الفصل 39
بعد أن غادرَ الدّوق السّابق الغرفة مباشرةً، بقي كايدن و ماريان وحدهما، ولم يُسمع سوى صوت عقرب السّاعة يتحرّك.
مرّت بضع دقائق. لم يستطع كايدن أن يستمرّ في إضاعة الوقت هكذا.
“ماريان.”
“سموّ الدّوق.”
تداخلت كلماتهما. فتحَ كايدن و ماريان عينيهما بدهشة.
“تكلّمي أوّلًا.”
“تفضّل.”
تداخلت كلماتهما مجدّدًا.
نظرا إلى بعضهما بوجه محرج، ثم أشاحا بنظرهما بخفّة. كان الجوّ غريبًا.
كلّ هذا بسببِ غمزة الدّوق الغريبة وكلامه اللافت.
“احم، تكلّمي أوّلًا.”
تنازل كايدن، فقبلت ماريان على الفور:
“اذهب إلى غرفتك، سموّ الدّوق، و ارتح.”
فكّرَ كايدن للحظة ثم هزّ رأسه.
“لا، إذا ذهبتُ إلى غرفتي، سيقلق جدّي أنّ هناك مشكلة في علاقتنا.”
“هاه، مستحيل.”
“من الممكن جدًّا. فكّري في تصرّفاتي بعد أن تقدّمت لخطبتكِ.”
تحدّثَ كايدن بوجه جادّ، فغرقت ماريان في التفكير.
طوالَ هذا الوقت، كان كايدن يعامل ماريان مستلهمًا تصرّفات والده مع والدته في صغره. هذا التصرّف مألوف للدّوق السّابق أيضًا.
بما أنّ ماريان عاشت مع عائلة فالتشتاين لسنوات، فهي تعرف طباعهم إلى حدٍّ ما.
لو كان والد كايدن، لما تركَ زوجته الحامل و صعد إلى غرفته وحده أبدًا.
أصلًا، لم يستخدم الزّوجان غرفًا منفصلة حتّى عندما تشاجرا بعد زواجهما.
إذا صعدَ كايدن إلى غرفته، ستصل هذه الأخبار إلى الدّوق السّابق بسرعة، فالقصر بمثابة كفّ يد له.
نظرت ماريان إلى الفراغ بعينين ضبابيّتين و تمتمت:
“إذن، يمكنكَ النّوم على السّرير، سموّ الدّوق.”
هزّ كايدن رأسه.
“سأنام على الأريكة.”
هزّت ماريان رأسها بسرعة.
“ما الذي تقوله؟ سأنام أنا على الأريكة.”
“لا، لا يمكن ذلك.”
تحدّثَ كايدن بحزم، فأشارت ماريان إلى الأريكة وسألت:
“أنتَ ستنام هناك؟”
لم يستطع كايدن الرّد.
كانت الأريكة صغيرة تتّسع لشخصين. بما أنّ الغرفة كانت لغرض الضّيوف، لم تُجهّز بأثاث كبير مثل غرفة كايدن بصفته الدّوق.
تخيّلَ كايدن نفسه مستلقيًا على الأريكة: جسده متكوّر، و ساقاه تتدلّيان من مسند الأريكة، مظهر غير لائق بالتأكيد.
لكن حتّى ماريان ستبدو الأريكة ضيّقة عليها.
لم يستسلم كايدن.
“يمكنني النّوم جالسًا.”
“سموّ الدّوق ينام جالسًا على الأريكة، بينما أنا، الأدنى منه مكانة، سأنام مرتاحة على السّرير؟”
“لا يهمّني”
“لكنّه يهمّني! كيف أجرؤ على فعل ذلك؟”
نظرت ماريان إليه بعينين مندهشتين. كان كلامها منطقيًّا. مَنٔ يجرؤ على ترك الدّوق ينام على الأريكة؟
لكن كايدن مسحَ جبهته كأنّه محبط. لم يرد أن تنام ماريان، التي أرهقها هذا اليوم، على الأريكة بشكلٍ غير مريح.
“…لا يوجد رجل نبيل يتركُ امرأة تنامُ على الأريكة.”
“و ماذا عنّي عندما كنتُ أنام في العراء أثناءَ محاربة الوحوش؟”
“…..”
كأنّ غرابًا أطلقَ نعيقه و هو يمـرّ.
فركَ كايدن رقبته بإحراج. مرّ صمتٌ محرج في الغرفة. ثم تحدّثت ماريان بنبرةٍ حازمة كأنّها اتّخذت قرارًا كبيرًا:
“إذن، لننم معًا على السّرير.”
“ماذا؟”
“سأنام في الزّاوية بهدوء كأنّني فأر ميت.”
“…..”
نظرَ كايدن إلى السّرير. بالتّأكيد، كان أوسع وأكثر راحة من الأريكة. بدا مناسبًا لشخصين.
تردّدَ كايدن. كان قد عاش مع ماريان كعائلة. رآها منذُ كانت طفلة صغيرة في الثالثة عشرة ، فهذا طبيعي.
لكن، مهما كان الأمر، بدا من غير اللّائق أن ينام شخصان بالغان تحتَ لحاف واحد.
حاولَ كايدن الرفض.
“حتّى لو كانَ الأمر كذلك…”
“لا تقلق، لن ألمسكَ و لو بطرف إصبع.”
“ماذا؟”
لم يفهم كايدن كلام ماريان للحظة، فأصدر صوتًا مندهشًا. نظرت إليه ماريان بوجهٍ واثق و قالت:
“على أيّ حال، كلّ هذا مجرّد تمثيل.”
“…تمثيل؟”
أومأت ماريان برأسها بوجهٍ خالٍ من القلق.
“نعم، ألم تُظهر أنتَ حبًّا متوهّجًا لي كأنّك ممثّل بارع؟ إذا اعتبرتُ الأمر تمثيلًا، فالنّوم معًا ليس بشيءٍ كبير.”
شعرَ كايدن كأنّه تلقّى ضربة على مؤخّرة رأسه. بدأ يشعرُ بالضّيق.
“…النّوم معي في سرير واحد لا يعني لكِ شيئًا؟”
“إذا اعتبرتكَ رفيق سلاح، أظنّ أنّني سأنام بعمقٍ أكثر من المعتاد.”
“…..”
شعرََ كايدن بالغضب.
رفيق سلاح؟ بالطبع، نحن رفاق سلاح. لكن، هذه ليست حربًا، فما شأن أمر رفاق السّلاح هذا؟
لم يستطع إخفاء نبرته المتضايقة.
“حسنًا، افعلي ما شئتِ.”
“نعم، هيّا ننم! أنا متعبة و نعسة جدًّا.”
اندست ماريان تحتَ الغطاء بنبرةٍ مرحة.
نظرَ كايدن إليها و ضحكَ ضحكة خافتة كأنّه بالون فَقَـد هواءه.
“…هاه.”
على الرّغمِ من إعطائها المنوّمات لإبقائها نائمة أثناءَ محاولة كسر السّحر، بدت ماريان متعبة. يبدو أنّ مقاومة السّحر استهلكت طاقتها.
شعرَ كايدن بالإحباط.
‘حسنًا، كيف أتجادل مع شخصٍ متعب؟’
استلقت ماريان بهدوء و نظرت إلى كايدن كأنّها تقول: ‘لمَ لا تدخل؟’
تنهّد كايدن داخليًّا، رفع الغطاء، و استلقى على السّرير. تحرّك السّرير قليلًا عندما استلقى.
“تصبح على خير، سموّ الدّوق.”
“…و أنتِ أيضًا، ارتاحي جيّدًا.”
بعد دقائق، نامت ماريان. سمعَ كايدن تنفّسها المنتظم، فأصبحت مشاعره معقّدة.
‘ …هل هي تنام بهذه السّرعة؟’
شعرَ كايدن بدفء ماريان بجانبه، فلم يستطع النّوم. على الرّغمِ من إرهاقه من يوم طويل، أصبح ذهنه أكثر وضوحًا.
استدار كايدن على جانبه.
أضاءَ ضوء القمر وجه ماريان عبر النّافذة. كانت أهدابها الكثيفة مستلقية بهدوء، وفمها مفتوح قليلًا وهي تُصدر أصوات نوم خفيفة كطفلة.
ذكّره هذا المشهد بلقائهما الأوّل.
قبل عشر سنوات، في الشّتاء.
كانت الوحوش تتدفّق من الشّمال بكثرة. في ذلك الوقت، كانت عائلة فالتشتاين تمرّ بشتاء قاسٍ، مضطرّة لتوظيف مرتزقة من كلّ مكان.
“ثلاثة عشر عامًا؟”
في قائمة إحدى فرق المرتزقة المتواضعة، كان هناك اسم طفل يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا.
ضحكَ كايدن بدهشة. مهما كان العيش صعبًا، كيف يُعقل أن يعمل طفل لم يكتمل نموّه مرتزقًا؟
تساءل عن شكل والديّ هذا الطّفل.
لكن الأكثر إثارة للدّهشة هو أنّ ملامح الطّفل، التي رآها من بعيد، كانت ناعمة.
“هل هي فتاة؟”
“يبدو… كذلك.”
في تلكَ اللّحظة، شعرَ كايدن بالإرهاق. كيف وصلت فتاة في الثالثة عشرة إلى هذا المكان البارد و القاسي ممسكة بمقبض سيف؟
قرّرَ إعادتها قبل أن تتعرّض للأذى.
“أين تضع يدكَ، أيّها الوغد اللعين! هل تريد الموت؟ أيّها الأحمق!”
كايدن، الذي نشأ كابن نبيل، سمع من تلكَ الفتاة أقسى شتائم سمعها في حياته.
نظرَ بدهشةٍ إلى الفتاة وهي تدوس بلا رحمة على منطقة حساسة لرجل بالغ. سمعَ همهمات المرتزقة حوله:
“فتاة شرسة. لا تعبث معها. ليست الوحيدة التي عضّت مَنٔ عَبَثَ بها.”
“ليتها تموت على يد وحش.”
“لن تموت. مهاراتها أفضل منكَ.”
“ماذا؟!”
قرّرَ كايدن استبعاد الفتاة من المعركة، لكنّه أغلقَ فمه بهدوء. وكما قال المرتزقة، رأى مهاراتها.
استخدمت ماريان سيفًا قديمًا و خفيفًا. بما أنّ جسمها كان صغيرًا و نحيفًا، اختارت سيفًا يناسبها.
في البداية، تساءل إن كان بإمكانها قطع شيء بهذا السّيف.
لكن الفتاة كانت تعرف كيف تُسقط خصمًا كبيرًا بقوّة صغيرة.
كان كايدن يتتبّعها بعينيه. كان أداؤها العنيد مع السّيف، و طريقتها في إسقاط الوحوش، مدهشًا.
تحسّنت مهاراتها مع كلّ مواجهة.
لم يمر وقتٌ طويل حتّى وصلت ماريان إلى مرتبة سيّدة السيف. نظرَ كايدن إلى الفتاة الصّغيرة التي وصلت إلى مستواه.
كانت عيناها كعينيّ وحشٍ عندما تلوّح بالسّيف، لكنّها كانت تنظر إليه بعينين بريئتين كالأطفال.
فكّرَ كايدن وهو ينظر إلى ماريان:
‘بطريقةٍ ما، ستتشابكُ حياتنا.’
التعليقات لهذا الفصل " 39"