*****
[آسفة، يا ماريان… كنتُ خائفًا جدًا من ملك الشّياطين ، فلم أستطع الخروج…]
اعتذرَ بليد وهو ينظر إليّ بحذر. يبدو أنّه كان منزعجًا لأنّه بقيَ مختبئًا في جيب صدري الأيسر طوال مواجهتي مع ملك الشّياطين.
نظرتُ إليه بوجهٍ مذهول و تمتمت:
“لا بأس… كان ذلكَ متوقّعًا. ملككم الشيطانيّ مخيفٌ جدًا…”
[صحيح. لكن…]
ابتلعَ بليد ريقه بحذر و سأل:
[الآن… ماذا ستفعلين؟]
أمسكتُ رأسي على الفور و صرختُ بألم:
“آه!”
[مـ، ماريان؟]
ارتجف بليد و هو مذهول بينما كانَ يرفرف بجناحيه في قلق.
كنتُ أعاني.
مهما نظرتُ، أمامي، خلفي، جانبي، أعلى، أسفل، أو حتّى في زاوية، لم أرَ أيّ مخرجٍ ممكن.
“ماذا أفعل، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل حقًا؟!”
تلوّيتُ على الأرض المغبرّة دونَ اكتراث. لم أجد أيّ إجابةٍ حول من أين أبدأ أو كيف أتصرّف.
“السّيدة ماريان!”
“ماريان!”
في تلكَ اللحظة، رأيتُ ستيلا ولوكاس يركضان نحوي بوجهين مشرقين من بعيد.
نظرتُ إليهما ببلاهة وأنا جالسةٌ على الأرض.
وصلا إليّ و سألاني بصوتٍ مليء بالفرح:
“السّيدة ماريان، لقد أصبحت السّماء صافية! هل هزمتِ ملك الشّياطين؟”
“أحسنتِ، ماريان! لقد فعلتِها! لكن أين الدوق؟”
كانا يبدوان سعيدين جدًا.
كان ذلكَ متوقّعًا. فقد اختفى الشّرخ القرمزيّ الذي كان يشقّ السماء، و كذلك الصخور البركانيّة التي كانت تضرب الأرض بقوّة، اختفت في لحظة.
“سيّدة ماريان؟”
نادتني ستيلا بوجهٍ متعجّب.
أدركَ لوكاس، الذي شعرَ بشيءٍ غريب، بنبرةٍ جديّة:
“ماريان، أين الدوق…؟”
أدركت ستيلا حينها أنّ شيئًا ما قد حدثَ بشكلٍ خاطئ.
“آه… السيدة ماريان.”
جلست على ركبتيها و عانقتني.
“كم كان حزنكِ عظيمًا حتّى فقدتِ صوابكِ هكذا…”
ربتت ستيلا على ظهري وتمتمت بصوتٍ حزين.
تمتمَ لوكاس أيضًا بوجهٍ متألّم:
“أنا آسف لأنّني لم أكن ذا فائدة… الدوق كان بطلًا عظيمًا دافع عن الإمبراطوريّة…”
“الدوق على قيدِ الحياة…”
صحّحتُ لهما لأنّهما أساءا الفهم. نظرا إليّ بعيونٍ مصدومة.
“لكن لماذا…”
لماذا أنا جالسةٌ هكذا كمَنْ فقدت كلّ شيء؟ هذا ما يقصدانه.
شرحتُ لهما ببساطة:
“أيّها السادة، نحن في مهلةٍ مؤقّتة.”
“نعم؟”
“ماذا؟”
كانا يبدوين مرتبكين. و هذا متوقّع، فأنا نفسي لا أصدّق هذا الوضع.
“بمعنى…”
بصوتٍ ضعيف، شرحتُ الوضع ببطء.
بعد قليل.
بعد أن استمعا لكلّ القصّة، ساد الصمت بينهما.
“……”
“……”
مرت عدّة دقائق، لكن لم ينطق أحدٌ بكلمة.
أدركنا جميعًا أنّ الأمور قد ساءت.
من رؤية ملك الشّياطين، بدا أنّ تعلّقه بالمرأة البشريّة التي أحبّها و ابنتهما كان كبيرًا.
لو قلتُ أمامه: “لقد كذبتُ بدافع اليأس بأنّني ابنتكَ”، فماذا سيحدث؟
هل سيتركني حيّة؟
حتّى لو كان شخصًا عاديًا، لو كُشفت كذبةٌ كهذه، قد تتحوّل إلى جريمة قتلٍ في لحظة.
لو كانت حياتي وحدي على المحكّ، لكان الأمر مقبولًا.
المشكلة أنّ الخصم هو ملك الشّياطين، وكذبتي قد تُعرّض حياة كلّ سكّان الإمبراطوريّة للخطر.
ما فائدة إبقاء كايدن على قيدِ الحياة في مثل هذا الوضع؟ لم أرَ أيّ أمل.
نظرتُ إلى ستيلا ولوكاس الذين كانا ينظران إليّ بوجهين مظلمين، و فتحتُ فمي ببطء:
“…أنا آسفة.”
“لا، سيّدة ماريان، لقد بذلتِ قصارى جهدكِ.”
أجابت ستيلا على الفور. قالت إنّ الأمر كان أكبر من أن يتحمّله إنسان، و حاولت مواساتي بصوتٍ ضعيف.
في تلكَ اللحظة، تمتمَ لوكاس:
“…لنصنع دليلاً.”
“نعم؟”
نظرَ إليّ مباشرةً وقال:
“ماريان، لنصنع دليلاً بأنّكِ ابنة ملك الشّياطين.”
* * *
قبل حوالي عشرين عامًا، فقدَ الماركيز فرناندي ابنته الوحيدة التي كان يعشقها.
في شتاءٍ قارس، كان لا يزال يتذكّر ابنته الممدّة في وسطِ قاعة القلعة بفستانٍ أبيض.
كانت الزّهور تحيط بها، و وجهها هادئٌ للغاية، كأنّها لوحةٌ فنيّة.
لكنّه لم يكن يريد ابنته كلوحة. كان يريد شارل الحيّة، التي تتحرّك، تتكلّم، و تعبس بحاجبيها.
كان هناك شخصٌ تسبّبَ في موت ابنته.
الرّجل الذي جاءت به شارل قائلةً إنّها تريد الزواج منه.
“المرتزق داميان.”
“قلتُ لكَ لا تتجرّأ أمامَ والدي!”
“…سيّدي.”
كان واضحًا من ملامحه الأنيقة و غطرسته المتأصّلة أنّه ليس مرتزقًا، لكن لم يكن هناك دليلٌ واضح على هويّته.
افترض الماركيز أنّ داميان ربّما يكون ابنًا غير شرعيّ لعائلةٍ نبيلة.
كماركيز، لم يكن يعرف وجهه، لكن ملابس داميان و ظجوهراته كانت فاخرةً جدًا، و سلوكه كان مليئًا بالأناقة.
“أبي، أريد الزّواج منه. أرجوك، وافق.”
توسّلت شارل بحرارة. لكن بما أنّ الماركيز كان نبيلاً كبيرًا، و لم يرد لابنته أن تعيش حياةً مليئةً بالانتقادات، عارضَ بشدّة.
“هل يعقل أن تتزوّج ابنة الماركيز فرناندي الوحيدة من رجلٍ مجهول الهويّة؟ انفصلا فورًا! وإلّا سأطرد ذلكَ الرّجل بنفسي!”
ندمَ على ذلكَ القرار.
اعتقدَ الماركيز فرناندي أنّ شاروليز ستعود بعد فترةٍ قصيرة من هروبها. فكيف لابنةٍ وحيدة نشأت في رفاهيّة أن تتحمّلَ قسوة العالم الخارجي؟
شعرَ بالحسرة، لكنّه وضعَ أشخاصًا لتعقّب الهاربين، و.اعتقد أنّه اتّخذ الاحتياطات اللازمة.
لكنّه فقد أثرهما بعد يومين فقط.
قضى الماركيز فرناندي ثلاث سنواتٍ وقلبه يحترق، وعندما عادت شارل جثّةً، فقدَ معنى الحياة.
ما كان يدفعه للاستمرار، ولو بالكاد، هو مسؤوليّته تجاه أتباعه و سكّان إقليمه الذين يعتمدون عليه.
كانت الوحوش تتدفّق باستمرار من الغابة الشرقيّة. كان عليه تجنيد الجنود وقيادتهم لحماية إقليم فرناندي.
هكذا مرّت السنوات.
كان يواجه الوحوش كالمعتاد ذلكَ اليوم.
فجأة، انشقّت السماء، و سقطت صخورٌ بركانيّة. حتّى الوحوش هربت إلى الغابة مذعورةً، و أمـرَ الماركيز جنوده بالاختباء .
“ما هذا بحق…”
بعد أكثر من ستّين عامًا من الحياة، لم يـرَ مثل هذا المشهد من قبل.
هل هذه نهاية العالم؟
بدت الصخور البركانيّة و كأنّها لن تتوقّف، لكنّها تباطأت مع الوقت و سقطت دفعةً واحدةً على الأرض.
عندما أصبحت السّماء صافية و عاد السّلام، أطلّ الجنود بوجهٍ متعجّب.
“سيّدي الماركيز، هل أنتَ بخير؟”
“أنا بخير. تحقّقوا من الجرحى.”
“حاضر!”
بينما كان الماركيز في حيرةٍ داخليّة حول ما حدث،
“الماركيز فرناندي.”
ظهر رجلٌ من السماء، شعره الأسود الطويل يرفرف، ذو عينين حمراء ومظهرٍ لا يُنسى.
حدّقَ الماركيز إليه بغضب.
الرّجل الذي أغوى ابنته، جعلها تهرب من العائلة، ثمّ أعادها جثّـةً، ظهرَ الآن مع الدوق فالتشتاين.
“أيّها الوغد…!”
ارتجفَ جسد الماركيز من الغضب. لكنّه أدرك:
‘لم يكن رجلاً عاديًا.’
الطّاقة المشؤومة التي تنبعث من داميان، و الدوق الذي رغم كونه سيّد سيف، فاقدٌ للوعي بلا حولٍ ولا قوّة.
كلّ شيء كان غير طبيعيّ.
مع ذلك، لم يستطع الماركيز كبح غضبه.
“كيف تتجرّأ على القدوم إلى هنا!”
رفعَ سيفه بعيونٍ مشتعلة بالغضب. شعر برغبةٍ في القتل عند رؤية مَنٔ تسبّب في موت ابنته.
“اعتنِ بهذا الرجل.”
لم يبدُ أنّ داميان يرى الماركيز حتّى، و أرسلَ كايدن، الذي كان يطفو في الهواء، نحوه بلا مبالاة. تلقّاه نائب الماركيز المرتجف.
“بأيّ وجهٍ تجرؤ على القدوم إلى هنا! فورًا…”
“ستأتي فتاةٌ ذاتُ شعرٍ أحمر قريبًا.”
تحدّثَ داميان دونَ اكتراث.
“من الأفضل لكَ أن تتمنّى أن تكون هي حفيدتكَ الوحيدة.”
“ماذا…؟”
ما هذا الكلام؟
ظـنَّ الماركيز أنّه أخطأ في سماع كلامه.
“و إلّا، سنذهب أنتَ و أنا و كلّ من هنا إلى جانب شارل.”
بدأ داميان يضحك بجنون و عيناه مفتوحتان على وسعهما.
“هاها! هاهاها!”
أسقطَ الماركيز السّيف الذي كان يصوّبه نحوه بلا قوّة.
التعليقات لهذا الفصل " 72"