2
“إنها فتاة صغيرة ذات موهبةٍ مذهلة في السحر، أرغب في أن أجعلها تلميذتي لأُنشئها كما ينبغي.”
“سحر؟ إلى أي حدٍّ تبلغ موهبتها حتى تتولّى أمرها بنفسك؟”
“أوه، ألم تشعر يا دوق بذلك أيضًا؟ إنّها تبعث من حولها هالةً زاخرةً بطاقةٍ سحرية شهيةٍ إلى حدٍّ يدعو للدهشة.”
“…….”
“سأعلّمها أساسيات السحر بنفسي، وإذا تلقت بعد ذلك التعليم الأمثل في الأكاديمية الإمبراطورية، فستصبح ساحرة تضاهي قوةَ العظيم ألبيرت لو بليو. بل وربّما تتجاوز أحد تلاميذه.”
“يكفي. لا حاجة لأن أسمع المزيد. باختصار، تريدين منّي أن أُموّل هذه الطفلة، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيح. بالطبع أستطيع أن أتكفّل بها، غير أنّ حصولها على رعاية آل وِندريتش سيكون أنفع لها.”
كان الرجل يرمقني طويلاً بنظراتٍ متفحّصةٍ متردّدة، قبل أن يُصدر حكمه أخيرًا.
“عامٌ واحد.”
“……ماذا؟”
“أنا لا أستثمر في ما لا يملك قيمة. لذا، يا صغيرة، أمامك عامٌ واحد لتُثبتي جدارتك. وإن وجدتُ بعد ذلك أنك لا تستحقين العناء، فسأعيدك من حيث أتيت بلا تردّد.”
بصراحة، لم أكن أريد أن أصبح ساحرة. ولقائي بالسيد ريكاردو لم يكن بإرادتي أصلًا.
حتى لو أوقف دعمه بعد عام، لم يكن الأمر يعني لي الكثير.
وكأنه قرأ تلك الأفكار المتمرّدة في رأسي، قال بلهجةٍ هادئةٍ خاليةٍ من الانفعال:
“صحيح أنّ رؤية ساحرٍ في مقاطعة بارون كورنيل أمرٌ نادر. لعلّك لا تدركين كم هي ثمينة الموهبة التي تملكينها.”
“……؟”
“حتى السحرة المتوسطو القدرات يحظون بحياةٍ رغدةٍ في أغلب الأراضي. ستكون حياتك أفضل بكثير من أن تعيشي خادمةً في قصرٍ نبيل.”
“……!”
“وإن وصلتِ إلى مرتبةٍ تضاهي ألبيرت لو بليو، فحينها… أجل، لن يكون في هذه الإمبراطورية ما يُعجزك تحقيقه.”
لن يكون هناك ما أعجز عن فعله.
تعلّقت نفسي بتلك الجملة.
“إذن… هل يمكنني العثور على شخصٍ ما أيضًا؟”
“أتراكِ تبحثين عن أحد؟”
“نعم! أبي. قال قبل ثلاث سنواتٍ إنه سيغيب قليلًا، ولم يعد بعد ذلك.”
“ذلك…”
“أعرف ما تفكّر به الآن، لكن أبي ليس من أولئك الذين يهجرون أبناءهم. لابدّ أنّ أمرًا جللًا حال بينه وبين عودته، لذلك…”
لم أدرِ إلا والدموع تسيل من عينيّ، فرأيتُ وجه ريكاردو يتبدّل بالارتباك لأول مرة.
“لهذا عليّ أن أجد أبي قبل فوات الأوان.”
“هاه…”
مدّ يده إلى جبهته في تنهيدةٍ طويلة، ثم ناولني منديلًا.
“حسنًا، كفى بكاءً الآن. إن كنتِ راغبةً في العثور على والدك، فسأساعدك.”
“حقًّا؟”
“نعم، ولكن في المقابل، ركّزي كلّ جهدك على دراستك فقط.”
منذ ذلك اليوم، التحقتُ بالأكاديمية الإمبراطورية واجتهدتُ في دراستي لأكون جديرة بثقة السيد ريكاردو.
ولأنّ عليّ الاعتماد على رعايته حتى أعثر على أبي، فقد بذلتُ كلّ ما في وسعي.
سواء كانت موهبتي الفطرية أو جهودي الدؤوبة هي السبب، فقد استطعتُ بعد عامٍ واحدٍ فقط أن أتفوّق على كلّ أقراني، وأتخرّج في المرتبة الأولى في قسم السحر.
“يا دوق، لقد حصلتُ على المرتبة الأولى!”
“أوه؟ ألعلّك تنتظرين منّي أن أُثني عليك؟ ألم أكن أنا من دعمك؟ هذا أقلّ ما يُنتظر منك.”
“……نعم.”
“لكن لا بأس، يبدو أنك عملتِ بجدٍّ حقًّا.”
“نعم! هه.”
منذ ذلك الوقت، استمرّ دعمه لي، وبدأتُ أقترب منه شيئًا فشيئًا. صرتُ أراه كأبٍ لي، وهو عاملني كابنته.
كنتُ أظنّ نفسي أشدّ الناس بؤسًا، غير أنّ ريكاردو لم يكن أقلّ حزنًا منّي.
فقد زوجتَه قبل زمنٍ طويلٍ بسبب داءٍ غامض، ونتج عن ذلك جفاءٌ عميقٌ بينه وبين ابنه الوحيد، حتى صارا كالغرباء.
كانت الدوقة، قبل رحيلها، قد توسّلت إلى زوجها ألا يُخبر ابنهما عن مرضها حتى لا يقلق أثناء دراسته في الأكاديمية، فحُرم كِليان وِندريتش من وداع أمّه في لحظاتها الأخيرة.
ومنذ ذلك الحين، حمل في قلبه غضبًا شديدًا على والده، حتى أوشك أن يقطع صلته به تمامًا.
ورغم احتفاظه باسم “وِندريتش”، فإنه لم يكلّمه بعدها مطلقًا.
أما السيد ريكاردو، فمع علمه بسوء الفهم، لم يسعَ لتبريره قط.
“صحيح أني لم أُراسله، وبسببي لم يتمكّن من وداع ديانا في احتضارها، فهل يمكنني أن أسمّي ذلك سوء فهم؟”
“لكنّك فعلت ذلك نزولًا عند رغبتها، ومن حرصك على ابنك أيضًا!”
“يا صغيرة، مهما كانت المبرّرات، فإن ما حدث لن يُمحى من الوجود.”
كنتُ أرى حالهما فأشعر بغصّةٍ في صدري.
لو كنتُ مكان كِليان، لسعيتُ إلى مصالحة أبي مهما كلّفني الأمر.
لو أني فقط أستطيع لقاء أبي، لقلتُ له كم أندم على كلّ ما بدر مني، وكم أحبّه حبًّا لا يُقاس.
لكنّي لم أستطع أن أوصل إليه تلك الحقيقة، فما زال غائبًا بلا أثر.
أما كِليان وِندريتش، فكان يملك ما لم أملكه: فرصةً لئلا يندم.
ولحسن الحظ، كنّا ندرس في الأكاديمية ذاتها، فاغتنمتُ تلك الفرصة لأقترب منه.
لم يكن ذلك سهلًا أبدًا.
“أنتِ تقولين إنك تحت رعاية دوق وِندريتش؟ ذلك الرجل الذي لم يُلقِ بالًا حتى لابنه؟ ما الذي غيّره فجأة؟”
كانت عيناه الباردتان تنظران إليّ بازدراء.
ثمّ ابتسم بسخريةٍ قائلاً:
“آه، لعلّك وُضعتِ للتجسّس عليّ؟ إن كان الأمر كذلك، فوفّري جهدك. فلن تحصلي على ما يريد والدي سماعه.”
لكنّني كنتُ أُعرف في الأكاديمية بإصراري الذي لا يلين.
لذا، لم تُثنني نظرته الجافية عن مرافقته أينما ذهب، أتبعه كظلّه.
وبمرور الأيام، بدأ يقبل وجودي شيئًا فشيئًا.
مرّت سبع سنواتٍ كهذا.
وفي ظلّ رعاية السيد ريكاردو، نمت قدراتي السحرية نموًّا باهرًا حتى لقّبوني بالعبقرية.
ومع ذلك، لم تُفلح شبكة آل وِندريتش الواسعة في العثور على أبي، وكنتُ على وشك التخرّج من الأكاديمية.
غير أنّ بارقة الأمل الوحيدة كانت في كِليان، إذ بدأ يفتح قلبه لي، وقرر أخيرًا أن يُحادث والده وجهًا لوجه.
“تَبقّى على تخرّجك شهرٌ واحد، أليس كذلك؟”
“نعم، مرّ الوقت سريعًا.”
“هل فكّرتِ بما ستفعلين بعد التخرّج؟”
“لا، لستُ متأكدة بعد.”
تردّد قليلًا، ثم قال بصوتٍ خافت:
“ما رأيك أن تأتي معي إلى مقاطعة وِندريتش بعد التخرّج؟”
لم أكن أصدّق ما سمعتُه. لم تطأ قدماه تلك الأرض منذ وفاة والدته.
“حقًّا؟”
“أجل. إن كنتِ معي، أظنّني أستطيع التحدّث مع والدي… مع الدوق، أقصد.”
كان وجهه يتورّد خجلًا وهو ينطق كلمة والدي لأول مرةٍ منذ عشر سنوات.
كدتُ أبكي من شدّة التأثّر.
“بالطبع! سأذهب معك! سيكون السيد ريكاردو في غاية السعادة!”
كنتُ أظنّ أنّ جهودي الطويلة قد بدأت تُؤتي ثمارها أخيرًا.
كنتُ أفرح لاجتماع الأب والابن وكأنّه يومي الموعود.
لكنّ ذلك اليوم لم يأتِ أبدًا.
قبل تخرّجي بثلاثة أيام، وصلنا نبأٌ أليم.
فقد قُتل السيد ريكاردو أثناء مشاركته في حملةٍ ضدّ الوحوش بأمرٍ من المعبد.
“هاه…”
يا لِلتعاسة التي غمرت وجه كِليان وهو يقرأ الرسالة التي أنهت حياته للمرة الثانية!
ولا يزال مشهد ابتسامته المتكسّرة حينها محفورًا في ذاكرتي حتى اليوم.
⁀➷♥
“……ماذا قلتِ؟”
“هاه؟”
أفقتُ من شرودي على صوت السيد ريكاردو يسألني فجأة بنبرةٍ متعجّبة:
“لِمَ لستِ ابنتي بل كَنّتي؟”
Chapters
Comments
- 2 منذ 4 ساعات
- 1 - المقدمة + التشابتر الاول 2025-12-07
التعليقات لهذا الفصل " 2"