1

الفصل الأول 

                             العهد الجديد 

“كان البحر صامتًا يوم رحيله، وكأن البحر اللامتناهي كله نكّس أجنحته الحية. بنثومار، سيد التيارات، راقد الآن في مقبرة الحيتان…قبل مئات السنين، وقبل أن ينقسم البحر بين النور والهاوية… لم يكن هناك ملك. كانت الأعماق تحكم نفسها بالصمت والظلال، حتى جاء حوري أمير من الشمال، يحمل بين عينيه أثر نور الماضي و مأساة الحاضر ، أنشأ مملكتنا في الأعماق بعيدا عن أولئك الساعين إلى الخراب … و لأجيال عديدة حتى الآن عهد جديد يشرق مجددا مع أميرنا البكر إيريد الذي سيستلم الحكم بعد جده الملك الراحل بنثومار الأول .”

داخل قاعة قصر المرجان المهيبة فُتحت الأبواب على مصرعيها سامحة بدخول الملك إيريد و خلفه أعضاء مجلس الشيوخ و على يمينه إبن خالته آرس، متجهين إلى وسط القاعة، أمام الحضور كله من عائلته المكونة من إخوته و أبناء خالته إلى الحكيم الذي إنحنى أمامه بوقار و هو يحمل التاج الذهبي و الرمح ثلاثي شعب بعدما ألقى خطابا وعظيا على مسامع الحضور من النبلاء ،و قادة البحار السبع، و المستشارين

الحكيم زارت :

“إيريد ، إبن إيزاك ، حفيد بنثومار الأول البكر هل ستحافظ على أثر جدك العادل في حكم مملكتنا بعدل و إنصاف داخل القصر و خارجه ؟”

وقف إيريد منتصبا وهو يضع يده بجهة قلبه قائلا :

“أقسم بأنني سأتبع خطوات جدي في الحكم و أحمي شعبي بنبل و إنصاف .”

 و بهيبة تقدم الحكيم زارت أمام إيريد و تلفظ بكلام عظيم يرفع التاج صوب رأس إيريد بفخر قائلا:

“و إنه لإمتياز و شرف لي أن أعلنك يا إيريد ملكا على كوينتارا .”

وُضع التاج على رأس إيريد و استلم الرمح الملكي وسط تصفيق الحضور ،كما تم وضع التاج على آرس كأمير للمملكة.ثم قام الملك إيريد بجولة حول المملكة بين أعيانه و شعبه على عربة تجرها أحصنة البحر وسط أهازيج و هتافات شعبية كبيرة ،فرحةً بنهوض ملك جديد يقود المملكة إلى النور و الإزدهار ، بينما ظلت عائلة إيريد تشاهد عن كثب الموكب المهيب على شرفة القصر ، قالت روكسانا أخته الصغرى .

روكسانا:

“أليس هذا جميلا ، أخيرا أشرقت شمس عهد جديدا على مملكتنا ، بعدما مرّت بظلام الحداد حُزنا و حُرقة على فراق جدنا .”

فردت عليها آريستا التي كانت تقف بجانب أخيها الأكبر آرس

آريستا :

“لقد مرت سبعة أشهر منذ إنقضاء فترة الحداد و لازلت أشعر أن وفاة جدي كانت بالأمس ، سأشتاق إليه كثيرا .”

أخفض الكل رأسه حزنا و تأسفا على وفاة جدهم و كأنهم لم يتجاوزوا حقيقة موته بعد ، ثم تقدم تريتون محاولا تغير الموضوع لإبهاج إبنة خالته قائلا:

تريتون:

“لا تحزني يا إبنت خالتي الصغيرة ، فالأساطير تقول أن أولئك الحكام و الملوك العادلون و المنصفون الذين حكموا مملكتنا منذ مئات السنين ، كلهم سيتحولون إلى حيتان ضخمة جميلة تجوب أعمق البحار و المحيطات بعيدا عن المملكة في المياه المضئية ، و كما يقال الملوك لا يُولدون في المجد… بل في الفقد .”

فإلتفت آرس ثم قال مغيرا موضوع الحديث، يحدث تريتون قائلا

آرس :

“متى سيتم سرد و إفصاح وصية و كلمات جدنا الآخيرة ؟”

فأجابه تريتون مبتسما: 

“على الأرجح غدا . إنسى هذا الأمر حاليا و إستمتع بوقتك الآن ، لأنه أخيرا ستحظى مملكتنا بالسعادة المطلقة .”

ثم غادروا الشرفة إلى قاعة القوارير ، وبقي آرس بمفرده و هو ينظر إلى الأفق الأزرق فتنهد ببطء يخفي مكرا

آرس:

“بطبع سنستمتع بوقتنا فعلا …”

و كأنه تذكر لمحة من الماضي …

___

 في ليلة تزينت بالقناديل المشعة ، إجتمع أبناء الخالتين لتناول العشاء معا في قصر المرجان المهيب و على طاولة مغطاة بأشهى المأكولات دار حديث صغير بين إيريد و آريستا يملأه الخيال

إيريد الصغير :

“هل سمعتي بأسطورة الحوري القديم الذي قيل عنه أنه أول من أنشأ مملكتنا منذ زمن طويل؟ “

آريستا الصغيرة بحماس طفولي :

“لا لم أسمع عنها ، عن ماذا تدور أحداثها ؟”

فبلل إيريد الصغير شفتيه و عدل جلسته و شرع بالحكي:

“في قديم الزمان، كان هنالك أمير حوري إسمه أنفاي أحب فتاة من سكان السطح و تزوجها ، كان يعيش في ممكلة بعيدة جدا عن منطقتنا و قيل أنها كانت موجودة وراء المياه المضئية ، و بسبب علاقتهما شنت نزاعات و حروب طاحنة بين البشر و الحوريون أودت بحياتهم كلهم حتى محبوبته لم تسلم من شر الحرب التي قيل أن إسمها كان … ماكان إسمها يا روكسانا ؟”

فأنخرطت روكسانا الصغيرة مضيفة قائلة بثقة:

“سيليا ، الأميرة سيليا .”

فإبتسم إيريد الصغير قائلا:

“آه نعم سيليا ، و جراء ذلك و في لحظة غضب قام أنفاي بضرب أرض البحر اللامتناهي و صعق كل الحوريين المتسببين في الحرب و كذلك البشر الذين كانوا يعيشون في السطح على الجزيرة ،ثم قام بأخذ أبنائه و الغوص عميقا في أعمق منطقة في البحر ، و أنشأ مملكته هناك . تقول الأساطير أن مملكتنا العريقة هي نفسها تلك المملكة القديمة .كما أنه هنالك من يقول أن سبب وجود كائنات مثلنا تحمل دماءا هجينة و أخرى تتمتع بدماء صافية نقية راجع إلى النسل المستمر من ذلك الحوري الأمير و محبوبته البشرية منذ مئات السنين…

فقاطعه آرس الصغير عابسا قائلا بنبرة منفعلة:

آرس الصغير :

“هذا هراء ، لأن إقامة أي علاقة مع البشر أو حتى الإقتراب منهم يعد محرما و مخالفا للأوامر ، كما يعاقب فاعلها بالنفي المطلق إلى هاوية آبيس .”

فرد عليه إيريد الصغير بنبرة هادئة موضحا قصده

إيريد الصغير :

“إهدأ قليلا فأنا أعرف هذا جيدا ، كما أنها مجرد أسطورة أو أشبه بقصة ما قبل النوم ، أما إختلاف دمائنا فحقيقي بالفعل و لكنه غير مهم إطلاقا . فها نحن الآن رغم أنكَ و أختك آريستا تملكان دماءا نقية و صافية بينما أنا و أخواي أحمل دماءا مختلطة ،إلا أننا نعيش تحت سقف واحد و تجمعنا علاقة أخوية .”

فجأة قاطع حديثهم دخول جدهم الملك بنثومار الأول الذي إستمع إلى كل كلمة قالها إيريد ، فنهض كل من في القاعة و انحنى الحفدة إحتراما أمامه بوقار ثم قال بنبرة فخر

الملك بنثومار الأول:

“أحسنت القول إيريد ، فعلا لا يوجد فرق بين الصافي و الهجين و كل الكائنات الحية لها مكان في هذا العالم ، و هذا ما أتوقعه منكم يا أحفادي أن تحكموا المملكة بإنصاف و عدل داخل القصر و خارجه في البحر .

 فنهض آرس قائلا غير مدرك عاقبة كلامه

آرس الصغير:

“أخبرني يا جدي ، من سيكون حاكم كوينتارا بعد إيريد ؟”

فصمت كل من في القاعة و أخفضوا رؤوسهم إستياءا و إضيقت عينا الملك بنثومار ثم رد عليه قائلا يشوبها غضب طفيف 

الملك بنثومار الأول:

“أليس الوقت مبكرا للحديث عن هذا الموضوع الآن ؟، وإلى أن يحين الوقت المناسب سيكون لنا حديث بعدها” .

ثم غادر الملك القاعة وإلتفت كلهم عابسين في وجه آرس ، فلاحظ ذلك متحيرا

آرس الصغير:

“ماذا… ؟ ماذا بكم ؟.”

فرد عليه تريتون بنبرة منفعلة قائلا 

تريتون الصغير:

“أحسنت القول ، يا آرس ! كيف تجرؤ على سؤال الملك هذا السؤال ؟”

فأجابه آرس قائلا يهز ذراعيه قائلا

آرس الصغير :

“ماذا ! لم أقل شيئا يعبث عن الغضب ، فقط أردت معرفة من سيكون الحاكم بعد إيريد .”

فقاطعه تريتون مستهزئا قائلا 

تريتون الصغير:

“آخ ، لا تقلق لن يأخذ أحدا مكانك بعد إيريد يا ملكي ، حتى إيريد لم يسأل هذا السؤال وهو الأحق بالحكم و أكبرنا بعد جدنا .”

فغضب آرس جدا و إقترب مشاجرا تريتون ، حتى تدخلا كل من روكسانا و آريستا و أمسكا ذراعي كل منهما ، ثم تدخل بينهم إيريد محاولا تهدأت الأمر و فك شجارهما قائلا

إيريد الصغير:

“سيطروا على أنفسكم. هذا النوع من السلوك لا يليق بكم كعائلة متماسكة… تريتون هذا يكفي! دعه و شأنه… و أنت يا آرس سيطر على نفسك و حاول أن تفكر في العائلة أكثر من التفكير في نفسك فقط .”فإبتعد آرس عن تريتون و فك قبضته عن رقبته ثم تتحرر من قبضة أخته آريستا وبدأ بالابتعاد عابسا خارج القاعة و عبر ممرات القوارير بعيدا…”

___

فتح آرس عينيه كمن يعود من الفراغ و لكنه كان هناك صوت خافت يتردد باستمرار في أذنه لمدة من الزمن ، حين إلتفت يمينه ، كانت أخته الصغيرة واقفة بجانبه تنادي عليه لمدة فحدق فيها بذهولا ثم قال ببرودة و متفاجئا 

آرس :

“ماذا تفعلين هنا يا آريستا ؟ ، لماذا لا تنزلين مع العائلة لتحتفلوا بملككم الجديد !”

فتبددت ملامح وجهها وردت عليه بصوت واهن ، متردد بعينين ذابلتين

آريستا: 

“..و أنت؟ ..ألست جزءا من العائلة ، يا أخي إذا كان هناك شئ يحزنك فقله لي… ، من لي سواك بعد رحيل والدينا و جدنا ؟”

فأخفض رأسه متنهدا ثم رد عليها و هو يضع يديه على كتفها يخاطبها بقلق : 

آرس:

“أقولها بصراحة ، لم أعد أشعر بالآمان بعد موت جدنا بنثومار، لهذا الأمر يجب علي معرفة من سيكون الحاكم بعد إيريد و ما هي كلمات و وصية جدنا الآخيرة … أخاف أن ينتهي بنا المصير إلى… المجهول 

(أو أسوء ..) .

قالها في نفسه كمن يحاول مسح فكرة مسمومة من رأسه ثم أضاف قائلا بنبرة هادئة 

آرس :

“فيا أختي… عندما أحكم بعد إيريد لأنني البكر بعده، سأتأكد أن حقنا لن يُغتصب منا !”

فرفعت عينيها إليه بإرتعاش قائلة بدهشة و خوف 

آريستا :

“ماذا تقول ؟، هذا لا يعقل فلن يغتصب أحد حقنا فنحن عائلة واحدة.. لا يعقل أن يفعل إيريد هذا بنا .”

نظر إليها بإستياء ثم إلى أسفل الشرفة الزجاجية مطأطأ كمن فقد الأمل، و ثم غادر تاركا أخته لوحدها على الشرفة تنظر إليه وهو يختفي وراء الأعمدة…

يتبع