جاء ألفي في وقتٍ متأخرٍ من عصر اليوم التالي وهو يحمل سلةً تكاد تكون في حجم جسده.
“مرحبًا يا سيدتي.”
كنت قد نبهت الخدم مسبقًا بأن ألفي “ضيفي”، ولهذا تمكن من دخول المنزل دون أي مشاكل.
“كيف حالكَ في هذه الفترة؟”
“بخير، بفضلكِ.”
كانت هيئته هذه المرة أنظف بكثير من ذي قبل، وملامحه أكثر إشراقًا، ومع ذلك لم أكن أشعر براحةٍ كاملة.
“لو علمت أنها بهذا الثقل، لأرسلت أحدهم ليحملها عنكَ.”
رفعت السلة بدهشة، ففوجئت بثقلها، أما الفتى فاكتفى بابتسامةٍ خجولة ضاحكة،
“لقد صنعتُ أكثر قليلًا مما طلبتِ، وأضفت كميةً أكبر من المكونات أيضًا.”
“يبدو لذيذًا.”
أخرجت قطعة حلوى من السلة ووضعتها مباشرةً في فمي.
“مم!”
و بمجرد أن عضضت عليها، انتشرت رائحة البرقوق المجفف، وامتزجت بحبات المكسرات التي أضفت نكهةً محمصةً غنية.
“أظنها ألذ بكثير من تلك التي تذوقتها المرة السابقة.”
“حقًا؟”
“نعم، هل تناولت الغداء؟”
“أجل.”
أجاب ألفي مبتسمًا ببراءة وهو يومئ برأسه.
‘من المستبعد أنه أكل، لكن ملامحه لا تبدو كاذبة…..’
“ولكن ماذا عن جدتك؟ عليها أن تهتم بطعامها جيدًا.”
سألت بقلق، فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ أكثر دفئًا وهو يجيب،
“هي بخير، شكرًا لكِ. آه، وبالمناسبة..…”
ضمّ الفتى يديه أمامه بانضباط وانحنى قليلًا.
“شكرًا جزيلًا لإرسالكِ الطبيب إلينا.”
لكن من يستحق الشكر الحقيقي لم يكن أنا، بل ريكايل.
“لا يا ألفي، لم أكن أنا من استدعى السيد ماثياس. الذي كتب الرسالة إلى طبيب هامهين هو السيد أغريست، أي…..السيد الشاب.”
عندها أمال ألفي رأسه باستغراب
“لكن السيد الشاب قال أنكِ أنتِ من فعل ذلك، يا سيدتي.”
‘ها هو مجددًا…..يحاول تجنب الإحراج بالكذب بلطف.’
“حسنًا، لِنقل أننا كنا نريد الشيء نفسه. الأهم أن جدتكَ بخير الآن، وهذا ما يهم.”
فابتسم ألفي ابتسامةً مشرقة وتابع،
“وأيضًا أشكركِ كثيرًا على الطعام الذي أرسلتِه. لا أعلم كيف أرد هذا الجميل.”
“طعام؟”
“القمح والذرة…..البطاطس والفاكهة. لقد كانت الكمية هائلة.”
لم أكن أنا من فعل ذلك، إذًا فلا بد أنه…..
“أرى، يبدو أن السيد الشاب هو من أرسلها. لم أكن أعلم.”
“حقًا؟”
فاتسعت عينا ألفي بدهشة،
“هل قال السيد الشاب أنه من فعل ذلك؟”
“لم يقل، لكن على الأرجح هو.”
لم أكن بحاجةٍ لأن أراه لأتخيل وجه ذلك الرجل الجاف الطباع وهو يزور منزل ألفي—بملامحه الهادئة وكأنه يؤدي واجبًا.
“ألفي، ذلك الرجل..…”
تخيلت وجه ريكايل المهيب.
بشرته التي تلوح عليها مسحة من الكآبة، وتلك البرودة التي تخفي في عمقها قلبًا أكثر رقةً من أي أحد.
“هو فقط يجد صعوبة في التعبير، لكنه في الحقيقة شخصٌ طيب.”
شخصٌ طيب. لقد شعرت بذلك من قبل، وكنت أود قوله مرارًا.
نعم، ريكايل رجلٌ طيبٌ حقًا.
“إنه حقًا شخصٌ يستحق الامتنان. كنت أظنه يفعل كل ذلك مجبرًا لأنكِ طلبتِ منه، فحين جاء مع الطبيب لم يكن وجهه بشوشًا.”
ثم بدت على الفتى ملامح تذكرٍ مفاجئ، فسأل،
“وهل كان هو أيضًا من أرسل لي الملابس والأحذية؟”
“يبدو ذلك بالفعل.”
عندها فقط أدركت سبب تحسّن مظهر ألفي.
كنتُ أنا أيضًا قد شعرتُ بالأسى تجاه ملابسه القديمة الباهتة، لكني لم أتجاوز مرحلة التفكير، بينما ريكايل، في لحظةٍ ما، تكفّل حتى بملابس الصبي.
تلك الدقة في ملاحظته لم تكفّ عن إدهاشي.
“يا إلهي..…”
بدت على وجه ألفي ملامح امتنانٍ ممزوجة بالبكاء.
“ظننتُ أنكِ أنتِ من أرسلها يا سيدتي. لقد وضعها ورحل دون أن يقول شيئًا، فلم أتمكن حتى من شكره كما ينبغي.”
كانت ملامحه، والطريقة التي قال بها ذلك، تثير في نفسي رغبةً في الضحك والحنين معًا.
لكن ألفي لم يكن في مزاجٍ مشابه.
“أريد أن أفعل شيئًا، أي شيءٍ لأرد جميلكما. لا أجيد الكثير، لكن يمكنني العمل في هذا القصر!”
“لا يا ألفي، هذا غير ضروري.”
“لم أرتدِ ثيابًا جميلة كهذه من قبل، ولم أتلقَّ مثل هذه الطيبة والكرم أبدًا. سأفعل أي شيء من أجلكما!”
“ألفي..…”
ربّتُّ على كتف الصبي الذي كان صوته يرتجف من التأثر محاوِلةً تهدئته.
ثم خطر لي فجأة أمرٌ ما.
‘ربما ليس هذا وقتًا مناسبًا لطرح فكرة كهذه أمام طفلٍ يبكي…..لكن قد يكون هذا ما يخفف حمله قليلًا.’
“ألفي.”
وحين بدا أنه استعاد بعض الهدوء، تحدثت بلطفٍ متردد،
“إذاً…..هل يمكنكَ مساعدتنا بطريقةٍ أخرى؟”
***
بدت على وجه ألفي علامات التوتر.
كان عاجزًا عن صرف عينيه عن الحلويات الموضوعة على الطاولة، لكنه لم يمدّ يده نحوها. فالتقطتُ قطعة شوكولاتة وقدّمتها له.
“ليست لذيذةً بقدر ما تصنعه أنتَ، لكنها تستحق التذوق.”
“شكرًا لكِ.”
أخذ الصبي الشوكولاتة بأدب، ووضعها في فمه، وبدأ يمضغها ببطءٍ متردد.
وبينما كان يتذوقها، تبادلنا أنا وريكايل النظرات.
“ألفي، لا تشعر بأي ضغط، فقط أخبرنا بما تعرفه.”
كنا نريد معرفة أمرٍ من خلاله.
“أخبرنا عن (آمرويز)، كيف هو المكان؟ فقط ما تتذكره.”
“لكنني لا أعرف الكثير عن آمرويز…..غادرناه حين كنت صغيرًا جدًا.”
قال ذلك بابتسامةٍ محرجة وهو يخفض نظره.
“وجدتي لم تكن تحب الحديث عن مسقط رأسها.”
إجابته تلك جعلت اهتمامي يزداد بدل أن يخمد.
“لا بأس، فقط أخبرنا بأي شيءٍ تتذكره، حتى لو كان بسيطًا.”
صمت ألفي قليلًا وهو يغوص في التفكير، ثم تحدّث بصوتٍ خافت،
“عذرًا…..لا أظن أن لدي ما أخبركم به.”
خفض رأسه، وتردد في كلامه بطريقةٍ أوحت لي أنه لم يكن يجهل، بل كان يخشى البوح.
‘لقد مرّ ألفي بتجربة قاسية مع أهل القرية، فلا عجب إن كان يجد صعوبةً في الكلام معي الآن.’
لابد أن عقله يضجّ بالأفكار المتشابكة.
رغبةٌ في رد الجميل لمن أسدى إليه معروفًا، وخوفٌ من أن تغيّرنا الأسرار التي نبوح بها في نهاية المطاف، كان هذان الشعوران يتصارعان في داخله.
كانت تلك مشاعر ثقيلة ومربكة على فتى صغير أن يحتملها.
“حسنًا، لا بأس.”
حين بادرت بالقول ذلك، بدا على ألفي شيء من الدهشة.
“…….”
“لا أريد أن أُثقل عليكَ، فلا تلُم نفسكَ.”
قلت ذلك بلطف، فرفع ألفي رأسه على استحياء.
“أنا آسف.”
نظرتُ إلى ريكايل لبرهة، ثم عدت أسأله من جديد.
“قلت أنكَ لا تعرف حروف آمرويز، أليس كذلك؟”
تردّد الفتى قليلًا هذه المرة أيضًا، لكنه سرعان ما أجاب بصوتٍ حازم كمن اتخذ قراره.
“لست أجهلها تمامًا، جدّتي علّمتني القليل منها.”
“حقًا؟”
“نعم، لكن بعد أن ضعف بصرها، طلبت مني ألا أُظهر اهتمامًا بها بعد ذلك.”
نهض ريكايل بهدوء من مقعده، ووضع على الطاولة كتابًا سميكًا كنت قد جلبته من قلعة أغريست.
“قد يكون من الصعب قراءته كله، لكن هل يمكنكَ أن تطلعنا عليه قليلًا لأجلنا؟”
وبينما كنا نراقبه أنا وريكايل، بدأ ألفي يتصفح الكتاب. و راح يلمس الغلاف بوجه جاد،
“إنها فعلًا حروف آمرويز.”
انحنى الفتى بتركيز على الصفحات، وأخذ يمرر إصبعه باحثًا عن الكلمات التي يعرفها، لكن ما كان يستطيع قراءته قليٌ جدًا.
“لو كنت أعلم أن الأمر سيحدث، لتعلّمتها بجديةٍ أكثر من جدّتي.”
بدت على وجهه خيبةٌ واضحة.
“آسف، لم أكن ذا فائدة.”
أحزنني ردّه، لكنني لم أشأ أن أُظهر ذلك أمامه.
“لا بأس، شكرًا لأنكَ حاولت على الأقل.”
“ألفي.”
ثم ناداه ريكايل بنبرة هادئة وجادة.
“نعم؟”
“هل يمكنك أن تُشير إلى الحروف التي تعرفها فقط؟ واكتب تحتها نطقها.”
تناول ألفي القلم الذي قدّمه له ريكايل بملامح مترددة.
“نعم، يا سيدي الشاب.”
انهمك طويلًا في تصفّح الكتاب، يرسم دوائر حول الحروف التي يعرفها، ويكتب أصواتها.
‘لماذا يطلب منه هذا؟’
لكن الحروف التي كان يعرفها محدودة، ولم تكن تتصل ببعضها لتشكّل معنى.
وبعد فترة، وضع ألفي القلم جانبًا.
“أعتقد أن هذا كل ما أعرفه.”
“شكرًا لكَ.”
هزّ ألفي رأسه بأسف.
“آسف، لو كنت أعلم أن هذا سيحدث، لكنت درست بجدٍ أكبر.”
“لقد فعلتَ ما يكفي.”
جمعت ما تبقّى من الشوكولاتة والبسكويت وناولته إيّاها ليتناولها في طريقه.
وبينما كنتُ أتابع ابتعاده بنظري، اقترب مني ريكايل في هدوء، وفتح فمه ليقول شيئًا.
________________________
طيب وش فيها لو قال الشي ذاه وانتهى الفصل؟
المؤلفه تتنفس غموض
باقي تقريباً 31 فصل يمدي يمدي ينكشف كل شي ونشوف رخص😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 58"