‘أمي… التي حاولت أن تعلّمني كيف أعيش في هذا العالم القاسي.’
لكن صورة الأم ذابت خلف ستارة بيضاء ناصعة، كأنها وهمٌ هشّ تبخّر مع أول نفحة ريح.
أنزلت أريليتيا ذراعيها القصيرتين، الممتلئتين، بثقل، كأن قلبها يحمل جبالًا من الأسى.
‘مع ذلك، أمي… رغم أنني ربما لم أستطع التكفير عن كل ذنوب حياتي السابقة وحياتي الثانية، لكن… ربما حياتي الثالثة كانت قادرة على أن تكون خلاصًا لشخص ما، أليس كذلك؟’
‘إن كان هذا كافيًا… فهو يكفيني.’
صحيح أنها لم تنل الموت الهادئ الذي كانت تتوق إليه، لكن إذا كان العالم خلف الموت هادئًا وسلميًا هكذا، فما المانع؟ قلبها، الذي كان يعتصره الألم، بدأ يهدأ كأنه يغفو في أحضان الثلج الناعم.
لم تعد تشعر حتى بالنيران التي كانت تفتك بأحشائها، كأن الوجع نفسه استسلم لسكون اللحظة.
منذ الحادي والثلاثين من مارس حتى الثامن والعشرين من فبراير، استهلكت كل قواها تقريبًا، بعد أن أعادت الزمن لشهرٍ كامل. كان جسدها الصغير يصرخ مع كل ثانية تمزّقت من نسيج الزمن، لكنها أقدمت.
في الأصل، كان يفترض أن تموت في اللحظة التي أرجعت فيها الزمن، لكنها استعانت ببركة آخر ساحر للزمن، فأوقفت الزمن البيولوجي لجسدها، كأنها تجمد قلبها في قفص من جليد.
ومنذ لحظة توقيعها العقد مع التنّينة، استنفدت كل ما تبقى لها من قوى، كأنها ألقت بنفسها في هاوية القدر.
لذا، لا شك، أن هذا المكان هو الجنة.
‘لكن الغريب… لماذا تشبه الجنة غرفة نومي في قصر الماركيز تمامًا؟’
هبّ نسيم دافئ من النافذة المفتوحة، يحمل عبير الربيع كأنه يهمس بوعد الحياة.
لفّت أريليتيا جسدها في الأغطية الناعمة، وحدّقت بشرود نحو الستائر التي تتمايل كأجنحة فراشة رقيقة.
‘هل يوجد في الجنة أسرّة وستائر أيضًا؟’
فقط حينها شعرت أن هناك شيئًا غير منطقي، كأن خيطًا من الواقع يتشبث بها.
أدارت عينيها ببطء. كان هناك ظل شخص يتمايل أمام النافذة، كأنه حارس من عالم آخر.
“أريليتيا؟”
الصورة التي ظنّتها ظهر أمها…
“هاه…”
لم تكن والدتها أبدًا، بل شاب طويل القامة وضخم البنية، يضغط بإصبعه على جبهته، كأنه يحاول طرد ألمٍ دفين.
“لقد وصلت بي الأمور لأن أرى خيالات وهمية أيضًا، هه؟”
حرّكت أريليتيا شفتيها دون صوت، كأن الكلمات ترفض الخروج من حلقها المثقل.
‘هذا هو العالم بعد الموت، فماذا يفعل جلين هيزيت هنا؟’
مسح الشاب جفنيه بيده، عيناه تلمعان بدموع كأنها حبات لؤلؤ متساقطة، وقال بصوت مختنق:
“… استيقظتِ…؟ تبًا، دكتور سيرجيو!”
وبعد ثلاثة أشهر من يوم سقوطها مغشيًا عليها، في نهاية يونيو، فتحت أريليتيا أخيرًا عينيها، كأنها زهرة تتفتّح بعد شتاء طويل.
* * *
الطفلة النائمة كانت تبدو صغيرة وجميلة كجنيّة من حكايات الثلج، جسدها الهشّ يحمل بريقًا يجذب القلوب.
وكلما هبّت رياح هيزيت الدافئة، كأنها تحمل أنفاس الربيع، ازداد عدد الأشخاص الذين يصلّون بحرارة لاستيقاظها، كأن أملها يربط مصيرهم.
حتى لو أخفى مشاعره خلف قناع الصلابة، كان الماركيز روسو هيزيت يغرق في قلقٍ عميق. كان يتسلّل إلى غرفتها في منتصف الليل، عندما يغفو الجميع، يقف بجانب سريرها، يحدّق في وجهها النائم كأنه يخشى أن تتلاشى، قلبه يعتصره خوفٌ لم يعرفه من قبل.
أما جلين، فكان قلبه مفتوحًا كجرحٍ نازف. ذلك الشاب الودود، الذي كان ينشر الدفء بابتسامته، قضى الأشهر الثلاثة الماضية ينهار باكيًا في زوايا القصر، كأن روحه تتفتت مع كل يوم يمر دون أن تفتح عينيها.
لذا، لم يكن غريبًا أن تشعر أريليتيا بحرجٍ عميق من مبالغاته العاطفية حين استيقظت.
“يا حكيمتي الصغيرة، كيف تشعرين اليوم؟” قال جلين، صوته يرتجف بحنان وهو يبتسم رغم عينيه المبللتين.
“… لا تسخر مني،” ردّت أريليتيا بضعف، لكن قلبها يرتجف من دفء كلماته.
“لست أسخر، أنا جاد. للإفطار، لدينا كرواسون مدهون بالزبدة ومربى توت طازج صنعناه البارحة، يا أميرتي الصغيرة.”
ارتفعت حواجب أريليتيا بخفة، رغم إنهاكها، كأن روحها الصغيرة تستيقظ مع رائحة الطعام. شعرت كأن أذنيها تنتصبان من فرط الانتباه، وأنفها الصغير يرتجف مع عبير الزبدة الشهي.
“… هل يمكنني أكل قطعتين؟”
لوّح جلين بيده بصمت، وكأنه يقدّم لها كنزًا.
دخلت سلة نزهة مملوءة بالخبز، واحدة تلو الأخرى، كأنها موكب من الكنوز.
“كلها لكِ، أيتها الأميرة.”
“قرّر لقبًا واحدًا، يا سيد الشاب، إما الأميرة أو الحكيمة.”
“حاضر، يا أميرتي ويا حكيمتي الصغيرة.”
أرادت أن توبخه قائلة ‘أيها الأحمق’، لكن قلبها كان يرقص فرحًا. الحقيقة أنها، حتى في حياتها قبل العودة بالزمن، كانت أصغر من جلين بكثير، لكن حنانه جعلها تشعر كأنها طفلة حقًا.
فتح جلين السلة، فتسرّب عبير الزبدة الغني، كأنه يعانق الغرفة. كانت السلة مملوءة بكروسان فاخر، مطهو بكمية وفيرة من الزبدة الغالية، كأن كل قضمة تحتفي بعودتها للحياة.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ فقد كانت الحجارة المصفرة على الطاولات تنشر حرارة دافئة، تملأ قاعة الولائم بدفء يشبه أحضان الأم.
‘لا بد أن الأموال من قافلة إسمايل التجارية تتراكم بأمان بينما كنت نائمة.’
ومادام المال يتدفّق، فيجب أن يُصرف بحكمة.
أخذت أريليتيا تقضم الكرواسون، وهي تحسب التكاليف بعادة مألوفة، كأن عقلها لم يتوقف عن التخطيط حتى في غيبوبة الموت.
‘يجب أن نبدأ مشروع التوسعة قبل أن يشتد الحر.’
هيبة الإقطاعية تنبع من عظمة قصر الماركيز ومظهره. التزيين الفاخر يظهر الثروة، لكن بما أن هيزيت نقطة عسكرية مهمة، يجب أن يكون الديكور متينًا ومهيبًا.
‘يجب أن نغطّي الأرضية برخام يحتوي على الحجارة الدافئة…’
وأما قاعة الولائم، فيمكن تزيينها ببذخ. ماذا لو استأجرنا رسامين ليصنعوا لوحات جدارية على السقف، تصور الوحوش بألوان نابضة، والفرسان وهم يقاتلونها بشجاعة؟
‘حتى جذور الماندريك وحدها ثروة، فما بالك بحقل كامل في عش التنّينة؟ سيكون كنزًا من الأعشاب النادرة.’
الماندريك، المعروف الآن كمضاد للسموم، سيصبح بعد سنوات المادة الأساسية لمنشطات الطاقة، التي ستجتاح أسواق ديلفور بين النبلاء.
‘إذا خلطناه بعشبة الشوك البري، سيصبح علاجًا لكل الفيروسات المعدية.’
حتى لو احتوى الدواء على 0.001% فقط من الماندريك، فسيكون كنزًا يُجمع بالمجارف.
مضغت أريليتيا الكرواسون الثانية، وابتسامة السعادة ترتسم على وجهها، كأنها ترى الذهب يتدفق أمام عينيها.
“يا سيد الشاب، عليكِ أن تعتني بحقل الماندريك جيدًا، إنه كنزنا.”
أثناء سكب الحليب في كوبها، مال جلين برأسه مستغربًا.
“همم؟ الحقل؟ لم يعد موجودًا الآن.”
“بعتَ كل شيء بالفعل؟ همم، لا بأس، الماندريك ينمو مجددًا إذا امتص مانا سحرية…”
“لا، ليس هذا السبب، بل أنتِ من أكلتِ كل ما في الحقل.”
ماذا؟
أسقطت أريليتيا قطعة الخبز، عيناها تتسعان كأنها سمعت خبرًا يهزّ العالم.
‘أنا التي أكلته؟’
والآن، بعد التفكير، شعرت بحيوية غريبة تنبض في جسدها منذ استيقاظها، كأن النار التي كادت تفتك بها تحولت إلى طاقة متجددة.
في نهاية مارس، خلال انفجار موجة الوحوش، استخدمت آخر قواها لإعادة الزمن شهرًا، ثم أوقفت زمن جسدها ببركة ساحر الزمن. استهلكت كل طاقتها حتى آخر قطرة، لكنها عادت للحياة… والآن عرفت السبب.
كل هذا… بسبب جرعات الماندريك!
“كنتِ تشربين مغلي الماندريك ثلاث مرات يوميًا، دون انقطاع. ومنذ استيقاظك، كنتِ تتناولين واحدة كل يوم.”
“ماذااا؟”
“بالمجمل، التهمتِ ثلاثمائة جذور قبل أن تعودي إلى الحياة، يا معلمتي.”
شهقت أريليتيا، ورمت الكروسان بعيدًا، قلبها ينفطر من الصدمة.
“يا سيدي الشاب، هل جننتِ؟!”
‘هل تدرك كم يساوي ذلك؟’
* * *
عندما عرفت أريليتيا أنها استهلكت جرعات ماندريك تعادل ثلاثين ألف قطعة ذهبية، شعرت كأن قلبها يسقط في هاوية. عادت لتسقط مريضة من جديد، عيناها تلمعان بدموع الأسى.
“رخامي… سقفي المرسوم… عوارضي الذهبية…”
قال جلين، مبتسمًا بحنان ليهدئها، وهو يمسح دمعة زلت من عينيها:
“طالما نواصل اصطياد الوحوش بجد، فلا مشكلة. ما زال هناك كنوز كثيرة للبيع.”
“أجرة النقل… أجور العمال… تكاليف البناء…”
بينما الدموع تترقرق في عينيها، قررت تأجيل خطة تجديد قصر الماركيز، كأن أحلامها المتلألئة تتحطم أمامها.
‘إما أن أجد مصدر دخل جديد، أو أقلل التكاليف. لا خيار ثالث.’
‘لو كنت أستطيع تقليل أجور العمال… صحيح أن سكان الإقطاعية قد يساعدون تطوعًا، لكن…’
من الأفضل استقدام عمالة بأجور أقل بدلاً من استغلال سكان الإقطاعية. أو ربما توفير أجور نقل مواد البناء… هل هناك طريقة؟
‘آه، حقلي العزيز، الماندريك.’
وبينما تمضغ الكروسان بنظرات شاردة، تحوّل صوت جلين إلى نبرة جادة، خالية من مرحه المعتاد، كأنه يحمل في قلبه قرارًا مصيريًا:
“أريليتيا، هناك شيء أود قوله.”
“نعم؟” ردّت، قلبها يخفق بحذر.
“هل ترغبين أن تصبحي الابنة الصغرى لعائلتنا؟”
“هاه؟”
كلماته هبطت كالصاعقة، فتجمدت في مكانها، عيناها تتسعان بدهشة.
استفاقت أريليتيا من صدمتها، صوتها يرتفع كصراخ طفلة:
“لاااا!”
لكن في أعماقها، شعرت بدفء يغمرها، كأن كلماته فتحت بابًا لعائلة لم تحلم بها يومًا. كانت صدمتها ممزوجة بموجة من الحب، كأن قلبها الصغير يتوق لاحتضان هذا العرض، رغم احتجاجها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"