“ماذا…؟”
“اتركني!”
حاولتُ نزع يد ملك الشّياطين ، لكنّ قوتي لم تكفِ.
بذلتُ جهدًا كبيرًا، لكن يبدو أنّه شعرَ به كجناح ذبابةٍ، فلم يُبدِ أيّ ردّة فعل.
تمتمَ ملك الشّياطين وكأنّه فقد صوابه:
“ابنتي…؟”
لم يكن لديّ وقتٌ للاهتمام به. كانت كلّ حواسي مركّزةً على كايدن الذي كان ممدّدًا على الأرض. لم يكن بإمكاني إلّا أن أركّز عليه.
كان الدّم يتجمّع على الأرض كبركةٍ.
شعرتُ بالخوف فجأةً. ماذا لو ماتَ هكذا؟
في تلكَ اللحظة، خطرت ستيلا في ذهني. كانت قادرةً على شفاء الجرحى بقوتها المقدّسة. تذكّرتُ مشهدًا حينَ خرجَ ضوءٌ أبيض من يديها وشفى الجرحى.
‘يجبُ أن أحضرَ ستيلا.’
كان هذا الخيار الوحيد لإنقاذِ كايدن.
نظرتُ حولي بسرعة. من بعيد، رأيتُ ستيلا و لوكاس ينقذان النّاس بالقرب من الأنقاض المنهارة.
كانت المسافة بعيدةً نوعًا ما، لكن بالنّسبةِ لي كسيّدةِ سيف، لم تكن بعيدةً جدًا. إذا ركضتُ بجديّة و حملتُه على ظهري، يمكنني العودة خلالَ خمس دقائق.
المشكلة كانت في ملك الشّياطين الذي يمسكُ بمعصمي و يتمتم كالمجنون.
“كنتِ على قيد الحياة… و لم أتعرّف عليكِ؟ أنا حقًّا؟”
كان يسأل نفسه و كأنّه لا يصدّق، ثمّ قال:
“لكن الأطفال البشريّين هم تحتَ سلطة نيكس… روز تشبه شارل أكثر…”
بدأ يقتنع بنفسه.
نظرتُ إليه و فتحتُ فمي ببطء:
“…أنقذه، أرجوك.”
“…..”
توقّفت تمتمة ملك الشّياطين فجأةً و نظرَ إليّ.
كإنسانةٍ ضعيفة، لم يكن بإمكاني سوى التوسّل. كان جسدي يرتجف كأوراقِ شجرةٍ في مهبّ الريح. كنتُ خائفةً جدًا.
لكن ، ما كنتُ أجده أكثر رعبًا هو احتمال أن يموتَ كايدن الآن.
“أرجوك، أنقذه.”
بصوتٍ مرتجفٍ بشكلٍ يُرثى له، جمعتُ شجاعتي و توسّلتُ مرّةً أخرى. كانت الدموع تتساقط من عينيّ.
خوفي من موت كايدن، و خوفي من هذا الكائن الخارق الذي يستطيعُ إنهاء حياته بلمح البصر، امتزجا معًا.
نظرَ إليّ ملك الشّياطين بثبات. كنتُ أتمنّى لو يقول شيئًا.
مرّت بضعُ دقائق. ثمّ نقلَ نظره إلى كايدن. شعرتُ بقلبي يهوي. كنتُ أخشى أن يطلق طاقةً شيطانيّةً أخرى، فلم أعد أتنفّس بشكلٍ صحيح.
“…هذا السوار، من أين حصلتِ عليه؟”
لحسن الحظّ، رفعَ السوار إليّ. نظرتُ إليه بعيونٍ مرتجفة.
ماذا قال ملك الشّياطين من قبل؟
“هذا سوار زوجتي.”
صحيح، قال إنّه سوار زوجته المتوفّاة. و بماذا أجبتهُ؟
“من أين حصلتِ عليه؟!”
“يبدو أنّني ابنتكَ!”
شعرتُ بقشعريرةٍ في جسدي.
بسببِ رؤية كايدن ينزف، لم أكن أرى شيئًا أمامي، فألقيتُ الكلام دونَ تفكير.
لو قلتُ الحقيقة: “هذا السوار هديّة من كايدن، و ارتديته منذُ يومين فقط”، لكنتُ أنا و كايدن الآن خارجَ هذا العالم.
حتّى لو مزّقوا فمي، لم يكن بإمكاني قول الحقيقة الآن. أدرتُ عقلي بجنون و فتحتُ فمي ببطء:
“لا، لا أعرف.”
“لا تعرفين؟”
رأيتُ مزاجه يسوء فجأةً. حاولتُ بيأسٍ اختلاق كذبة:
“منذ، منذُ صغري…”
فكّري، فكّري!
“… منذُ زمنٍ لا أتذكّره، كنتُ أحمله، لذا لا أعرف بالضبط.”
فتحَ ملك الشّياطين فمه قليلاً.
“…هل أعطتكِ إيّاه والدتكِ؟”
لقد ارتديتُه منذُ يومين فقط ، فعن أيّ أمّ تتحدّث؟
شعرتُ بقلبي ينكمش، لكن هذه المرّة قلتُ الحقيقة:
“أنا، أنا يتيمة، لذا لا أعرف.”
“يتيمة…”
عندما انتهى كلامه،
دويّ! دويّ!
سقطت الصخور البركانيّة التي كانت تطفو في الهواء دفعةً واحدةً على الأرض. شعرتُ بقلبي يسقط معها.
سمعتُ صراخ الناس المذعورين من بعيد.
لكن لم تظهر صخورٌ بركانيّة جديدة بعد الآن.
بل بدأ الشّرخ الذي في السّماء يلتئم تدريجيًا. تحولت السّماء القرمزيّة إلى زرقاء، و بدأت الشمس الدافئة تتسلّل من بين الغيوم.
في لحظة، عادَ العالم إلى السّلام.
نظرَ إليّ بنظراتٍ ثاقبة. بدت عيناه و كأنّهما تحاولان التأكّد مما إذا كنتُ صادقةً أم لا، فحاولتُ ألّا أتفادى نظرته.
يبدو أنّه، حتّى بصفته ملك الشّياطين، لا يستطيع قراءة أفكار البشر.
لكن خوفًا من افتضاح أمري، حاولتُ ألّا أفكّر في شيء.
أفلتَ ملك الشّياطين معصمي ببطء. انهرتُ على الفور و تعلّقتُ بكايدن. كان الدّم يتدفّق من بطنه في كلّ الاتّجاهات.
“الدم…”
كان وجه كايدن الآن أبيض كالورق.
“لا، لا يمكن.”
حاولتُ بيدين مرتجفتين سًدّ بطنه. لكن الدم استمرّ بالتدفّق. كان يجب أن أوقف نزيفه.
لكن كيف؟ أين ستيلا؟
رفعتُ رأسي لأنظرَ حولي، لكنّني لم أرَ سوى أنقاض القصر المنهار. كنتُ في حالة ذعر. الدم يتدفّق، و كايدن يقترب من نقطة اللاعودة.
“هل تريدين أن يعيش رفيقكِ؟”
سمعتُ صوت ملك الشّياطين من فوقي. لم أستطع النطق للردّ.
“سألتُكِ، هل تريدين أن يعيش رفيقكِ؟”
أومأتُ برأسي بصعوبة. لو فتحتُ فمي، لخرجت أصواتٌ مكتومة فقط، فلم أستطع التوسّل.
حينها، أشارَ ملك الشّياطين بيده برفق.
لفّ ضوءٌ أحمر جسد كايدن ثمّ اختفى. نظرتُ بينه و بين ملك الشّياطين ، و أدركتُ أنّ الدم توقّف.
“الدّوق…!”
لكن فرحتي لم تدم طويلاً.
“إذا أردتِ إنقاذ رفيقكِ.”
أشارَ ملك الشّياطين مرّةً أخرى. ارتفع جسد كايدن في الهواء.
“أحضري دليلاً على أنّكِ ابنتي إلى قلعة الماركيز فرناندي.”
“مهلاً، لحظة…!”
نهضتُ مرتبكةً. قال ملك الشّياطين بصوتٍ مخيف:
“حتّى ذلكَ الحين، سأحتفظ برفيقكِ.”
“مهلاً، لحظة!”
“يجبُ أن تكوني ابنتي. و إلّا، لن يختفي رفيقكِ فقط، بل جميع البشر.”
شعرتُ بقشعريرةٍ في رقبتي.
“أرجوك…!”
حاولتُ التوسّل مرّةً أخيرة، لكنّهما اختفيا في لحظة.
ظلّت يدي الممدودة نحوَ كايدن عالقةً في الهواء دون حراك. مرّت نسمةٌ خفيفة بأطراف أصابعي.
أنزلتُ يدي بحسرة.
“الدوق…”
فقدتُ قوّتي و انهرتُ على الأرض.
نظرتُ بحزنٍ إلى المكان الذي اختفى فيه ملك الشّياطين و كايدن، ثمّ شددتُ قبضتي.
‘صحيح، كايدن لم يمت بعد.’
رغمَ أنّ وجهه كان شاحبًا كالورق، لكن ملك الشّياطين أكّـدَ أنّه سيُبقيه حيًا.
كايدن على قيدِ الحياة.
شعرتُ بالارتياح، و في الوقتِ نفسه، ظهر هدفٌ جديد. يجب أن أنقذه من ملك الشّياطين.
عندما أصبحَ لديّ ما يجب القيام به، بدأ عقلي يستعيد وضوحه.
لكن… كيف سأحصل على دليلٍ بأنّني ابنة ملك الشّياطين؟
لقد كان مجرّد كلام أخرجته دونَ تفكير، فأيّ دليلٍ يمكن أن أجده؟
أنا بشريّة.
لذا بالطبع، لستُ ابنته.
عندما هدأَ توتّري، بدأتُ أدرك حجم ما اقترفته.
“…ماذا أفعل الآن؟”
تردّدَ صوتي الحائر وسط أنقاض القصر المنهار.
* * *
هبّت الريح.
تطايرت شظايا الماس مع الريح، متلألئةً تحت أشعّة الشمس.
هذا المكان، الذي كان يومًا يستضيف تتويج النبلاء، قصر الألماس، أصبحَ الآن في حالةٍ يُرثى لها.
بما أنّه كان مركز هبوط ملك الشّياطين، لم يبقَ أيّ أثرٍ للمبنى.
في وسط الأنقاض، كان فأرٌ يصدر أصوات “صرير!” بالقرب من جثّةٍ بلا رأس.
قرش!
فجأةً، أمسكت يد الجثّة بالفأر و سحقته. ماتَ الفأر دونَ أن يصدر أيّ صوت.
نهضت الجثّة التي بلا رأس.
تساقط الغبار و أكوام الأنقاض التي كانت تغطّيها.
تحرّكت الجثّة، رغمَ عدم وجود عينين، و كأنّها ترى، و سارت دونَ تردّد.
كان هناك رأسٌ ملقى على الأرض. التقطه و وضعه على رقبته. ربطت طاقةٌ سوداء مشؤومة الجزء المقطوع.
هبّت الريح مرّةً أخرى.
نظرَ رئيس السحرة، أو بالأحرى الشيطان فيليس، الذي عادَ إلى الحياة، إلى السّماء الصافية و تمتم، و هو يحرّك رقبته كمَنْ يتخلّص من التشنّج:
“الملك الذي تخلّى عنّا لم يعد ملكًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 71"