8
أثناء تناولنا للعشاء، إذ بجدّتي، التي كانت تراقبني و”وو جين” بصمتٍ طويل، ترفع رأسها فجأة وتسأل سؤالًا غريبًا:
ــ “سون-يونغ، متى تزوّجتِ؟”
ــ “ماذا؟!”
حدقتُ بها مصدومة، وقد احمرّ وجهي خجلًا حتى شعرت بأنّ دمي كله صعد إلى رأسي.
كنتُ أعلم أنّ ذاكرة جدّتي باتت مضطربة في الآونة الأخيرة، غير أنّها لم تسبق أن قالت كلامًا كهذا!
لم أدرِ ما أفعل، والتفتُّ إلى “وو جين” طلبًا للعون، فوجدتُه أكثر ذهولًا منّي، يسعل وسط لقمةٍ لم يُكملها، ويمسك بكأس الماء يشربه على عجل.
صرختُ في ارتباك:
ــ “جَدّتي! عن أيّ شيءٍ تتحدثين؟! هذا “الأخ جونغ هيون”، ابن العمة “يون-سيو”! إنه أخي، لا شيء آخر!”
لكنّها رفعت يدها غاضبة وقالت بحزم:
ــ “وهل تظنّينني لا أعرف وجه جونغ هيون؟! هذا الرجل غريب تمامًا! إنّه زوجكِ! ما بالكِ تتصنّعين الجهل؟!”
كدتُ أن أختنق خجلًا. أردتُ أن أُخفي وجهي عن الوجود! سارعتُ إلى جمع الصحون وتنظيف المائدة بسرعةٍ، علّ الضوضاء تُلهيها وتُنهي هذا الموقف المشؤوم.
كان المساء قد بدأ يحل، فظننت أن الأمور ستسكن قليلًا مع مرور الوقت.
لكن يبدو أن الدواء الجديد الذي ابتعته من الطبيب “بارك” لم يجدِ نفعًا، بل إنّ حالتها ازدادت سوءًا! سأذهب إليه غدًا، وأطالبه بإعادة مالي بكل تأكيد!
أنهى “وو جين” طعامه بهدوء، دون أن ينبس بكلمة، ثم دخل إلى الغرفة المجاورة، على عادته، ممسكًا بكتاب.
بعد أن أنهيت غسل الأطباق، رتبتُ فناء الدار، واستعددتُ للخلود إلى النوم. غير أنّ الباب أبى أن يُفتح!
هززته بقوة، فلم يتحرّك قيد أنملة. أصابني الرعب، فصحتُ:
ــ “جدّتي! لماذا أغلقتِ الباب؟!”
جاءني صوتها من الداخل، هادئًا مطمئنًا كأنّما تُنهي أمرا بديهيًا:
ــ “نامي مع زوجكِ.”
ــ “ماذا؟!”
كادت الكلمات تخونني من شدّة الصدمة. ماذا جرى لجدّتي الليلة؟!
ــ “جدّتي، أرجوكِ! لا تقولي هذا الكلام الفارغ! أنا لستُ متزوجة! افتحي الباب، أرجوكِ!”
ردّت وهي تتنهّد:
ــ “ما بالكِ تهذُرين؟! إنّه زوجكِ! يبدو أنّكِ بدأتِ تفقدين عقلكِ بعدما كبرتِ.”
أوشكتُ أن أفقد صوابي حقًا.
وإذ بباب الغرفة الأخرى يُفتح بصوتٍ خافت، ويطلّ منه “وو جين” وعلى ملامحه تساؤل ودهشة:
ــ “ماذا يحدث هنا؟”
أدرتُ إليه وجهي، مرتبكةً، وهمستُ:
ــ “لا شيء… لا شيء.”
كنتُ قريبة على حافة البكاء، بينما أواصل هزّ مقبض الباب بعبثٍ.
لو أنّ جدّتي كانت تصبّ غضبها عليّ كما كانت تفعل من قبل، متهمةً إيّاي بسرقة خاتمها الذهبي، أو بالتقصير في إطعامها، لهان عليّ الأمر.
لكن أن تزفّني إلى رجلٍ لم أتزوجه؟! أيُّ مصيبةٍ هذه؟!
توسّلت إليها:
ــ “جدّتي! افتحي الباب، وسنتحدث بهدوء، أعدكِ… كل ملابسي داخل الغرفة، ولا يمكنني النوم هكذا!”
لكن لا جدوى. عزمت جدّتي على إغلاق الباب كأنّما تحرس كنزًا ثمينًا.
كنتُ قد تعبتُ طوال النهار، أجرُّ جسدي المنهك شوقًا إلى فراشي.
أما الآن، فلا مفرّ من النوم على عتبة الباب، ممسكةً بمقبضه كاليتيم.
اقترب “وو جين”، وعيناه تلمعان بابتسامةٍ مكبوتة:
ــ” ما الأمر؟”
نظرتُ إليه، مكتومة الغيظ:
ــ “تظنّ الأمر مضحكًا؟”
قهقه برقةٍ وقال:
ــ “قليلًا… نعم.”
صرختُ، وقد بلغ بي الحرج مبلغه:
ــ “جَدّتي! أرجوكِ افتحي الباب!”
أتاها صوتي المتوسل، فأجابتني بعنادٍ لا يلين:
ــ “اذهبي ونامي مع زوجكِ!”
آه، يا جدّتي… لماذا تُمعنين في إحراجي هكذا؟
عاجزةً حتى عن تحريك رأسي، أسندتُ وجهي إلى الباب، بينما إلى جانبي كان “وو جين” يكتم ضحكته، والابتسامة الساخرة لا تزال مرتسمة على محيّاه.
قال ممازحًا:
ــ “سون-يونغ، أهذا يعني أنّ عليكِ أن تنامي معي الليلة؟”
أجبتُه بحدّة.
ــ “اصمت.”
قهقه قائلًا:
ــ “آه، أنا خائف.”
ثم نهض واقفًا، لا تزال الضحكة تتراقص في صوته، وقال:
ــ “حسنًا، سأُعطيكِ بطّانية، يمكنكِ النوم على أرض غرفة المعيشة.”
تأوّهتُ قائلةً:
ــ “كيف لي أن أنام على أرض الغرفة؟!”
ــ “إنّه ليلٌ صيفي… يمكنكِ تحمّل الأمر.”
ضحك بهدوء، ودخل إلى غرفته، فأخرج منها فرشه وبسطه على الأرض ليعدّه لي فراشًا
آه، ما هذا البؤس الذي حلّ بي! التويتُ مكاني من شدّة الغيظ، والغصة تعصر صدري.
كان الليل صافياً، وضوء يوليو يسكب رِقّته فوق الدار، ولم يكن يُسمع في الأرجاء غير طنين الحشرات الرتيب.
حاولتُ أن أُغري جدتي بقطعة ذرة طازجة علّها تلين وتفتح الباب، لكنّ محاولتي باءت بالفشل.
فجلستُ مكرهةً بجوار “وو جين” على الشرفة الخشبية، نتقاسم الذرة تحت ضوء القمر.
وإذا به يقول فجأة، وعيناه معلقتان في السماء:
ــ “لم أملك جدّةً قط…”
نظرتُ إليه مستغربةً:
ــ “لم تملك جدّة؟”
أجابني بابتسامة حزينة:
ــ “توفيت حين كنتُ صغيرًا، فلم أحظَ بها بالأصل.”
قلتُ له، محاولةً التخفيف عنه:
ــ “إذًا، أنت لم تخسرها… بل لم تلتقِ بها من الأصل.”
هزّ رأسه كأنّه يسلّم بالأمر، ثم أردف:
ــ “على أيّ حال، سون-يونغ، جدّتكِ لطيفة… ومسلية.”
ضحكتُ بسخرية مريرة وقلت:
ــ “لو كانت أكثر تسليةً من ذلك، لمُتُّ من فوري.”
صمتُّ برهةً، قبل أن أسترسل بشيءٍ من الحنين:
ــ “جدّتي كانت فيما مضى “هانيو” عظيمة، قائدة النساء الغوّاصات جميعهنّ. كانت تستطيع حبس أنفاسها أكثر من أيّ شخصٍ آخر، وكان الناس يُشبّهونها بابنة ملك البحر.”
كانت جدّتي في شبابها حقًا امرأةً استثنائية.
وجهها الأسمر المتجعد كان يتلألأ بالحياة، وتحت الماء، كانت كأنّها حورية أسطورية.
همس “وو جين”:
ــ “كانت أميرة البحر.”
ــ” أميرة البحر؟”
اتسعت عيناي بدهشة، إذ لم يسبق لي أن سمعتُ بهذا التعبير من قبل.
سألني بنظرة دافئة:
ــ “ألَم تسمعي من قبل عن أميرة البحر؟”
هززتُ رأسي نافيةً. لم أكن أملك كتابًا واحدًا من كتب الحكايات الخرافية.
ضحك، ثم مدّ يده يعبث بشعري قائلاً:
ــ “يا إلهي… يبدو أنني مضطر لشراء كتاب حكايات خرافية لكِ يا سون-يونغ.”
صرختُ معترضةً، محمرة الوجنتين:
ــ “توقف عن العبث!”
غير أنّه تابع ابتسامته الهادئة غير مكترث باعتراضي، ثم بدأ يحكي لي قصة أميرة البحر:
ــ “كان يا مكان، في قديم الزمان…”
دون أن أشعر، أسندتُ ذقني إلى راحتيّ، وأرهفتُ السمع، متلهفةً لسماع ما لم أعرفه من قبل.
قال بصوتٍ هادئ:
ــ “كان لملك البحر العديد من الفتيات، وكانت أصغرهنّ الأجمل بينهن جميعًا.”
آه، يبدو أنّ الصغار دومًا يحظون بالنصيب الأوفر من الجمال.
تابع وهو ينظر إلى الأفق:
ــ “وفي أعياد ميلادهنّ، كان يُسمح لأميرات البحر بالصعود إلى سطح الماء. وكانت الصغيرة، أكثرهنّ فضولًا، تنتظر عيد ميلادها بفارغ الصبر. حتى إذا جاء يومها الموعود، صعدت إلى السطح، فرأت أميرًا وسيمًا يقيم حفلةً صاخبةً فوق سفينة عظيمة.”
عند هذه الجملة، انتابني شعور غريب.
تذكرتُ أوّل لقاء لي مع “وو جين”، حين رأيته جالسًا فوق مركب صيد، والنسيم يعبث بشعره الأبيض وقميصه الحريري، بدا لي حينها حقًا كأميرٍ نازلٍ من نجوم السماء.
تابع قائلاً:
ــ” لكن الأمير كان بشريًا، وأما أميرة البحر فكان لها ذيل سمكة…”
اهتزّ قلبي لهذا التشابه.
ترى… أيمكن أن تكون قصتي أنا؟!
لا، استفيقي يا سون-يونغ! الغاطسات لا يمتلكن ذيول سمك!
قال وهو يبتسم:
ــ “ولذا، ذهبت الأميرة إلى ساحرة البحر لتطلب منها أن تُحوّلها إلى إنسانة، كي تتمكن من البقاء إلى جانب الأمير الذي وقعت في حبه…”
كلما تقدّم وو جين في قصته، ازداد تعلقي بحكاية أميرة البحر.
وفي النهاية، تخلّت الأميرة عن صوتها، وافتدته لتحصل على ساقين بشريتين حتى تتمكن من لقاء الأمير.
همستُ بحزن:
ــ “هذا… مُحزِن للغاية.”
أجابني وهو يبتسم ابتسامةً غامضة:
ــ “نعم، كان عليها أن تترك البحر خلفها…”
قلت مؤيدةً كلامه:
ــ “بالضبط.”
وصمتنا لحظة، ثم أردف، وكأنما يكشف عن حكمة دفينة:
ــ “الناس دائمًا ما يدفعون ثمنًا لقاء ما يرغبون به.”
ثـمــنٌ…
سقطتُ في صمتٍ عميق، أفكر.
إنّه كلام صحيح.
كل شيء له ثمن.
إن رغبتَ في شيء، وجب عليك أن تدفع مقابله.
كما كان عليّ أن أتخلى عن تعليمي لأجل أن أرسل أخي إلى جامعة مرموقة.
سواءٌ في عالم البشر أو عالم البحر، يبدو أنّ هذه القاعدة لا تتبدل.
سألتُه بصوتٍ يملؤه الفضول:
ــ “وهل حصلت أميرة البحر على الأمير في النهاية؟”
أدار وو جين عينيه نحوي، وصمت للحظة كأنّه يبحث عن كلمات مناسبة.
قال أخيرًا:
ــ “لستُ متأكدًا.”
اعترضتُ متعجبةً:
ــ “ماذا تعني؟ ألستَ تعرف نهاية القصة؟”
أجاب مبتسمًا بخفوت:
ــ “بلى، أعرفها.”
ــ “إذًا، أخبرني! ما الذي حدث؟”
تنهد قليلاً وقال:
ــ “أميرة البحر… لم تحظَ بحب الأمير أبدًا.”
تجهم وجهي بصدمة.
أيّ نوع من القصص هذا؟!
قلتُ بمرارة:
ــ “أهذه حقًا حكاية خرافية؟! لا تمنح الأطفال حلمًا ولا أملًا!”
ابتسم وو جين بخفة، كأنّه يتفهم إحباطي، وقال:
ــ “نعم.”
سألته متلهفة:
ــ “ومن الذي ألّف تلك القصة الغريبة؟! وماذا حدث للأميرة التي خسرت حبّها وصوتها؟”
تردد وو جين للحظة أمام سؤالي، ثم أجاب بصوتٍ خافت:
ــ “تحولت إلى زبد البحر.”
شهقتُ بدهشة:
ــ “ماذا؟!”
ــ “نعم… تحولت إلى رغوة عائمة على سطح البحر.”
كان الأمر حقًا مأساويًا.
أدرتُ وجهي بعيدًا، رافضةً الاستماع إلى نهاية كهذه، حيث تنتهي القصة بوحدةٍ موجعة.
في عرض البحر الليلي، كانت أضواء قوارب صيد الأخطبوط تتلألأ بسطوعٍ خافت.
قلتُ بلهجةٍ قاطعة وأنا أحدّق في الأضواء البعيدة:
ــ “لا أريد حبًا كحب أميرة البحر.”
سألني وو جين مبتسمًا:
ــ “حقًا؟”
أجبتُ بثقة:
ــ “نعم! أيُّ حبٍ هذا؟ لم تحظَ بالرجل الذي أحبته، وفقدت صوتها، ولم تستطع حتى العودة إلى عائلتها…”
هززتُ رأسي مستنكرةً، ثم استلقيتُ إلى الوراء وأسندت ذراعي على أرضية الشرفة.
قلتُ بمرح متحديةً:
ــ “لو كنت مكانها، لكنتُ طلبت من الأمير أن يأتي هو للعيش في البحر.”
قهقه وو جين من أعماق قلبه.
قال بين ضحكاته:
ــ “ماذا؟!”
أجبته مبتسمة بثقة:
ــ “نعم! البحر رائع! مليء بالخيرات! لو جرّب الغوص لعرف. ستُذهَل من كثرة الكنوز التي يخفيها البحر في كل فصل…”
إن التقطتَ صَدَفًا أو أذن البحر، عاودت الظهور باستمرار.
كل شيء يتجدد هناك.
الطبيعة كريمة وجميلة.
كنتُ أفضل الغوص على الزراعة.
فالزراعة تحتاج إلى الانتباه للسماء والمطر ومتابعة نمو الزرع، أما الغوص، فكل ما تحتاجه هو أن ترتمي في أحضان البحر.
تابعتُ بحماس:
ــ “لو عرف الأمير غنى البحر، لعشق العيش فيه، وترك القصر والزواج السياسي وكل تلك الأمور السخيفة تخيل كم سيكون حرًا وسعيدًا في البحر!”
ضحك وو جين ضحكة خفيفة.
سألته بعبوس بسيط:
ــ “لماذا تضحك؟ أتراني أقول شيئًا مضحكًا؟!”
هز رأسه وقال بلطف:
ــ “لا، كلامك منطقي تمامًا.”
قلتُ بفخر:
ــ “أرأيت؟!”
وابتسمتُ له ابتسامةً مشرقةً ملأت وجهي نورًا.
في تلك اللحظة، انبعثت من عرض البحر أغنية الصيادين، تشق طريقها بين البحر والسماء.
هتفتُ بشوق:
ــ “آه… تلك الأغنية!”
وقفتُ أُصغي بإنصات، بينما الأصوات ترتفع وسط زرقة الليل، تملأ السماء والبحر معًا.
كان الصيادون يغنون أغنيتهم وهم يعملون طوال الليل، يرفعون دعاءهم للبحر كي يرزقهم صيدًا وفيرًا.
همستُ لجانبي، وعيناي معلقتان بالآفاق:
ــ “أليست جميلة؟”
كان وو جين أيضًا يُحدّق في البحر، وعلى وجهه مسحة من الحلم.
قال بصوتٍ خافت:
ــ “نعم… جميلة للغاية.”
سألته بهدوء:
ــ “وما هو حلمك أنت؟”
ــ “حلمي؟”
ــ “نعم، حلمك. ماذا تريد أن تصبح…؟”
صمت وو جين ولم يُجب.
كانت عيناه تتيهان فوق سطح البحر المظلم، وكأنهما تبحثان عن شيء بعيد.
فجأة، شعرتُ به يبتعد عني إلى عالمٍ لا أستطيع الوصول إليه، عالمٍ لا أفهمه.
‘لا تذهب…’
قبل أن أدرك ما أفعل، أمسكتُ بذراعه.
نظر إليَّ وكأنّه استيقظ من حلم، بينما كانت الأغنية لا تزال تتردد بين البحر والسماء.
هل كان هو من اقترب مني؟ أم أنا من اقتربت منه؟
كان الهواء الليلي حولنا يزداد حلاوة ورقة.
‘كما تجذب القمرُ البحرَ، تحرك جسدي نحوه بطبيعيةٍ وغريزة، حتى دون أن يُعلمني أحد، وحتى دون أن أعرف بوجوده داخلي، شعرت وكأنني كنتُ أعرفه منذ الأزل.’
أردتُ أن أُقبله.
كما يغطس طائر الشتاء بين زهور الكاميليا في أوائل الشتاء.
كما علّمتني الطبيعة.
شفتا وو جين…
كانتا تعبقان بعطر الأرز.
دافئتان، كثيفتان، ناعمتان، ومفعمتان بالحنان.
رغم أنني كنتُ ألامس شفاه شخص آخر لأول مرة، لم أشعر بغربة أو نفور.
بل بالعكس، شعرتُ براحة عميقة…
وفجأة، صدر صوت صرير من باب غرفة النوم.
ارتعبتُ حتى كدتُ أصرخ، ثم دفعتُ وو جين بعيدًا عني.
تـیـك~
ارتطم وو جين برأسه بعمود الشرفة.
جاء صوت الجدة، عابسة الحاجبين:
ــ “ماذا تفعلان؟”
وأضافت بتذمر:
ــ “سون يونغ، ألم تدخلي للنوم بعد؟ ماذا تفعلان جالسين هنا في هذا الوقت المتأخر؟”
‘يا جدتي العزيزة، أما كان بإمكانك التأني قليلاً؟!’
كأنها استعادت فجأة وعيها بكل قوته
أسرعتُ بالدخول إلى غرفة النوم، وغطيتُ وجهي بكلتا يديّ.
كان وجهي يحترق خجلاً حتى شعرت كأن وجنتيّ تشتعلان نارًا.
‘أنا مجنونة. تمامًا مجنونة.’
حاولتُ أن أهدئ حرارة وجهي، لكن دون جدوى.
‘ماذا سأفعل الآن؟ هل حقًا… قبّلت وو جين؟!’
كان قلبي ينبض بجنون، لا يمكن السيطرة عليه.
‘تماسكي… اهدئي…!’
رغم أنني حاولت التنفس بعمق، ظلّ قلبي يضطرب كأمواج هائجة.
مع أن اللحظة كانت قصيرة، إلا أنني كنتُ لا أزال أشعر بحرارة شفتيه تلامس شفتيّ، دافئةً كحرارة ماء البحر، تفوح منها رائحة النسيم الصيفي العذب.
رفعتُ يدي، ولمستُ شفتيّ برفق.
لكن لم تنقل أصابعي نفس الشعور…
كنتُ خائفة من أن أفقد ذلك الإحساس الذي منحه لي،
لكن ما كان يخيفني أكثر هو… كيف سأنظر إلى وجهه غدًا؟!
لم أستطع النوم تلك الليلة.
كنتُ أشعر وكأنني لستُ بعقلي.
قلبي كان يقرع كالطبل، القمر كان ساطعًا فوق الحد المعقول، والجدة كانت تغط في نومٍ عميق.
أرهفتُ سمعي لألتقط صوت أنفاسه من الغرفة الأخرى.
‘يا ترى، هل كان نائمًا؟ أم يتقلب مثلي، يقظًا ومضطربًا؟”
تساءلتُ بقلق: هل كان مكان اصطدام رأسه بعمود الشرفة بخير؟
‘كيف سأواجهه غدًا؟ أنا مجنونة! مجنونة حقًا!”
تلك الليلة، رأيتُ حلمًا غريبًا.
في الحلم، كنتُ أميرة البحر.
أسبح في بحرٍ أرجواني اللون، أقترب من الأمير.
قبلته بلطفٍ وهو فاقد الوعي، تتقاذفه الأمواج العاصفة.
حتى شفتاه، كانتا تفوحان بعطر الأرز — عطرٌ من غابةٍ بعيدة لم أزرها يومًا.
وفي صباح اليوم التالي، أشرقت الشمس من جهة الشرق، غير مكترثةٍ بمشاعري.
كنتُ مضطرة للنهوض وتحضير الإفطار.
لم أستطع البقاء محبوسة في غرفة النوم.
خرجتُ على مضض، فوجدت وو جين يكنس ساحة الدار كالمعتاد.
سعلتُ بتوتر خفيف، ثم اندفعتُ إلى المطبخ.
بينما كنتُ أغسل الأرز، كان وو جين يجمع الحطب كعادته.
لكنه لم يلتفت نحوي، أو ربما أنا من تجنبت النظر إليه.
وفجأة، قطع الصمت صوته الهادئ:
ــ “أعطني إياه.”
حين امسكت الحطب من يده، تلامست أيدينا بلا قصد.
ورفعتُ بصري نحو وجهه بلا تفكير.
وكان هو أيضًا ينظر إليّ.
حينها أدركتُ الحقيقة.
لم ينم وو جين تلك الليلة أيضًا.
كان مضطربًا مثلي تمامًا.
كانت نظراته دافئة، لكنها مليئة بالقلق،
وكأنه ينظر إلى عروسٍ بعد ليلتها الأولى.
خفضتُ عيني خجلًا.
وكان فطور ذلك الصباح مثاليًّا.
‘أيّها الأمير… عِشْ معي في هذا البحر.’
قدّمتُ الطعام وأنا أُحدّث نفسي بهذه الأمنية.
“لا تعدْ إلى القصر. أرجوك…”
يا لها من أمنية ساذجة، أليس كذلك؟
~ ~ ~
“جدتي!”
جدتي؟
“جدتي!”
جدتي؟!
هل تناديني أنا؟
كيف ذلك؟! أنا لم أتجاوز الثامنة عشرة من عمري،
لماذا تناديني بـ”جدتي”؟!
في تلك اللحظة، رأيتُ وجهًا أمامي.
وجهًا مستديرًا، شابًّا، بعينين صافيتين، دافئتين.
‘يوجين! حفيدتي العزيزة… حفيدتي الجميلة…’
“جدتي!”
فتحتُ عينيَّ بثقل شديد.
تحت سقفٍ باهت، رأيتُ يوجين، وقد كبرت وأصبحت شابةً يافعة.
ــ “آه… ماذا حدث…؟”
كنتُ مشوشةً ودوارًا يسيطر عليّ.
ثم التقطتُ رائحةً مألوفة، نفاذة وكريهة…
رائحة المُطهّر، رائحةُ المستشفى.
ــ “لقد انهرتِ. ألا تتذكرين؟”
انهرتُ؟ أنا؟
اجتاحني شعورٌ حادٌ بالخيبة، تلاه ألمٌ لاذع.
‘كان يجب أن أتناول دوائي… نسيتُ مجددًا.”
ــ “يوجين، هل استيقظت الجدة؟”
سمعتُ صوت رجل عميق النبرة.
آه…
دون أن أتمكن من منع نفسي، أدرتُ وجهي نحو مصدر الصوت.
رأيتُ رجلاً يشبه وو جين إلى حدٍّ يكاد لا يُصدق.
رغم أنني رمقته طويلًا، إلا أنني لم أصدق عينيّ.
وكأن الزمن قد عاد فجأة إلى الوراء.
ــ “لقد ملأتُ استمارة الدخول، ولكن عند مكتب الاستقبال…”
ربما لأنه شعر بنظراتي، توقف عن الكلام، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة.
ــ “جدتي، هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بتحسن؟”
ناداني هو الآخر بـ”جدتي”.
ذلك النداء جعل قلبي ينقبض حزنًا.
في داخلي ما زلتُ شابةً كما كنتُ، لكن هذا الجسد العجوز، البالي، كان شاهداً على مرور الزمن.
‘ترى… لو التقيتُ وو جين مجددًا، هل كان سيتعرف عليّ؟’
ربما لا…
الفتاة التي كنتُ عليها، تلك التي خرجت من البحر بجسد مشدود كعروس البحر، قد اختفت منذ زمن بعيد.
كانت الشباب نفسها حية وجميلة، أما الآن فقد تغير كل شيء إلى درجة أن حتى تذكر الماضي أصبح شبه مؤلم.
جسدي المتعب، في طريقه إلى الموت، شعر بالشيخوخة، ثقيلًا، ومتراكمًا.
“أريد العودة إلى المنزل.”
ذلك المنزل.
البيت الذي عشت فيه مع وو جين خلال موسم صيف واحد. الأشجار الكاميليا السميكة، السماء الزرقاء، والبحر الذي ينعكس عليه السماء. رغم أنه قد ذهب، إلا أنني كنت لا أزال أرغب في العودة إلى ذلك المنزل.
كنت أرغب في العودة إلى اللحظة التي كان فيها هناك، إلى الوقت الذي لم أكن أعرف فيه شيئًا.
حتى وإن كان البيت قد تم هدمه، كنت أريد العودة.
إذا عدت… ماذا سأقول حينها؟
“جدتي، نحتاج إلى المزيد من الفحوصات…”
هززتُ رأسي عند كلمات يوجين.
“فحوصات؟ لماذا؟ أريد العودة إلى المنزل.”
قلتُ ذلك بعناد وأنا أحاول أن أستقيم جالسة.
كان هناك إبرة غير ماهرة في معصمي القبيح، وجلد يملؤه بقع الشيخوخة.
سحبته بسرعة. كنت أكره نفسي.
لقد احتقرت نفسي فعلاً لدرجة أنني شعرت بالكتمة.
“جدتي!”
“لا حاجة للفحوصات. فقط… أنا متعبة، هذا كل شيء. عندما تكبر، تمرض طوال الوقت. يوجين، دعينا نذهب إلى المنزل. أريد العودة إلى المنزل وأستريح.”
أجبرت نفسي على ابتسامة حزينة وأنا أتكلم.
كان وو جين يمشي أمامي أو بجانبي، لكن الآن لم يعد هنا. حتى الطريق قد تغير.
الطريق الطويل الذي كان مزينًا بالعشب الطويل أصبح الآن مليئًا بالمنازل التي تشبه الأصداف البحرية.
كان هناك في يوم من الأيام بستان كثيف من أشجار اللوكوَت في منتصف السلالم.
كلما مررنا هناك، كان وو جين يمد ذراعه الطويلة، يقطف ثمرة ناضجة ويعطيها لي.
على الطريق الذي كانت تنمو عليه أزهار الهرسيا بكثافة، كنا نتوقف للإعجاب بالزهور المتمايلة، وعندما تظهر القطط من العشب الطويل وتعبر طريقنا، كان وو جين يفتح إحدى الأصداف التي اصطادها في ذلك اليوم.
كم مرة ضحكنا؟ ماذا كنا نتحدث عنه؟
عندما كنت معه، كنت أنسى كل همومي وكان كل شيء يبدو مضحكًا.
كان أخي جاي-يول هاربًا من الشرطة، لكنني لم أكن أقلق عليه.
أحيانًا، عندما يظهر رجال مجهولون في نهاية الطريق، كان وو جين يدفعني ضد الجدار ليحميني منهم. منذ أن فقدت والديّ، لم أعرف أحدًا يحميّني بهذه القوة.
لهذا كان ذلك الصيف حلوًا بالنسبة لي، كالعسل.
أن يكون لديك شخص معك يجعلك تشعر بالراحة والسعادة فقط بوجوده كان أمرًا جديدًا. كان مثل نسيم يوم صيفي – دافئًا، ناعمًا ولطيفًا.
كان يمسح جبيني المتعرق ويأتي معه سرًّا برائحة الزهور الحلوة.
كان من المدهش أن أعتقد أن هناك شخصًا مثله في هذا العالم. حتى عندما كنا معًا، لم يكن هناك توتر؛ مجرد القيام بأشياء بسيطة معًا جعلني سعيدة.
كانت ملعقته على الطاولة تبدو مألوفة ومريحة، وكان ظلّه وهو يقف بالقرب مني في الغرفة المجاورة يملأني بالأمان في تلك الأيام.
الآن، يمشي هان سي-هو أمامي. بنفس الظهر الذي كان لوه جين، حاملاً حقيبتي القديمة التي كنت قد أخذتها في الصباح.
“جدتي، هل أنتِ بخير حقًا؟”
سألت يوجين وهي تمسك بذراعي.
“أنا بخير. فقط أحتاج إلى العودة إلى المنزل وأستريح.”
“كان يجب أن تجري الفحوصات على أي حال.”
“أنتِ تقلقين كثيرًا.”
أردت أن أطمئن حفيدتي. لم أرد أن أُثقل عليها بمخاوفي.
الشيخوخة هي عندما يبدأ الحياة في التفكك.
الحياة لا تتناقص تدريجيًا، بل تُقطع فجأة، كما لو أنها ضُربت بضربة واحدة. عندما أتممت الأربعين، ثم الخمسين، جاء الموت مثل دائن، يقطع قنديل حياتي المتبقية بلا رحمة.
رفعتُ عينيّ ونظرتُ إلى الأمام.
كانت عينايّ ترتجفان دون أن ألاحظ.
الرجل الذي يريد الزواج من يوجين… هل يمكن أن يكون حقًا من نسل هان وو جين؟
إذا لم يكن كذلك، فلماذا يشبهه إلى هذا الحد؟
ماذا يعني لي هذا؟
أمسكت بيد حفيدتي.
يد طويلة ونحيلة مثل يد جي-يون. يد تشبه يدي.
لماذا يبدو أن السلالة مخيفة هكذا؟
بعد أن أنجبتُ طفلتي، شعرت بالرعب، مليئةً بالرهبة والخوف.
في يوم من الأيام، كان طفلي يحمل وجه والدي، وفي اليوم التالي وجه والدتي.
النظرة التي تعكس وجه والدي، ونبرة الصوت التي هي نسخة طبق الأصل من صوت والدتي.
إنه صحيح ما يقولونه – لا يمكنك أن تنكر دمك الخاص.
لكن من هو هذا الطفل الذي يحمل لقب هان ويشبه هان وو جين إلى هذه الدرجة؟
ما علاقته بوو جين؟
“هل هذا هو المكان، جدتي؟”
سأل هان سي-هو، وهو يلتفت إليّ بنبرة جادة ومدروسة.
هـل هـو الـشـوق الـذي يـکـسـر الـقـلـب؟ أم أنــه الـزمــن الـقـاســي؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"