1
✦❖ الفصل الأول ❖✦
⊹ المقدّمة ⊹
في أقاصي الشمال، حيث تعوي الرياح كأنها أشباح تطلب الخلاص، وحيث تتجمّد الأنفاس في الهواء قبل أن تُكمل زفيرها… هناك، تنتصب قلعة أورتيزو كطيفٍ من الماضي، شامخة وسط الثلج والخراب.
قلعة لا تُشبه سواها.
قلعةٌ لا تعرف الدفء، لا تعرف السلام.
يسمّيها الناس… ❝ قلعة الأشباح ❞.
قلعة مُغلقة على ذاتها، لا تنفذ إليها أشعة الشمس، تتكسر الأنوار على جدرانها كما تتكسر الأحلام في حضن الظلام. جدرانها تهمس، وسقوفها تئن، وكلّ حجرٍ فيها يُخفي أنين الأرواح التي سكنت، وماتت، ونسيت نفسها بين أروقتها.
هذه القلعة لم تُبْنَ فقط بالحجارة… بل بدماء الملوك، ودموع اليتامى، وصرخات المحاربين.
يُقال إنها لُعنت بعد حربٍ شعواء مع الوحوش، تلك الحرب التي مزّقت السماء وأشعلت الأرض، فانبعثت الهالة السحرية السوداء — هالة كثيفة، كريهة، كأنها غيمة من الكراهية المتجسّدة — وزحفت إلى كل زاوية حتى صار المكان كله وعاءً للظلام المطلق.
هل كانت الهالة هي التي ابتلعت القلعة؟
أم أن القلعة هي من اجتذبت الهالة إليها؟
أم أن الشرّ، بكل جبروته، وجد في هذا المكان موطنًا مثاليًا ليزرع فيه عرشه الأبدي؟
لكنّ أكثر ما أرعب القلوب، لم يكن الخراب…
بل ما ظلّ حيًّا فيه.
ففي زواياها الباردة، بين الممرات التي تغطيها الظلال، لم تكن الوحوش وحدها تسكن.
كان هناك شيءٌ… أخطر.
أطفال.
“واهاهاهاها! أيها الأغبياء! تعالوا أمسكوني إن استطعتم!”
…أطفالٌ لا يقلّون خطرًا عن الوحوش — بل كانوا أسوأ.
مخلوقات ضئيلة الملامح، تتخفّى خلف براءة زائفة، لكنّ قلوبهم… متخمةٌ بالفوضى.
شياطين صغيرة تتراقص على أطراف الخراب، يركضون كالعاصفة، يبعثرون النظام، ويزرعون الجنون أينما حلّوا، وكأن الشمال أنجبهم خصّيصًا ليزيد في قسوته.
✦ في عائلة أورتيزو — تلك السلالة التي تمتد جذورها عميقًا في صخور التاريخ، عتيقة كالسيوف التي سُنّت باسمها — يُقسَّم أهل الشمال إلى نوعين:
➤ المحصّنون: نخبة مختارة لا تمسّهم الهالة السحرية السوداء بسوء، وكأنها تُجِلّهم، فيولدون حاملين لقوى لا يفهمها أحد، يُلقَّبون بـ”أصحاب القدرات الخاصة”، وتُفتح أمامهم أبواب الهيمنة والنفوذ.
➤ غير المحصّنين: بشرٌ عاديون، عاجزون عن مقاومة تلك الهالة القاتمة، تتآكلهم ببطء، فيُنتزعون من القصر، ويُنفَون إلى الجنوب كما تُلقى الأوراق الذابلة من شجرةٍ لا ترحم.
في قلعة أورتيزو، لم يكن الضعف خيارًا… كان حُكمًا بالإقصاء.
فمن يحمل المناعة، يُربّى داخل الجدران الداكنة، يُصقل بعناية، يُعلّم بصرامة…
أما من يفتقدها، فيُنسى بصمت، كأنه لم يكن قط.
وكان المحصّنون من الأطفال… ملوكًا صغارًا، تُمنح لهم السلطة على طبق من الرعب، لأنهم ببساطة، الأجدر بالبقاء.
لكن خلف ذلك المجد الكاذب، كانت هناك حقيقة مرعبة… مخيفة أكثر من الهالة ذاتها:
‘كلما ازدادت القدرة… تلاشت الأخلاق.’
كان أطفال أورتيزو يمشون بين الأروقة كأنهم سادة الموت.
بملامح ناعمة، وضحكات عبثية، يُحطّمون ويصرخون ويمزّقون، بلا وازع، بلا قانون.
حتى رئيسة الخدم — تلك المرأة الحديدية ذات القبضة التي لا تلين — ومعها خادماتٌ يمتلكن شيئًا من القوة، لم يكنّ قادرات على كبح هذا الطوفان الصغير.
“تلك التحفة… من مقتنيات السيد المؤسس الأول!”
“هاااه؟ ومَن يهتم؟ تعالوا أمسكوني إن استطعتم!”
ركض الخدم بخطى ثقيلة، يلهثون خلف ظلّ لا يُمسك، خلف طفلٍ ضاحك كالعاصفة.
طفلٌ لم يتجاوز السابعة، يسابق الريح في الممرات، ثم… تمتد يده الصغيرة نحو تحفة زجاجية لا تُقدَّر بثمن.
“أرجوك! لا تلمسها!”
“إنها خطيرة! توقف!”
لكن الفوضى لا تُنصت.
وفي لحظة جنون…
داس الطفل الأرض ضاحكًا بجنون، ورفع القطعة عالياً كأنها غنيمة حرب.
كــــرااااش!!
انفجرت الدمية الزجاجية تحت قدمه — تحطمت كما تتحطم الأساطير المنسيّة — وتناثرت أجزاؤها في الهواء كرماد حلمٍ مكسور.
صرخة خادمة عملاقة شقّت السكون:
“هناك زجاج مكسور في الممر! احذروا!”
“تعبت من الحذر! حتى لو حذرت… آآااااه!!”
ثم جاء الألم…
جرحٌ جديد، دماء تسيل، وطفلٌ آخر يئنّ، أو يضحك، أو كليهما.
لكن أحدًا لم يعد يصدمه ذلك.
لأن هذه هي الحياة داخل قلعة أورتيزو…
حيث يُولد الجنون، ويتربّى الخراب… لا يُستغرب أن تُزهر الفوضى في كل صباح، ولا يُعد الألم حدثًا غريبًا.
وأُصيب الطفل… مرة أخرى.
قدمه تنزف، ودماؤه الحمراء ترسم خيوطًا عشوائية على الأرض الباردة، كأنها توقيع جديد على صفحة الفوضى.
رئيسة الخدم، بملامحها الجامدة ويديها المتمرسة، انحنت تجمع شظايا الزجاج المتناثرة. تنهدت بعمق، وكأن هذا الحطام صار طقسًا صباحيًا معتادًا.
‘ها هي فوضى أخرى تُضاف إلى سجل الجنون الطويل.’
‘لكن… لحسن الحظ، لم يزهق روحٌ هذه المرة.’
وحين اقتربت منه لتضمّد جرحه، رفع الطفل نظره بازدراء، وعيناه تلمعان بكبرياءٍ وقح.
“على ماذا تحدّقين؟ اطرقي رأسكِ يا تافهة.”
إهانة؟ كلا. في هذه القلعة… هذا أسلوب حياة.
فالهالة السوداء لا تكتفي بتشويه الأرض والهواء، بل تتسلل إلى العقول، وتفتك بالقيم من الجذور.
صرخ الصبي، ضاحكًا بجنون:
“هاهاهاها! أغبياء!”
مزّق الضمادات، وركض بثقة متعجرفة، دماؤه تسيل على الأرض، وضحكته تخترق الجدران كصفعة ساخرة للألم.
قالت رئيسة الخدم وهي تكتم سيل الغضب في صدرها:
“ذلك الوغد… مجرّد شيطان صغير، ابن وحشٍ أكبر.”
الخدم في القلعة؟ لم يعودوا بشَرًا.
تحوّلوا إلى آلاتٍ متعبة، تُساق بأوامر المجانين الصغار ونزواتهم اللامحدودة.
وفجأة، وسط هذا الجنون العارم—
“حالة طارئة!”
صوت الحراس هزّ المكان، وحدّتهم تنذر بحدث غير عادي.
وراءهم… ظهرت هي.
طفلة صغيرة، تخطو بهدوء مهيب وسط الصمت الثقيل.
“هممم؟”
“من تكون؟”
شعرٌ فضي ينسدل كضوء القمر على كتفيها، وعينان أرجوانيتان تلمعان كأندر الأحجار الكريمة.
منظرها وحده كان كافيًا لتجميد الهواء… وتجميد القلوب أيضًا.
لقد كانت… مختلفة.
في أرض الشمال، يبهت كل شيء تحت الظلال… أما هي، فبدت كنورٍ مسافر من الجنوب، يبعث الحياة وسط الخراب.
سترتها الصوفية المطرزة بالأزهار ترفرف بخجل، وهي تنحني بأدب جمّ.
رئيسة الخدم، التي اعتادت صراخ الأشقياء، تمتمت بدهشة:
“عذرًا… من تكونين؟”
ردّ الحارس، وكأن الكلمات تختنق في حلقه:
“إنها الأميرة الصغرى… جاءت من بيت والدتها في الجنوب. تمت الموافقة على زيارتها لمدة أسبوع.”
“أميرة؟! كيف وصلت؟!”
“انتقلت عبر لفافة سحرية، سيدتي.”
‘لا… لم أقصد كيف وصلت، بل… لماذا جاءت وحدها؟!’
تقدّمت رئيسة الخدم بخطى حذرة، والقلق يتراقص في عينيها:
“لكنها ليست محصّنة… كيف استطاعت دخول الشمال؟ هل أنتِ بخير؟”
‘لقد قيل إن جسدها ضعيف منذ المهد، حتى أنهم أرسلوها بعيدًا عن هذه الأرض الملعونة كي لا تذبل وتموت في ظلامها.’
لكن الطفلة… ابتسمت.
ابتسامة دافئة كنسيم الربيع:
“نعم! أنا بخير تمامًا!”
ثم، دون أن تزعزعها نظرات الشك، أعلنت بثبات رقيق:
“مرحبًا! اسمي آيري أورتيزو! عمري خمس سنوات!”
طفلة… مؤدبة؟
في الشمال، أول ما ينطقه الأطفال هو “اختفِ من وجهي.”
الدهشة جمّدت الجميع.
ثم — كأنها تُنقّب عن ضوء داخل هذا الخراب — رفعت طرف تنورتها، وانحنت بانحناءة ٩٠ درجة، انحناءة مثالية تُدرّس.
“أرجو أن تعتني بي!”
صوتها… خجول، مضيء، نقيّ… كأنها خُلقت في عالم لا يعرف معنى الهالة السوداء، ولا يدرك قسوة الوحوش.
وأخيرًا، استعادت رئيسة الخدم وعيها المبعثر، وقالت:
“ولماذا أتيتِ؟ أين مُرافقك؟”
لكنها عضّت لسانها بعدها — شعرت أن كلماتها بدت كعتابٍ لطفلة لا تستحق العتاب.
مع ذلك، أجابت آيري بنبرة هادئة، ثابتة، تُخفي شيئًا أعمق:
“أتيتُ وحدي. هل يمكنني لقاء السيد القائد الدوق؟”
‘يا إلهي… حتى وهي مؤدبة، تقول “السيد القائد” بدلًا من “الدوق”!’
بدأ الجمود في وجه رئيسة الخدم يتلاشى، وهمست بصوت خافت:
“الدوق وزوجته في مهمة تتعلق بحرب الوحوش… لقد غادرا القصر منذ أيام.”
“آه…”
اتسعت عينا آيري، لكنها لم تبكِ، لم تتذمر، لم ترتجف.
فقط… انحنت مرة أخرى.
“لم أكن أعلم… لكن لا بأس. سأنتظر حتى يعودا.”
توقّف الزمن.
الخدم، الحرس، وحتى الجدران العتيقة… شعروا جميعًا بأن شيئًا جديدًا قد وُلد لتوّه.
ذلك الصوت، تلك الكلمات، ذلك النقاء…
طفلة… من عالمٍ آخر.
طفلة… تحمل في قلبها ما لم يحمله الشمال منذ قرون.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"