* * *
كراك!
“هاا، هاا.”
كان الشّمس قد غربت بالفعل. تفرّق الفرسان الذين كانوا يشاهدون مبارزتنا واحدًا تلو الآخر مع حلول المساء.
لم يبقَ في ساحة التّدريب سواي أنا و كايدن.
“يبدو أنّكِ تعبتِ بالفعل؟”
“…لنرتح.”
لم أستجب لاستفزاز كايدن، و استلقيتُ على الأرض مباشرةً.
لم أتبارز معه منذُ زمن.
منذُ ثلاثِ سنوات، أليس كذلك؟
حتّى ذلكَ الحين، كانت علاقتنا جيّدة نوعًا ما. لكن متى بدأنا نتوقّف عن الحديث بشكلٍ صحيح؟
ربّما منذُ بدأت أسمع تعليقات مثل “بسببِ أصلها الوضيع، لا تزال عالقةً في لقب الفارس”. أعتقد أنّني شعرتُ بالإستياء منه قليلًا.
نظرَ كايدن إليّ بوجهٍ خالٍ من التّعبير، ثمّ جلس بجانبي.
“هل هناك سببٌ وجيه يدفعكِ للتّقاعد؟”
‘لأنّكَ ستقتلني لاحقًا.’
بالطّبع، لا يمكنني قول ذلك.
“إذا كنتِ تريدين لقب بارونة، سأقترحُ ذلكَ على الإمبراطور.”
“لا تتحدّث كما لو كنتَ تمنّ عليّ.”
“هاه، ماريان.”
“أعلم أنّني لا أستطيع القتال بجدّيّة خوفًا من رؤية الدّم.”
“…..”
من خلالِ تصادم سيوفنا، أدركتُ. لقد تجاوزَ كايدن مستوايَ بمرحلة.
سواء بالمهارة أو القوّة، كان واضحًا أنّه يتعامل معي برفق.
لهذا قُتلتُ على يده، أليس كذلك؟
السّؤال الوحيد هو أنّ الرّواية الأصليّة وصفت معركتنا بأنّها شرسةٌ للغاية.
بالطّبع، ربّما تكونُ مهارتي قدْ نمـتْ خلالَ تلكَ الفترة، لكن…
‘ما فائدة كلّ هذا الآن؟’
“سيّدة سيف يُغمى عليها عندَ رؤية الدّم، أليس هذا مضحكًا؟”
بعد أن قُلتُها، شعرتُ بالضّحك حقًّا.
“بهذه الحالة، لا أستطيع حتّى التّجول في السّوق. سيُغمى عليّ إذا رأيتُ دجاجة تُذبح.”
صمتَ كايدن للحظة، ثمّ تكلّم:
“قال الطّبيب إنّ الأمرَ قد يتحسّن مع الوقت. ماذا عن الانتظار قليلًا؟”
إنّه لا يستسلم.
حسنًا، حتّى لو كان كايدن دوقًا، لا يمكنه أن يُقرّر اعتزالَ سيّدةِ سيف تابعةٍ للعائلة الإمبراطوريّة بسهولة.
لكنّني، بسببِ أصلي المتواضع، لا أستطيع مخاطبة العائلة الإمبراطوريّة مباشرةً.
لذا، لا خيارَ أمامي سوى إخبار رئيسي المباشر، آملة أن ينقلَ كلامي.
الآن، نحنُ قبل بداية الرّواية، أي قبلَ ظهورِ البطلة القدّيسة.
عندما تبني القدّيسة علاقةً مع الأمير الثّاني، يستعجل وليّ العهد، فيُعيّنني كفارسةٍ مباشرةً له، و يرتفع لقبي بشكلٍ كبير.
كانت عائلة الدّوق محايدة حتّى ذلكَ الحين، لكنّها سئمت من طغيان وليّ العهد، فدعمت الأمير الثّاني، مما أدّى إلى صراعِ سلطة عاصف.
وكما في رواية رومانسيّة، كلاهما يقعانِ في حـبّ البطلة.
البطل الثّانويّ و الشّرير هو وليّ العهد، بينما البطل الثّانويّ الثّاني هو كايدن.
أظهرَ كايدن بوضوحٍ عاطفته تجاهَ ستيلا، لكنّه لم يتقدّم بتهوّر احترامًا للأمير الثّاني. كان يكتفي بالمراقبةِ من بعيد.
أما أنا، فقد كنتُ أخدم وليّ العهد بغباءٍ و أحبُّـهُ بصدق.
‘ظننتُه ملاكًا يُقدّرني. لكن بالنّسبةِ لوليّ العهد، لم أكن سوى أداةٍ مفيدة، لا أكثر ولا أقل.’
شعرتُ بالمرارة. لمَ كنتُ متلهّفةً لنيل الاعتراف و إثبات جدارتي؟
نظرتُ إلى سماء المساء و فتحتُ فمي:
“سموّ الدّوق، متى موعد لقائكَ التّعارفي القادم؟”
“…لمَ انتقلَ الحديث فجأةً إلى هذا الموضوع؟”
“مجرّدُ فضول.”
ضيّقَ كايدن عينيه و حدّقَ بي، ثمّ تنهّد.
“غدًا.”
“هل هي جميلة؟”
“لا أعرف.”
“ربّما تكونُ جميلة. لكن لمَ لا تتزوّج؟ يتزوّج النّبلاء الآخرون قبل الخامسة و العشرين، ألستَ الآن في الثّامنة و العشرين؟”
نظرَ كايدن إليّ بنظرة تقول ‘حتّى أنتِ؟’.
ولا عجب، فكايدن كانَ يواجه ضغطًا هائلًا للزّواج من السّيّدة مارتشي و جدّه الدّوق السّابق ليوبولد في العاصمة.
خلالَ العام الماضي، التقى بأكثرِ من عشرين سيّدة في لقاءات للتّعارف، لكنّه لم يطلب موعدًا ثانيًا مع أيّ منهنّ. بل انتشرت شائعات مثل:
‘الزّواج من الدّوق كايدن قد يعني الموت تحتَ نظراته!’
ضحكتُ بخبث، و أنا أسعى لانتقامٍ صغير من كايدن.
“أليس ذلك صحيحًا؟ كيفَ يرفض كلّ تلك الفتيات الجميلات إلّا إذا كان…؟”
“ماريان.”
رفعَ كايدن حاجبًا و ألقى نظرةً تحذيريّة. لكنّني لم أتراجع.
“هل هناك مشكلة حقًّا؟”
“…يبدو أنّني بحاجة لتعليمٍ من السّيّدة مارتشي حول كيفيّة التّحدث بأناقة مجدّدًا.”
“هاه، أنا قلقة عليكَ فقط. أم أنّكَ تفتقر للثّقـة بنفسكَ؟”
ارتعشت عضلة فكّ كايدن و هو يعضُّ على أسنانه.
‘آه، لديهِ كبرياء إذن؟’
كانت ردّة فعله ممتعة، فتجاوزتُ الحدود قليلًا.
حان وقت التّراجع.
“حسنًا، أفهم. أحيانًا، أمامَ النّساء، يصبح المرء خجولًا بشكل…”
فجأةً، غطّى ظلٌّ جسدي.
انحنى كايدن بجذعه، داعمًا يده بجانبِ رأسي، ناظرًا إليّ من الأعلى. كان وجهه قريبًا جدًّا.
“هل تتساءلين إن كانت لديَّ مشكلةٌ أم لا؟”
حدّقتُ في كايدن بعينين متّسعتين.
شعره الأسود المبلّل بالعرق يغطّي جبهته، ملقيًا بظلالٍ على بشرته البيضاء كاليشم.
عيناه الزّرقاويتان تلمعان كالجواهر تحتَ جفنيه نصف المغلقة.
وجههُ وسيم بشكلٍ مذهل.
لكن لمَ يُهاجمني بهذا الوجه؟
“ماذا تفعل؟”
بالتّأكيد شعرَ بارتباكي، لكن كايدن لم يتحرّك، فقط رفعَ حاجبًا.
“حتّى لو كنتِ متهوّرة ، أتمنّى ألّا تنسي أنّكِ امرأة.”
“هاه، و هل أبدو كرجلٍ أصلا؟”
“أنا الرّجل هنا.”
“هذا بديهيّ، أليس كذلك؟”
تنهّدَ كايدن بخفّة و نهض.
“بما أنّكِ امرأة، لا تعبثي مع الرّجال الذين حولكِ.”
ما هذا؟ حدّقـتُ به بعينينِ جاحظتين.
“هل تُوبّخني الآن؟”
“ولا تتودّدي للرّجال الذين يشبهونَ وليّ العهد.”
كلامه اللاّحق جعلني أشعر بالذّنب داخليًّا.
لم أجد ما أقوله.
قبلَ إدراكي لحياتي السّابقة، كنتُ أغازل كلّ جنديّ شابّ أشقر بعينين خضراوين، أمدحهم بعبارات مثل “عينيكَ جميلتان” أو “كعجل صغير”.
واعدتُ بعضهم فعلًا ، بينما كان آخرون يرتجفون خوفًا منّي، يطلبونَ المساعدة بنظراتهم من الفرسان المحيطين.
…حسنًا، لو كانوا لا يريدون، كانَ عليهم القول.
“حسنًا… إذا توافقت القلوب بين الشّباب، قد يتواعدون…”
بينما كنتُ أتمتم بتبرير، قاطعني كايدن بحدّة:
“إنّه ابتزاز باستخدامِ السّلطة، أليس كذلك؟”
“تسك!”
زممتُ شفتيّ و نهضتُ لأجلس.
“لكن إذا رفضوا، لم أكن سأُلِـحّ. كما أنّني كنتُ على وفاق مع مَنْ واعدتهم…”
هل كنتُ مفتونة بوليّ العهد أم وحيدة؟ لمَ كنتُ أتودّد لهم؟ لم أفكّر بجدّيّة في أيّ منهم.
لكن الآن، بعدَ إدراكي لحياتي السّابقة، لم أعد أنوي فعلَ ذلك، فشعرتُ بالظّلم.
‘لم أكنْ سأفعل ذلك. هل الحبّ مهمّ الآن؟ التّفكير في الهروب من هذه الرّواية يكفي ليجعل رأسي يشعر بالصّداع.’
نظرَ كايدن إليّ و أنا أتمتم، ثمّ تكلّم:
“ماريان، ابقي في قلعةِ الدّوق لبعضِ الوقت و استريحي.”
حدّقتُ فيه. كان ينظرُ إليّ بوجهٍ هادئ، لكنّ عناده الذي لا يقبل التّنازل واضحٌ في عينيه.
بمعنى آخر، لن يُصغي لموضوعِ التّقاعد.
إذن، يجب أن أتراجع خطوةً وأضع خطّة صحيحة.
“امنحني المال أيضًا.”
سأحصل على ما أستطيع أوّلًا.
* * *
“اليوم، سيزور الأمير الثّاني و الأميرة الرّابعة قلعة الدّوق. لذا أنتِ أيضًا يا سيّدة ماريان، جهّزي نفسكِ لاستقبالهما.”
“ماذا؟”
نظرتْ إليّ السّيّدة مارتشي بوجهٍ ودود. أسقطتُ الخبز الذي كنتُ آكله و تلعثمتُ.
“لمَ يأتي هذان الشّخصان الرّفيعان فجأةً إلى هذه الأرض الباردة المظلمة…؟”
“آه، السّيدة ماريان، كيف تكون إقطاعيّة فالتشتاين، المغطّاة بالثّلوج البيضاء مظلمة؟ هههه، هل هناك مكانٌ أجمل من هذا المكان؟”
“هاها، بالطّبع. كنتُ أعني أنّ اللّيل هنا جميل.”
شعرت بالعرق البارد و حاولتُ التّبرير.
كانت السّيّدة مارتشي من أكثر الخدم ولاءً. لم يكن من الحكمةِ التّحدّث بسوء عن فالتشتاين، أمامها.
“كان من المقرّر أن تأتي الأميرة الرّابعة اليوم. لكنّني لم أكن أعلم أنّ الأمير الثّاني سيرافقها.”
“….. ”
مهلًا… هل الأميرة الرّابعة هي شريكة كايدن في لقاءِ التّعارف اليوم؟!
التعليقات لهذا الفصل " 4"