1
المقدمة
“ما نفع هذا النحيل الصغير الذي جئتَ به إلى هنا؟”
تفحَّصني دوق ويندريتشه، ذاك الذي يُقال إنه لا يخشى حتى مواجهة الإمبراطور نفسه، بعينين حادتين من رأسي حتى قدمي.
ورغم أنّ صِغَر سِنِّي أضعف شيئًا من حدّته، فقد كان حضوره طاغيًا بما يكفي ليُرهقني. شعرتُ بوخزٍ في بشرتي وبأنّ ساقيّ توشكان على الانهيار.
لكنّ ذلك لم يهمّني.
لقد غمرني شعورٌ بالدموع وأنا أرى دوق ويندريتشه مجددًا… أو بالأحرى، العمّ ريكاردو.
وبينما كنتُ أتنفّس بصعوبة وأمسح أنفي المبلّل، تولّى رالف سولفايت ـ الذي رافقني حتى أراضي الدوق ـ شرح الموقف.
“هذه هي الطفلة التي يُقال إنها الطبيبة التي تتحدّث عنها الشائعات.”
رفع ريكاردو حاجبًا وقال ساخرًا:
“الشائعات؟ أتعني…؟”
“نعم. الطبيبة التي عالجت مرضَ زوجة البارون كونيل.”
ضحك ريكاردو باستهزاء، لكنّ ضحكته لم تدم طويلًا. إذ سرعان ما تبدّل وجهه إلى صرامةٍ أشدّ.
“أتريد مني أن أُصدّق ذلك؟ أأنتَ بكامل وعيك يا رالف؟”
تردّد رالف لحظة، ثم استأنف قائلاً بثباتٍ يشوبه التوتّر:
“في البداية لم أُصدّق أنا أيضًا. لكنّ البارون وزوجته شهدا أمامنا بأنّ هذه الطفلة هي من عالجت السيدة بيديها. حتى خدم قصر كونيل أدلَوا بالشهادة نفسها. بدا الأمر مستحيلًا، لكنّنا لم نجد مفرًّا من تصديقه.”
قال ريكاردو بنبرةٍ جافة:
“الشهادات يمكن تلفيقها متى شاء الناس.”
كان من الواضح أنه لا يُصدّق كلمة واحدة.
‘وهذا طبيعيّ. بالنسبة إليه، أنا لا أزيد عن طفلةٍ في العاشرة لا تعرف من الدنيا شيئًا.’
غير أنّ الحقيقة هي أنّني بالفعل من عالجَ مرضَ السيدة كونيل، ذلك الداء الذي عجز عنه أمهر الأطباء.
وقد جئتُ الآن لعلاج دوقة ويندريتشه التي تُعاني المرض ذاته.
كنتُ أعلم أنّ هذا الحدث سيكون نقطة التحوّل التي بها أغيّر مجرى القدر.
سأمنع المآسي التي توشك أن تحلّ بعائلة ويندريتشه، وسأعثر على أبي الذي فُقد ولم يُعثر له على أثر.
ولتحقيق ذلك، كان عليّ أن أكسب ثقة العمّ ريكاردو… وأن أجعل منه حليفي.
قلتُ بثبات:
“أعلم أنّ تصديقي أمرٌ صعب، لكنّني حقًّا مَن عالجتُ زوجة البارون كونيل.”
لمّا نطقتُ بتلك الكلمات، تلألأت عيناه ببريقٍ مفترس، وقال محذرًا بصوتٍ جليديّ:
“أيتها الصغيرة، أنا أكره الكذب أكثر من أي شيء. وسأغضّ الطرف هذه المرّة لأنّك طفلة، أمّا إن كذبتِ مجددًا… فلن أرحمك.”
كنتُ أعلم أنه ضعيف أمام الأطفال، وإلّا لكان قد زجّ بي في زنزانة القصر.
لكنني واجهتُه بعناد:
“حتى لو كنتُ خائفة منكم يا سيدي الدوق، لن أُخفي الحقيقة. ومهما هددتموني، سأقول ما يجب قوله.”
توقّف قليلًا وحدّق بي بدهشة:
“ماذا قلتِ؟”
“جئتُ إلى هنا لأُعالج الدوقة. وأنا قادرة على ذلك.”
تنفّس بعمق وقال ساخرًا:
“هيه، أيتها الصغيرة…”
فقاطعته بحدة:
“اسمي ليس (الصغيرة)، إنما (آيريس سوان)!”
تبدّل بريقٌ في عينيه، فتابعتُ بثقة:
“واسم التدليل الخاص بي (ريشي). كان أبي وحده يناديني به، لكنني أسمح لك أن تناديني هكذا أيضًا، سيدي الدوق.”
نقرَ بلسانه متهكمًا وقال:
“جرأتك في الردّ أمامي تُحسب لك، لكن اللعبة تنتهي هنا، أيتها الصغيرة.”
‘قلتُ إنني لستُ صغيرة!’ تمتمتُ في داخلي وأنا أرفع رأسي قائلة بثقة أكبر:
“أتظنّ أنني جئتُ من تلك المسافة البعيدة لمجرد العبث؟ بل جئتُ لأمرٍ بالغ الجديّة.”
لم يجب، فتابعت:
“إن لم يرقَ لك حديثي بهذا الشكل، فلنقلها بطريقة أخرى.”
ابتسمتُ له ابتسامةً مشرقة وقالت نبرتي بحزم:
“جئتُ أعقد صفقةً معكم يا سيدي الدوق.”
“صفقة؟”
“نعم!”
رفعتُ صدري فخرًا وقلت:
“إن نجحتُ في علاج الدوقة، فاجعلوني زوجةً لابنكم!”
ساد الصمت المذهول في أرجاء المكتب.
“…زوجة؟”
“أجل! سمعتُ أن للدوق ابنًا في مثل سِنّي. أرجو أن تسمحوا لي بالزواج منه!”
تجمّد وجه ريكاردو، فقلتُ بابتسامةٍ صغيرةٍ لأُثبّت كلامي:
“أعدكم أنّني سأكون الابنة التي تفخرون بها، يا والدي العزيز.”
اسمي آيريس سوان.
طفلةٌ من عامة الشعب، تجرّأت على قول ما لا يُقال.
ولكي يفهم المرء كيف تجرّأتُ على فعل ذلك، عليه أن يعرف ما الذي جرى في حياتي السابقة.
فالحقيقة أنّني، منذ شهرٍ فقط، عدتُ بالزمن إلى الوراء… إلى حين كنتُ في العاشرة من عمري.
∘ ─────── ⊰❈⊱ ─────── ∘
𝖢𝗁𝖺𝗉𝗍𝖾𝗋 | 001
قصر دوق ويندريتشه
منذ نحو عشر سنوات، اختفى أبي الحبيب. كنتُ يومها في العاشرة من عمري.
“ريشي، عليّ أن أذهب إلى مكانٍ مهمّ على عَجَل، وسأعود سريعًا. يمكنكِ البقاء وحدك، أليس كذلك؟ السيدة إيما ستعتني بكِ.”
“أين تذهب يا أبي؟ دعني أذهب معك!”
“المكان الذي أقصده ليس مناسبًا لفتاةٍ صغيرة مثل ريشي. سأذهب وحدي وأعود بسرعة، حسناً؟ كوني مطيعة.”
“حسنًا.”
في ذلك اليوم، بدا أبي على غير عادته، متوتّرًا، كأنّ شيئًا ما يُثقله أو يُقلقه بشدّة.
لعلّه أحسّ بخطرٍ ما يقترب… أمّا أنا، فقد شعرتُ بأنّ شيئًا ليس على ما يُرام، ومع ذلك لم أستطع أن أتمسّك به وأرجوه ألّا يرحل.
وقد ظللتُ أندم على ذلك القرار حتى آخر يومٍ من حياتي السابقة.
قال مبتسمًا وهو يمسح رأسي:
“عندما أعود، سأُحضر لكِ كعكة ريشي المفضّلة. وعدٌ من أبيك.”
“نعم، وعد!”
غادر وهو يلوّح بيده الصغيرة في الهواء، وقد عقدنا وعدنا بخنصرَينا… غير أنّه لم يعد أبدًا.
كنتُ أودّ البحث عنه، لكن طفلةً في العاشرة، ما الذي يمكنها فعله؟
لا أحد، لا أنا ولا أي إنسان في البلدة، كان يعلم إلى أين ذهب أبي.
وبغياب أيّ أثرٍ له، استحال تتبّع طريقه.
هل أصابه مكروه؟
هل كان يريد العودة لكنه لم يستطع؟
هل جُرح؟ هل هو في مكانٍ ما يتألّم؟
كنتُ أبكي حتى تورّمت عيناي، يومًا بعد يوم، دون انقطاع.
لولا السيدة إيما، تلك المرأة الطيّبة التي كانت تعاملني كأنني حفيدتها، لربّما متُّ حزنًا وبكاء.
لكنّ الناس في البلدة كانوا قساة القلب.
راحوا يهمسون في الأزقّة:
“رجلٌ يربّي ابنةً وحده؟ هذا مستحيل أن يدوم.”
“وجهه وسيم بما يكفي ليبدأ حياة جديدة في مكانٍ آخر، بلا طفلةٍ تُثقله.”
“يا للأسف على الصغيرة المسكينة.”
لكنّ السيدة إيما لم تدعهم يفلتون بثرثرتهم.
كانت تلوّح بمكنستها الطويلة وتهتف غاضبة:
“كيف تجرؤون على قول مثل هذا أمام الطفلة؟ هل تظنّون أنّ ماكس يمكن أن يتخلى عن ابنته؟ لم يكن في الدنيا أبٌ أكثر حبًّا لابنته منه!”
“لكننا لا نعرف ما الذي حدث له حقًّا…”
“كفّوا عن الترهات! إن سمعتُ أحدكم يفتح فمه بكلمةٍ أخرى أمام الطفلة، فوالله لن أتركه يومًا واحدًا في سلام!”
ثم كانت تلتفت إليّ بابتسامةٍ حنونة وتقدّم لي كوب شوكولاتة ساخنة.
“آيريس، والدك سيعود، يا عزيزتي. لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن ابنته الصغيرة، ستشتاق إليه عيناه ويعود إليكِ، ستُرَين.”
كنتُ أصدّقها من أعماقي.
أبي لم يكن من النوع الذي يتخلى عني.
لكن مرّ شهر… ثم عام… ثم عامان، ولم يعد أبي.
ثم رحلت السيدة إيما أيضًا، بعد صراعٍ طويلٍ مع مرضٍ لازمها منذ سنين.
وهكذا وجدتُ نفسي وحيدة في هذا العالم.
لم يكن أمامي ترف البكاء أو الوقت للرثاء. كان عليّ أن أجد وسيلةً للبقاء.
ولحسن الحظ، قبلني آل كونيل، نبلاء منطقتنا، للعمل في قصرهم كخادمةٍ صغيرة للأعمال البسيطة.
وذات يوم، بينما كنتُ أعمل هناك، زار القصر ساحرٌ غريب.
اقترب منّي بابتسامةٍ لطيفة وسأل:
“أيتها الصغيرة الجميلة، ما اسمك؟”
“ماذا؟ اسمي؟”
“نعم، أودّ معرفة اسم هذه الفتاة الجميلة.”
“أنا… آيريس سوان.”
ثم جرت الأمور بسرعةٍ لم أفهمها، ولا أزال حتى اليوم لا أذكر كلّ تفاصيلها.
وحين أفقت، وجدتُ نفسي واقفة أمام رجلٍ طويلٍ مهيب، من رأسه حتى قدميه يغلّفه السواد.
ذلك الرجل كان دوق ويندريتشه نفسه… العمّ ريكاردو.
قال بنبرةٍ باردة وهو يرمقني باستخفاف:
“ولماذا جئتَني بهذه الطفلة الهزيلة؟ أنظر إلى ذراعيها، لا تقوى حتى على حمل مكنسة. ما الذي يمكن أن تنفع به؟”
ذلك اليوم، وكما الآن، كان العمّ ريكاردو لا يرى فيّ سوى طفلةٍ لا تستحق النظر.
Chapters
Comments
- 1 - المقدمة + التشابتر الاول منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 1"