لو قاومت بياتريس، لما استطاع فرانسيس جرّها بعيدًا. لكن في تلك اللحظة، أثارت تعابير وجهه اهتمامها، فلم تُفلت معصمها. رغم أن الصدمة كانت تشوب عينيه، إلا أن الشعور فيهما كان خوفًا واضحًا. لم يكن خوفًا واضح الهدف، بل كان رعبًا نابعًا من المجهول.
لم ترَ بياتريس فرانسيس يُبدي مثل هذا الوجه قط. ليس في كل حياتها. لم تستطع إلا أن تتساءل ما الذي دفعه إلى النظر إليها بهذه الطريقة.
هل من الممكن أن ذكريات حياتها الماضية قد عادت إليه؟ أضحكتها الفكرة، وإن بدت مستحيلة.
“سير بيلينوس،” نادت بصوت هادئ.
لم يُجب فرانسيس. تحرك بسرعة، كاد يركض، جارًا إياها معه. سقط فستان بياتريس خلفها، يتمايل كالسراب. نادت لورا، التي فقدت قبضتها عليه، خلفهما.
“ايها السير!”.
نادت بياتريس مرة أخرى، وكان صوتها ثابتًا.
“فرانسيس.”
وعندما لم يكن هناك أي رد، نادت بياتريس باسمه مرة أخرى، ولكن هذه المرة توقفت عن المشي، مما أوقف تقدمهم.
قبضتها القوية على معصمه أوقفت فرانسيس فجأة. استغلت بياتريس سكونه، فأمسكت بكتفه، وأدارته، ورفعت يدها. دون تردد، ضربت كفها خده.
صفعة. تردد صدى الصوت في الردهة، عاليًا بما يكفي ليُثير ارتعاش أي شخص. انحرف رأسه جانبًا، وبدأت علامة حمراء زاهية تظهر على خده. لم تُعر الأمر اهتمامًا، فحررت معصمها من قبضته ورفعت يدها مرة أخرى.
“صفعة أخرى؟”.
“لا! لقد عدتُ إلى صوابي. نعم!”.
“حسنًا. سيد بيلينوس، لا أعرف ما الذي يحدث، لكنك مدين لي بتفسير. هل تجرّني هكذا دون أن تنطق بكلمة؟”.
“إنها على حق!”.
أضافت لورا، التي كانت تركض خلفهما، بلهفة. مع أنها لم تضربه بشدة، بدا أن فرانسيس قد عضّ باطن خده؛ تحركت شفتاه كما لو كان يتفقد جرحًا. اكتفت بياتريس بالمراقبة غير مبالية.
“مهما كان السبب، سوف نسمعه في غرفتي”، أعلنت بياتريس، واستدارت بشكل حاد.
أومأ فرانسيس ببطء، وكان وجهه مليئا بالندم.
عاد الثلاثة إلى غرفة بياتريس، حيث كلفت لورا بسرعة الخدم الآخرين بترتيب الحديقة وأحضرت شايًا طازجًا. والجدير بالذكر أنه لم يكن هناك أي شيء جاهز لفرانسيس.
جلس فرانسيس في غرفتها، يندب بصمت أفعاله المتهورة. كانت الرؤية الأشبه بهلوسة غامرة. هل يمكن لشيء أن يبدو بهذه الوضوح والواقعية؟ شعرت وكأنه حدث حقيقي.
فرك وجهه بيديه محاولًا تهدئة نفسه. ملامحه الحادة والباردة سهّلت عليه إخفاء مشاعره، لكنه لم يُدرك أن هذه الأساليب لن تُجدي نفعًا مع بياتريس.
“الآن، اشرح نفسك،” قالت بياتريس، بصوت هادئ ولكن حازم.
‘شعرتُ بوجودٍ مفاجئٍ لا يمكن تفسيره”، أجاب وهو يبحث عن كذبةٍ معقولة. “رأيتُ الموقفَ خطيرًا وتصرّفتُ بناءً على ذلك. أعترفُ أنني شعرتُ بالفزع، وأعتذرُ عن عدمِ أخلاقي”.
كذب فرنسيس، مستندًا إلى تفسيرات مبهمة سبق أن نسقها مع الكاهن ثيودور. لم يستطع تفسير قدرته الغامضة، فرضَ بعذرٍ مُختلق.
استمعت بياتريس، وهي ترتشف شايها في صمت. ظن فرانسيس أن انفصالها المعتاد وعدم اهتمامها بالآخرين سيمنعها من استجوابه أكثر. لكن كلماتها التالية صدمته كالخنجر.
رغم ادعاء فرانسيس استشعاره وجودًا غير مألوف، سألته بياتريس مباشرةً عمّا رآه. تصبّب عرق بارد على ظهره.
“أنا… لم أرى شيئًا،” تلعثم.
“كتذب.”
بصوتٍ عفوي، وضعت بياتريس فنجانها جانبًا. هل ظنّ أنها حمقاء لدرجة أنها لم تستطع تمييز الحقيقة؟. كانت متأكدة أن فرانسيس رأى شيئًا ما من خلالها. كانت نظراته ثابتة وثاقبة للغاية – ليس عليها، بل إلى ما وراءها، كما لو كان ينظر من خلال مرآة إلى عالم آخر.
أمالت بياتريس رأسها كعادتها، فشعرت بشعرها ينزلق عن كتفها. مع أنها لم تكن تعرف فرانسيس جيدًا، إلا أنها شهدته مرةً في الماضي – عندما قادها إلى حتفها.
زفر فرانسيس بقوة، وكان الصوت أشبه ما بين التنهد وإطلاق الأنفاس المكبوتة.
“أنا لا أكذب”، أصرّ. “لقد غمرني حضورٌ غير مألوف. يجب تنبيه الفرسان الدوقيين فورًا – إنه أمرٌ خطير.”
“لقد قلت لك لا تكذب” قالت بياتريس بصراحة.
لقد درست السحر الأسود سابقًا. كان نوعًا من السحر يستمد قوته من مصادر غير بشرية، مما يجعل اكتشافه أصعب من السحر العادي.
إذا لم تتمكن من الشعور بأي شيء غير عادي، فلا توجد طريقة يمكن لفرانسيس أن يشعر بها.
ارتبكَ فرانسيس من تساؤلات بياتريس، فبدأ يتساءل إن كانت تشعر بالسحر أو الطاقة الإلهية. لم يُخبَر بمثل هذا من قبل. بالنظر إلى ثيودور وسلوك أهل البيت، لم تبدُ كشخصٍ يتعامل مع السحر. مع ذلك، حيرته ثقتها بنفسها.
لم يكن صوتها ناعمًا، ولكنه لم يكن باردًا أيضًا. كان صوتًا ناعمًا، بلا مشاعر، خاليًا من أي تدرجات، ومع ذلك حمل ثقلًا لم يستطع مقاومته. ألقى الضوء الخافت المتسلل عبر الستائر بظلاله على وجهها، مصبوغًا بشرتها بلون رمادي. وحتى تحت هذا الظل، لمعت عيناها الصفراوان بحدة، وبدتا قاسيتين تقريبًا.
“ما الذي أنت خائف منه؟”.
أشارت له بياتريس بالاقتراب. كانت حركةً بسيطة، لكن فرانسيس شعر بضغطٍ لا يُنكر. مدفوعًا، اقترب منها، رغمًا عنه تقريبًا.
يا لها من امرأة غريبة، فكر.
خلال الفترة القصيرة التي قضاها بجانبها، لاحظ غرابة في شخصيتها. فعلى عكس الآخرين الذين يلفت وجودهم الانتباه، كان وجودها عابرًا، يكاد يكون معدومًا عندما لا تكون في مواجهة مباشرة.
لم تبدُ عليها الملل قط، حتى عندما كانت تمضي ساعاتٍ في الخمول، وكان هدوءها في المواقف المقلقة مُقلقًا. لم تكن غاضبةً الآن، بل كانت تُشير بصمت، ووجهها غير واضح.
ومع ذلك، فإن هذه البادرة البسيطة لم تترك مجالاً للأكاذيب.
نظرت بياتريس إلى لورا، وأشارت لها بصمت. ورغم استياء لورا، خرجت بتواضع. لا شك أنها ستنتظر عند الباب، مستعدة للدخول إذا حدث أي شيء.
وعندما أصبحا بمفردهما، أمسكت بياتريس بيد فرانسيس.
ارتجفت يده قليلاً عند ملامسة الماء. مع أن يدي بياتريس كانتا باردتين، إلا أن يديه كانتا أبرد، وكانت أطراف أصابعه بيضاء تقريباً.
هل كان خائفًا لهذه الدرجة حقًا؟ مررت أصابعها على مفاصل يده، متأملةً بلا مبالاة. كانت يده ترتعش كلما لامست أصابعها، لكنها لم تُعر الأمر أي اهتمام.
“أعلم أن الكاهن ثيودور كان يكذب عليّ”، قالت بهدوء.
“أنتِ… هل عرفتي بالفعل؟”
“نعم.”
جعل رد بياتريس المقتضب فرانسيس على يقين من أنها تستطيع استشعار السحر. علاوة على ذلك، كان من الواضح أن لا أحد غيرها يعرف ذلك عنها.
بما أنها شاركته سرًا، شعر فرانسيس بواجبٍ تجاهه. لم يكن متأكدًا من سبب إخفائها لهذا السر، لكن ليس من حقه أن يتدخل.
“لماذا لم تقولي شيئا قبل الآن؟” سأل.
,لم أرَ حاجةً لذلك. لن يؤذيني أحدٌ منكم.”
أو بالأحرى، “لم يتمكنوا” من إيذائها، حتى لو حاولوا ذلك.
لا تزال بياتريس تمسك بيده، قبضتها ناعمة بما يكفي ليتمكن من سحبها بسهولة إن أراد. ومع ذلك، اختار ألا يفعل.
وقال “إن القوة المستخدمة في السحر الأسود يصعب اكتشافها بشكل كبير”.
“إنه أمر صعب، نعم، ولكن ليس مستحيلاً”، أجابت بياتريس.
عبس فرانسيس. مصدر قوة السحر الأسود غير معروف، لكنه يعمل بمبادئ مختلفة تمامًا عن السحر البشري، مما يجعل إدراكه صعبًا حتى على سحرة البلاط الإمبراطوري.
لهذا السبب اعتمد الكهنة على قطع أثرية مشبعة بقوة إلهية لاكتشافها. كانت هذه القطع الأثرية أشبه بأجهزة استشعار الشوائب، لا كاشفات سحرية، مصممة لتحديد مواقع الطاقة التي لا يمكن تتبعها.
ومع ذلك، بدا أن بياتريس تدّعي أنها تستطيع استشعار هذه القوة بسهولة. ورغم ندرة وجودها، كان لدى بعض السحرة حساسية مفرطة تجاه الطاقات السحرية، ولكن حتى بين سحرة البلاط الإمبراطوري، لم يكن هؤلاء الأفراد معروفين.
“هل تستطيعين استخدام السحر؟” سأل بحذر.
“لا.”
لم تكن بياتريس تكذب؛ ببساطة، لم تشعر قط بالحاجة إلى استخدام السحر. بدا ترديد التعاويذ وتلاوة الصيغ السحرية غير ضروري، إذ كان كسر الرقبة بيديها العاريتين أسرع.
فسّر فرانسيس ردّها على أنه إنكار للقدرة السحرية، فغرق في التفكير. شخصٌ مُنسجمٌ للغاية مع القوى السحرية، لكنه عاجزٌ عن استخدامها – أمرٌ نادرٌ، ولكنه ليس مستحيلاً.
وفي أكاديمية السحر، كان يتم طرد هؤلاء الأفراد عادة، وكانت قضاياهم تظهر على السطح مرة أو مرتين كل عقد من الزمان.
“هل الدوقية تعرف هذا الأمر؟”.
“لا.”
سحبت بياتريس يده أقرب قليلا.
“وهذا يعني أن دورك الآن هو لمشاركة سر ما.”
“سري أثقل بكثير من سركِ، سيدتي”، أجاب فرانسيس بحذر.
“أجل؟ أخبرني إذًا. أخبرتني الدوقة أن الرتبة موجودة في مثل هذه الأوقات.”
“…هل قالت الدوقة ذلك؟”.
“إنها امرأة حكيمة.”
رغم ازدياد عبوسه، لم يسحب فرانسيس يده. إلى جانب والديه، لم يكن يعلم بقدراته سوى شخصين: الكاهن ثيودور وصديقة طفولته فيسيلوف.
وقد نصحه كلاهما بإبقاء الأمر سراً محروساً بعناية.
لقد كانت قدرة فرانسيس – في إدراك علامات سوء الحظ – قوة ناضجة للاستغلال، سواء على المستوى السياسي أو الشخصي.
التقت نظراته بياتريس. لم تُبدِ عيناها، الخاليتين من الحقد أو العاطفة، أيَّ دليل على رد فعلها على كشفه. مع ذلك، كان هناك سببٌ لإخبارها.
لقد رأى رؤيتين واضحتين لها، ولاحظ وعيها بأكاذيب ثيودور، ووجد هدوءها مُقلقًا. وربما كان هناك شيء ما في الترابط الخافت بين أيديهما المتشابكة.
“فرانسيس.”
صوتها، وهو ينطق باسمه بتلقائية كما لو كان دائمًا، قطع عليه سلسلة أفكاره. حقًا، كانت امرأة غريبة.
في النهاية، اعترف فرانسيس. شرح قدرته، وسبب تعاونه مع أكاذيب ثيودور، والخطر الذي كان يخشاه قد يُصيبها. حتى أنه وصف الرؤيتين اللتين رآهما.
استمعت بياتريس بصمت حتى انتهى. لم تُشكك في كلامه ولم تُسائله، بل استمعت فقط.
“قد تجدين صعوبة في تصديق ذلك، ولكن-“
“واعتقد انكم كذلك.”
لقد أذهلته الإجابة البسيطة التي قدمتها له بياتريس.
لماذا لا تفعل ذلك؟ مع أن قدرته كانت بمثابة كشف، إلا أن حياتها التي لا تُحصى علّمتها أن العالم يخفي أسرارًا كثيرة كهذه. من المعقول أن يكون فرانسيس من حياتها السابقة قد امتلك هذه القدرة أيضًا.
هل كانت مصادفةً أن يرى رؤىً واضحةً كهذه من ماضيها؟ أم أن هذه القوة كانت معه دائمًا؟.
اعتبر فرانسيس قبولها الفوري غريبًا. هل كانت ساذجة؟.
كانت منعزلة، تبدو غير مهتمة بالعالم، لكنها عاشت في ظل الدوقية طوال حياتها. ربما جعلتها عزلتها ساذجة.
على أي حال، عليكِ أن تكوني يقظةً يا سيدتي. لا يمكننا التنبؤ بما قد يحدث.
“لا داعي للقلق”، قالت بياتريس بصوت ثابت.
“ماذا؟”
“لن يحدث شيء.”
فتح فرانسيس فمه ليعترض، لكن تعبيرها الثابت أسكته. كان يقينها مُقلقًا، كما لو أنها تعرف شيئًا يجهله.
أفلتت بياتريس يدها، ففقد فرانسيس دفئها الخفيف، فشعر بفقدانٍ لا يُوصف. دون أن يُدرك السبب، افتقد نبرتها العفوية وطريقة مخاطبتها له باسمه.
تحدثت بياتريس مرة أخرى، وكان صوتها رسميًا وغير مبالِ.
“أتفهم مخاوفك يا سيد بيلينوس. لكن كن مطمئنًا، لن يصيبني مكروه.”
رغم أنه أراد التشكيك في ثقتها، امتنع فرانسيس. كان موقفها واضحًا، ولن يُسمح لها بمناقشة الأمر أكثر من ذلك.
وعند عودته إلى موقعه، طلب من لورا العودة إلى الغرفة قبل أن يتخذ موقعه خارج الباب. لم تسأل لورا عن حديثهما، بل وقفت صامتةً خلف بياتريس الغارقة في أفكارها.
لم تكن بياتريس تعرف كل شيء عن رؤى فرانسيس، لكنها فهمت ما يكفي. على سبيل المثال، النبيل الذي مات دائمًا في حادث عربة في حياتها السابقة – كان ذلك أمرًا ثابتًا.
‘ماذا يمكن أن يعني هذا؟’
لم يكن فرانسيس يستشعر مخاطر أو نذير شؤم مستقبلية، بل كان يلمح الماضي – وبالتحديد ماضيها.
كانت رؤى من لم يمتوا بعدُ رؤى من تسببت في موتهم. لو لم تقتلهم، لما ماتوا. كان الأمر مثيرًا للسخرية. فالحياة التي كررتها وحدها تركت أثرًا عليه أيضًا.
‘من أنت يا فرانسيس؟’ فكرت، مع ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها.
‘من أنت حتى تتجسس على ماضي؟’.
* * *
كما توقعت بياتريس، مرّ أسبوعان دون وقوع حوادث. وظلّ المشتبه به في جريمة قتل الكونت طليقًا، لكنّ شائعاتٍ انتشرت بأنّ مَن استخدموا السحر الأسود لتحسين أجسادهم نادرًا ما عاشوا طويلًا. وتكهّن كثيرون بأنّ الجاني ربما يكون قد مات في مكان ما.
في اليوم الرابع عشر، زار الكاهن ثيودور الدوقية وقام بعملٍ مُقنعٍ لإلغاء لعنةٍ مُفترضة. كان أداؤه حماسيًا، بل مسرحيًا تقريبًا.
بياتريس، المُدركة تمامًا للحقيقة، ظلت صامتة، تُراقب ببرودٍ طفيف. أما فرانسيس، فقد جاهد لإخفاء حرجه. مع ذلك، لم تُوقف بياتريس الكاهن، بل كانت مُهزلةً ضروريةً لطمأنة أهل الدوقية.
لكن فرانسيس نظر إلى سلوك بياتريس الهادئ على أنه مثير للاشمئزاز، وكأنها مستمتعة بإجبار كاهنه الموقر على الانخراط في مسرحيات عديمة الفائدة.
بعد انتهاء العرض، استعد فرنسيس للعودة إلى المعبد مع ثيودور. لكن قبل مغادرته، اعترض فرنسيس حديث ثيودور بعد لقائه بأغاثا، واقتاده إلى ركن هادئ لا يسمعه أحد.
“أيها الكاهن، لدي شيء أريد مناقشته،” بدأ فرانسيس.
“هل حدث شيء في غيابي؟”.
أومأ فرانسيس وشرح كل شيء، باستثناء قدرة بياتريس على استشعار السحر. روى كيف اكتشفت كذبه، وكيف اعترف بقدرته ورؤاه، وكيف حذّرها.
استمع ثيودور بتعبير جاد، وفي النهاية سأل، “هل كان من الحكمة أن تكشف لها عن قدرتك؟”.
“أعتقد ذلك. لقد صدقتني، ولا أظنها من النوع الذي يُشاركها مع أحد.”
“هذا أمر مريح،” أجاب ثيودور، وكان واضحًا عليه الاسترخاء.
“لا يزال هناك شيء يقلقني”، اعترف فرانسيس.
“ما هذا؟”
“وعندما حذرتها من الرؤى، قالت بكل يقين أنه لن يحدث شيء.”
“لن يحدث شيء؟”.
كشف وجه ثيودور للحظة عن شيء ما – تردد، أو ربما شك. ورغم دوره ككاهن، كانت تعابير وجهه بعيدة كل البعد عن الغموض.
“نعم، لقد كانت واثقة تمامًا، على الرغم من أنني لا أستطيع أن أقول السبب.”
صمت ثيودور، متردداً بوضوح في مشاركة ما يعرفه. أما فرنسيس، فقد احترم تردده، وانتظر بصبر، واثقاً أن الكاهن سيتحدث إذا كان الأمر يحتاج إلى معرفته.
بعد قليل، تحدث ثيودور بحذر: “عندما أخبرتني عن الرؤى لأول مرة، فكرت في احتمالين.”
“وكانوا؟”.
“أولاً: كانت السيدة في خطر لم نستطع إدراكه بعد. ثانياً…”
توقف ثيودور، وهو يلعق شفتيه الجافتين.
“…حتى تتمكن من الانتحار.”
تجمد فرانسيس، مُقتنعًا بأنه أخطأ في فهم ما قاله. الانتحار؟ لم تخطر هذه الفكرة بباله قط. لماذا تفعل شيئًا كهذا؟.
فكر في هدوءها، ونبرتها الجافة، ودفء يدها الفاتر حين تلمس يده، وهدوئها حين تنطق اسمه. كل هذا لم يكن ليتناسب مع صورة شخص يفكر في الانتحار.
ومع ذلك، استمر صوت ثيودور الكئيب في الضغط، ولم يقدم أي مبرر لعدم تصديق فرانسيس.
“لقد حلمت السيدة بياتريس بالموت منذ فترة طويلة”، قال ثيودور.
بدا تفسير الكاهن سرياليًا. لم يكن متوافقًا مع شخصية بياتريس فرانسيس التي عرفتها – جامدة، منعزلة، لكنها تبدو ثابتة في حياتها.
ووصف كيف جلست ذات مرة حافية القدمين تحت شجرة في الشتاء القارس، وكيف عذبها الخدم، وكيف أخذت بيد ثيودور ذات مرة وتوسلت إليه أن ينهي معاناتها دون ألم.
لم يناسبها على الإطلاق.
“لذا عندما أخبرتها عن رؤيتك، ربما كان ذلك كافياً لإثنائها عن ذلك”، استنتج ثيودور.
تراوحت تعابير فرانسيس بين الصدمة والارتباك. شعر ثيودور بذلك، فتحدث بهدوء، وكأنه يواسيه.
“ربما أوقفتها كلماتك يا فرانسيس. لا تقلق بشأن ذلك.”
كان وجه الكاهن مشوبًا بمزيج من المرارة والحلو. رمش فرانسيس وتراجع بضع خطوات إلى الوراء.
“فرانسيس؟”
“أيها الكاهن، من فضلك عد إلى المعبد بدوني.”
“ماذا؟ إلى أين أنت ذاهب؟” سأل ثيودور في حيرة، لكن فرانسيس استدار فجأةً ومشى بخطى سريعة. نادى الكاهن عليه، لكن فرانسيس لم يلتفت.
لقد رأى رؤى كثيرة في عصره – جرائم قتل وحوادث وأمراض – لكنه لم ينتحر قط. لم يختر أحد ممن رآهم أن يجلب الموت على نفسه.
ركض في الممرات، ففكر في بياتريس. هل كان من الممكن لكلماته أن تُغيّر رأيها حقًا؟ طمأن نفسه بأن أفعاله مدفوعة بالواجب، لكنه في أعماقه كان يعلم أن الأمر أعمق من ذلك.
~~~
أي شخص يطلب فصل يحط تعليق وعلى شرفه بينزل فصل غير كذا بنزل متي ما بغيت لا تزعجوني
التعليقات لهذا الفصل " 26"