتسبب بانهيار السقف، خصوصًا مع ضعف الأرضية بسبب الحفريات الخارجية.
وفوق كل ذلك، كان على جلين ودنكن حماية طفلين، ما حدّ من حريتهم في التحرك.
“من الأفضل أن يبقيا هنا. السير دنكن، لا تترك الطفلين، احمهما. سأخترق الطريق بنفسي!”
“أمرك، يا سيدي!”
ألقى جلين أريليتيا ولاسيان قرب العربة المقلوبة، ثم اندفع بين الأعداء. تطاير الدم الأسود وشظايا العظام في الهواء.
لكن عددهم كان طاغيًا.
فغابت صورة جلين وسط أمواج الموتى الأحياء.
“أخي!!”
إن خسروا في العدد، فلا أمل في النصر.
بدأ وجه لاسيان يشحب.
“ما كان يجب… أن آتي. ما كان…”
مشهد مألوف جدًا بالنسبة له.
موقف ميؤوس منه، دون مخرج أو سبيل للنجاة.
“السير تومبل! خذ الأمير واهرُب إلى الأمام بأي ثمن! أنا من سيتولى التغطية!”
كان صوت جلين أعلى وأشدّ من أي وقت مضى…
ذات الصوت الذي سمعه لاسيان في حياته السابقة… للمرة الأخيرة.
التعليقات لهذا الفصل " 50"