1
الفصل 1
الجثّةُ الّتي عُثِرَ عليها في غرفةِ المكتبة(1)
10 أبريل، يوم الأربعاء، السّاعة 9:40 مساءً.
كان قصرُ آل رودريك عتيقُ الطِّرازِ غارقًا في سكونٍ مُتعبٍ ومُروِّع.
وفيما كانت الأنظارُ كلّها مُثبَّتةً على رجلٍ واحد.
تقدَّمت امرأةٌ ترتدي زيَّ الشرطة خطوةً إلى الأمام.
كانت خُصلاتُ شعرها الأشقرُ الغامقُ مربوطةً إلى الوراء بربطةٍ واحدة، وكانت عيناها بلونِ العنبِ المائلِ إلى الأُرجُوانِ تُضفيان على حركتِها أناقةً وحزمًا.
إنّها نيكس دايلي، مُفوَّضةٌ شابّةٌ في جهازِ الأمنِ المحلّي لبلدةِ أولدن، وكانت عيناها تلمعان.
“بناءً على ما ذكرتُه من أدلّةٍ وظروفٍ مُحيطة…”
وأرسلت نظرةً سريعةً خلفها.
فأغلق الرّجلُ الّذي يرتدي الزيَّ نفسه دفترَ ملاحظاته بإطباقٍ حادّ.
“فلا يُمكن إلّا أن تكون أنتَ هوَ الجاني.”
تقدَّم رجلٌ بملامحَ فاتنةٍ، بشعرٍ أسودَ قاتمٍ، وعينينِ زرقاوينِ عميقتينِ، وجسدٍ شامخٍ متين.
وكانت شارةٌ ذهبيّةٌ تُضيء على صدره، كُتِبَ عليها بوضوحٍ ديتريش هيتن.
“هذا كلامٌ لا يُصدَّق!”
صرخ الرّجلُ الّذي وُجِّهَ إليه الاتّهامُ، كاشفًا عن قواطعِه البيضاء بحدة.
وتوجَّهت إليه أنظارُ الحاضرين، أعينٌ يملؤُها الخوفُ والاشمئزاز.
“إنّه كذب! كلّه كذب!”
كان ردُّه أقربَ إلى الهستيريا.
حدَّق كلُّ من نيكس وديتريش بالجاني الّذي كان يُحاوِل جاهدًا الإنكار، ثم تبادلا نظرةً قصيرةً قبل أن يومِئا برأسيهما معًا.
قالت نيكس من جديد: “أنتَ متهمٌ بتهمةِ قتلِ السيّد موس رودريك…”
“أو للدقّة، بتهمةِ تسميمه.”
أكمل ديتريش، فالتفتت إليه نيكس نظرةً سريعةً ثم تنحنحت قليلًا.
ثم قال الاثنان بصوتٍ واحد:
“نُعلنُ القبضَ عليكَ في الحال.”
“لا! ابتعدوا عنّي! اللعنة، قلتُ لكم دعوني!”
وفيما كان الضبّاطُ يُمسكون كتفَي الجاني ويكبّلونه، مرَّ على شفتي نيكس وديتريش نفسُ الابتسامةِ العابرة.
وكانت نتيجةً لا بأسَ بها بالنسبةِ لأولِ مرّةٍ يعملان فيها معًا.
***
كان صباحًا مُنعِشًا.
أو… في الحقيقة، كان صباحًا مُلبَّدًا بالغيوم، تملؤه ضبابيّةٌ باهتة.
لكن بالنسبةِ لهذه الفتاة، نيكس، فلا يمكن إلّا أن يكون صباحًا مُنعِشًا.
لأنّ…
“خالتي، إنّه اليومُ الّذي سأترقّى فيه أخيرًا!”
ما إن ضربت الطاولةَ بفرحٍ حتى ارتعشت السيّدةُ الّتي كانت تحمل الحساء وقفزت رافعةً الوعاء وهي توبّخ.
“نيكس دايلي! كم مرّة قلتُ لكِ أن لا تطرقي الطاولة!”
“آه… آسفة يا خالتي ميرندا.”
وأخذت نيكس تفرك المكانَ الّذي ضربته كما لو كانت تُسعِف ركبةَ طفلٍ مجروحة.
وضعت ميرندا طبق الحساء مكانه ثم مسحت يديها بمئزرها وهي تُطلق أنينًا مُتعبًا.
“لا أدري من تُشبهين. أمّكِ وأبوكِ كانا من أهدأ الناس الذين عرفتُهم.”
“وأنا أيضًا أكونُ هادئة… أحيانًا.”
“ستكونينَ هادئةً حين تدخلين القبر ربما.”
“آهٍ خالتي، لا تبدأي.”
وعلى الرغم من هذه المشاحنات، كانت العلاقة بين الخالة وابنةِ أختها الوحيدة علاقةً طيّبة.
فنيكس، وقد بلغت السادسة والعشرين، لديها وظيفةٌ جيّدة، وقد حاولت مرارًا أن تستقلّ وتسكن وحدها، لكنّها كانت دائمًا تصطدم برفضِ خالتها الصّارم.
— لقد وعدتُ أمّكِ أن أعتني بكِ حتّى تتزوّجي. هذا كان عهدًا بيننا!
وهذه الجملة هي لازمةُ ميرندا الدائمة.
كانت والدةُ نيكس، وأختُ ميرندا الوحيدة، قد رحلت بسبب الحمّى.
وكان زوجُها، ماركوس، والدُ نيكس، عالمَ آثارٍ لقي حتفَهُ حين انهارت عليه حفرةٌ أثناءَ التنقيب.
وعندما أصبحت نيكس يتيمةً في الخامسة عشرة، ولم يرغب أحدٌ في تولّي أمرها، كانت ميرندا هي أوّل مَن قال: “سأتولّى رعايتها.”
“سنأكل العشاء اليوم في مطعم ما فلاغاندا، ضعي هذا في بالك.”
فتحت نيكس عينيها دهشةً وهي تلتهم الحساء.
“خالتي… هل أنتِ بخير؟”
“أنا بخير.”
“وإلّا فكيف تقترحين الذهاب إلى مطعمٍ باهظٍ هكذا؟! عندما أقول إنّني سأدفع من راتبي، تقولين إنّ قطعة لحمٍ جيّدةٍ في البيت أفضل!”
فقرعت ميرندا جبين ابنة أختها بالملعقة الّتي لم تُستعمل بعد.
“آخ!”
“إن كنتِ تُضيّعين راتبكِ الّذي تتقاضينه مرّة في الشهر، فكيف ستجمعين مهرَكِ؟”
“لن أتزوّج، وحُلَّت المشكلة.”
طارَت ملعقةٌ أخرى تجاهها، لكنّ نيكس صدّتها بسرعة.
تنفّست ميرندا الصعداء ثم قالت وهي تنقر لسانها: “اليوم يومٌ مُميّز، أليس كذلك؟”
وما إن قالت ذلك، حتى انفلتت ابتسامةٌ عريضةٌ من شفتي نيكْس، لا تُخفى مهما حاولت.
“خالتي… تظاهرتِ باللامبالاة لكنّكِ كنتِ تكتمين اهتمامًا بالغًا، صحيح~؟”
“حتى لو كنتِ مزعجة، فإنّ ترقيتَكِ إلى مُفوَّضة وأنتِ أصغرُ مَن وصل هذا المنصب تستحقُّ الاحتفال.”
“خالتي دائمًا الأفضل!”
أرسلت نيكس قبلةً في الهواء نحوها، ثم أفرغت ما بقي من الحساء والخبز بسرعة.
احتجّت خالتُها على طريقتها في الأكل، لكن نيكس لم تكترث.
“لقد شبعتُ! سأذهب الآن إلى العمل!”
“وماذا عن الغداء؟ عليكِ أن تأخذيه معكِ!”
“خالتي، كما قلتِ… ابتداءً من اليوم صرتُ مُفوَّضة. سأدبّر أمري وسأدعو الزملاء على حسابي احتفالًا بالترقية.”
هزّت ميرندا رأسها وهي تنقر لسانها في استسلام.
لكنّ ابتسامةً فخورةً ارتسمت على شفتيها.
دارَت نيكس حول الطاولة لتعانق خالتها وتقبّلها.
“سأعود لاحقًا يا خالتي.”
“كوني حذرة دائمًا. انتبهي للعرباتِ، وللناس، وللسكاكين. مفهوم؟”
“خالتي، بالله عليكِ… أنا الآن لا يفوقني أحد في المركز سوى المدير.”
“السكين لا ينظر إلى الرّتبة قبل أن يطعن. وكذلك البشر. لا تتهاوني.”
“سأذهب الآن!”
ركضت نيكس هاربةً من وصايا خالتها وخرجت من المطبخ بسرعة.
ارتدَت قبّعة جهاز الأمن الملكي من مكانها المعتاد، ثم قبَّلت الصورة الموضوعة على الخزانة لأمّها وأبيها.
“سأعود لاحقًا يا أمّي… وأنتَ أيضًا يا أبي.”
وما إن خرجت إلى الهواء الطلق، حتى ملأت رئتيها بالنَّسيمِ البارد.
كان اليومُ واعدًا… بل يومًا مثاليًّا بكلّ معنى الكلمة.
***
“أتمنّى أن تكونوا بخير جميعًا.”
دخلت نيكس مبنى جهاز الأمن الملكي، المقرّ الثاني الكائن في شارع رودكيت المركزي رقم 6، وألقت تحيّةً مفعمةً بالبهجة على الزملاء.
“أوه، جاءت الآنسة نيكس… بل يجب أن نقول السيّدة المُفوَّضة! أهلًا!”
صافحت زميلها الّذي صار رئيس فريقها بعد ترقيتها. وصفقت معه ضاحكة.
فبعد ترقيتها كأصغر مُفوَّضة، صار زميلها هاميل رئيسًا للفريق خلفًا لها.
“حسنًا، ها قد وصلتُ. أين المدير؟”
“كان يسأل عنكِ منذ قليل. هل افتعلتِ مشكلةً قبل أن تعودي من الإجازة؟”
“يا إلهي… هل عَلِمَ أنّني تجوّلتُ مع رجلَينِ وسييمين أثناء الإجازة؟”
ضحكَ هاميل كما ضحكَ الآخرون حوله.
“على أيّ حال، اذهبي إليه بسرعة.”
“حسنًا يا رئيس الفريق هاميل. أرجو أن تضع المهامَّ المطلوب إنجازها اليوم على مكتبي.”
“حاضر.”
قفزت نيكس بخفّة نحو الطابق الثالث حيث مكتب المدير.
طرقت الباب، فجاء صوتُه: “تفضّلي بالدخول.”
دخلت وهي تقاوم ابتسامةً مُتسعة، وأدّت التحيّة تلقائيًّا.
“نيكس دايلي، عدتُ من الإجازة اليوم.”
“جيّد، جيّد. تعالَي إلى هنا.”
كان لوكارس، مديرُ المقرّ الثاني، في الخامسة والخمسين من عمره، لكنّه يبدو أكبر من سنّه بكثير.
اقتربت نيكس وابتسامةٌ تلوح في وجهها، لكنّها لاحظت تغيّرًا غريبًا في جوّ المكتب… شيئًا لم يكن كعادته.
وفهمت السّبب بسرعة.
كان هناك رجلٌ يجلس بالفعل على أحد الكرسيين أمام المدير.
والكرسيُّ الفارغ لا بدّ أنّه لها.
اقتربت قليلًا، فظهر جانبُ وجهِ الرجل.
وبمجرّد النظرة الأولى، خُيِّلَ إليها أنّه ذو طباعٍ دقيقةٍ وحادّة.
كان يُميل رأسه قليلًا إلى الأسفل، وكانت وجنتاه هزيلتين، وخطُّ فكّه حادًّا يُشبه مَن لم يتناول طعامًا منذ مدّةٍ طويلة.
جلست نيكس مُتردِّدةً في مقعدها.
ولم يَقُل الرّجل شيئًا حتى بعد أن جلست بجانبه، ولم يلتفت إليها ولو لحظة.
“سيدي المدير؟”
“هممم؟”
“أعتذرُ لسؤالي، ولكن… مَن يكون هذا الشخص؟”
نظر المديرُ إلى الرّجل بدهشةٍ طفيفة، كما لو أنّه نسي وجوده أصلًا.
“آه، نعم. يبدو أنّكما تلتقيان لأوّل مرّة. لمَ لا تُعرّفان نفسيكما؟”
دارت عينا نيكس دورةً قصيرة.
فما جدوى التعرّف إلى شخصٍ لا تعرفه ولا يعرفها…
‘وفوق ذلك… هو لا يُبدي أيّ ردّة فعل!’
نظرت نيكس إلى الرّجل بطرف عينها ثم أعادت نظرها إلى المدير.
وعندها فقط لوّح المدير بيده وهزّ رأسه وكأنّه تذكّر أمرًا مهمًّا.
“أوه، صحيح. أظنّني بحاجةٍ إلى تقديمه رسميًّا. آنسة دايلي، أعني… المُفوّضة دايلي. هذا هو المُفوّض الجديد الّذي انضمّ اليوم إلى مقرّنا الثاني ديتريش هيتن. أمّا أنتَ يا هيتن، فهذه هي فخرُ مقرّنا الثاني، نيكس دايلي… وهي واحدةٌ من أكفأ عناصرنا.”
لم تفهم نيكس للحظةٍ ما الّذي سمِعَته بالضبط، فأمالت رأسها مستغربة.
“التحاقه بالمقرّ الثاني ابتداءً من اليوم…؟”
وجودُ موظّفٍ جديدٍ أمرٌ ليس بغريب مع بداية كلّ دورة.
لكن المشكلة كانت في الرتبة الّتي ذكرها المدير للتوّ.
“سيدي المدير… ما معنى هذا؟ هل تقول إنّ هذا الرجل… أيضًا مُفوّض؟ مثلي تمامًا…؟”
وفي تلك اللحظة…
“صحيح أنّ هذا الأمر نادرٌ في المناطق الريفيّة.”
فتح الرّجل فمه للمرّة الأولى، فارتعشت نيكس من خشونة صوته الّذي بدا كصوتِ معدنٍ يُحتَكُّ بحديدة، فحدّقت فيه بلا وعي.
لقد كان الأمرُ مُفاجئًا إلى درجة أنّها نسيت حتّى أن تُفكّر في أنّ هذا التحديق تصرّفٌ غير لائق.
وتابع الرّجل كلامه:
“لكن في المقرّات المركزيّة، ليس من الغريب أن يعمل في الفريق الواحد مُفوّضان أو ثلاثة. فهناك من الأعمال والقضايا ما يستدعي ذلك. وإذا وضعنا هذا في الاعتبار، فلن يبدو غريبًا أن لا تكوني المُفوّضَ الوحيد في المقرّ الثاني.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"