ناديتُه بصوتٍ عالٍ كفايةً ليسمعه بوضوح، لكنه لم يلتفت. و كان يمشي بسرعةٍ جعلت اللحاق به شبه مستحيل.
يا لهذا الرجل…..
“كيف تخرج هكذا دون أن تقول شيئًا؟!”
صرختُ وأنا أُسرع الخطى للحاق به.
“ريكايل!”
عند سماع اسمه بهذه النبرة، توقف فجأة. بينما رأيت على شفتيه المغلقتين بإحكامٍ الغضب الذي كان يحاول جاهداً كبحه.
“انتظر، دعنا نتحدث قليلاً.”
كنا قد سمعنا للتو حديثًا لم نتوقعه مطلقًا.
كل ما أردناه كان مجرد تلميحٍ عن النقوش الغامضة، لمعرفة ما تحتويه الكتب القديمة. لكن أن ينتهي بنا الأمر بسماع صوتٍ يتحدث عن والده…..لم يكن في الحسبان إطلاقًا.
“هل أنتَ بخير؟”
لم أجد ما أقوله غير هذا السؤال الباهت.
“….…”
فرفع ريكايل يده الباردة ومسح بها شعره للخلف.
“بخير؟ تقولين بخير؟”
بدا وكأنه يحاول أن ينفض عن رأسه شيئًا ثقيلاً كالغضب أو الحزن.
“أنتَ الآن…..تبدو شديد الانفعال-”
“سؤالٌ غريب، فأنا الآن في غاية الهدوء.”
ماذا؟ أي هدوءٍ هذا؟
كان صوته هادئًا بينما تجمد وجهه بجمودٍ قاسٍ يناقض كلماته تمامًا.
“حسنًا، طالما أنكَ بخير كما تقول، فلنتحدث إذاً.”
تنفستُ بعمق قبل أن أتابع.
“لكن لن تتجاهل ما سمعناه، أليس كذلك؟”
“عن أي شيءٍ تتحدثين؟”
“قالت أن الدوق ربما ما زال على قيد الحياة.”
ظهر شقٌ رفيع من التوتر بين حاجبيه رغم محاولته التظاهر بالتماسك.
“هراء. مجرد كلامٍ فارغ. إضاعة وقتٍ في الاستماع إلى هذيانٍ كهذا.”
ابتسم بسخرية وهو ينظر إليّ نظرةً حادة، كأنه ينتظر أن أؤيده فيما يقول.
“لا تقصدين أنكِ تصدقين ذلك، أليس كذلك الآنسة سوبيل؟”
“وهل رأيي مهمٌ في هذا؟”
كان بإمكاني أن أقول ما يُريح قلبه، أن أوافقه فقط ليهدأ، لكن ذلك لن يحل شيئًا.
فقد كنت أريده أن يواجه الحقيقة بنفسه، لا أن يهرب منها.
“السيد أغريست، هل تعتقد حقًا أن كل ما قيل مجرد هراء؟”
بينما كان يحاول غلق فمه مجددًا بعد أن فتحه ليتكلم، تابعتُ حديثي.
“نحن لم نقل شيئًا هناك.”
“….…”
“لم نذكر من نحن، ولا ما مررنا به، ولا أي شيء.”
“وماذا في ذلك؟”
“هذا يعني أن ما سمعناه لا يمكن تجاهله. لا أدري إلى أي مدى يمكن تصديقه، لكن تجاهله بهذه البساطة خطأٌ كبير.”
في الواقع، كنت قد شعرت بشيءٍ غريب منذ اللحظة التي تبعنا فيها ألفي إلى داخل ذلك المنزل.
كان الجو غامضًا ومظلمًا على نحوٍ لا يمكن وصفه، ولم أستطع أن أنسى الإحساس الغريب الذي راودني حين لامستُ يدَ العجوز.
‘ربما تكون امرأةً مهمة في هذا العالم…..أو لعلها عرّافة.’
في عالمٍ تتحول فيه الدرجات إلى ماء، هل يُستغرب وجودُ عجوزٍ ذات بصيرة؟
لكن، حين أتذكر ما قالته لي، لا أنكر أن الخوف تسلل إلى قلبي أيضًا. كنت أريد تجاهل الأمر…..و الهرب منه إن استطعت.
‘وإلا…..ستفقدين شخصًا عزيزًا عليكِ.’
كنتُ قد قررت ألا أُخبر ريكايل بتلك الجملة. فهذا الأمر…..عليّ أنا وحدي أن أواجهه.
“السيد أغريست، هل تسمعني؟”
لكن ريكايل لم يُجب، واكتفى بابتسامةٍ ساخرةٍ مائلة على طرف شفتيه.
“كلماتٌ غامضة كهذه، يمكن لأي شخصٍ أن يقولها.”
ثم بدأ صوته يعلو شيئًا فشيئًا، يغلي بالغضب المكبوت.
“قالت أنها ترى أرضًا واسعة؟ لكنها لا تعرف أين؟! انظري جيدًا، أليست هذه الأرض نفسها التي تتحدث عنها تلك العجوز؟”
“لكن—”
“مجرد كلماتٍ منمقة لتخدع الناس.”
“السيد أغريست.”
“رغبةٌ حارقة؟ عاطفة؟ هراء! لا وجود لتلك الأشياء أساسًا!”
كنت أعرف تمامًا ما الذي يجعله يثور هكذا. إنها جراحه القديمة…..ذكريات والده المؤلمة، ذلك الرجل الذي لم يبرأ من أثره قط.
ذلك الاسم وحده كفيلٌ بأن ينبش كل ما حاول دفنه طويلاً.
وقفت صامتة، أستقبل انفعاله دون أن أقاطعه. و ربما لم يكن غضبه موجّهًا نحوي، بل كان يحاول فقط إخراج كل ما يكتمه داخله، لئلا ينفجر على أحدٍ آخر.
“هاه…..”
زفر بعمق، بينما فكّرتُ أن تركه يغرق في هذا الغضب لن يؤدي إلا لأن يلتهم نفسه.
“كلماتها لم تكن فارغةً يا أغريست. ما قالته كان أثقل من أن يُتجاهل. أنتَ وأنا نطارد أثر شخصٍ يمارس علينا تأثيرًا يفوق الأحياء أنفسهم.”
ولا أحد يعلم ما الذي ينتظرنا في نهاية هذا الطريق.
لذلك، لا يجب ألا نفقد أي خيطٍ، ولو كان ضعيفًا. لا يجوز أن نمرّ على الأمر مرور الكرام.
“أنا لا أظن ما قالته مجرد هراء، بل أؤمن أنه علينا أن نصغي جيدًا إليها.”
لم يُجب ريكايل، بل اكتفى بالتحديق بي نظرةٍ عميقة أربكتني، لكنني لم أشيح بنظري.
“إذاً، كفى تمردًا وعنادًا.”
“ماذا؟”
“أتظن أن الذكريات المؤلمة تخصكَ وحدكَ؟ الحياة كلها مؤلمة بطبيعتها. هل تصرخ فقط لتختفي مشاكلكَ؟”
“….…”
“كن ناضجًا وتقبّل ما كان. واجهه، ثم افعل ما تشاء، حتى لو أردت أن تبيع ذلك القصر اللعين!”
توقفت عن الكلام، لكن قلبي كان ينبض بعنفٍ كما لو أنني ركضت لمسافةٍ طويلة.
رفعت بصري إليه بصمتٍ، أتنفس بعمق وأنا أراقب القلق في عينيه يهدأ تدريجيًا. و بعد لحظةٍ طويلة، تكلم أخيرًا بصوتٍ خافت،
“بما عليّ أن أواجهه بالضبط؟”
فأجبتُه بهدوءٍ مماثل،
“أنت تكره والدكَ، أليس كذلك؟ لكنكَ الآن متزعزعٌ لأن هناك احتمالًا أن ما كنت تؤمن به لم يكن الحقيقة أصلًا.”
تجعدت ملامحه، لكن غضبه هذه المرة كان أكثر اتزانًا.
كان تاريخ الدوق فيسفندر أغريست دائم الغموض، تحيط به علامات استفهام لا تنتهي.
ربما إن اقتربنا من فهم مشاعره الحقيقية، سنقترب نحن أيضًا من الحقيقة التي نبحث عنها منذ البداية.
“لكن العالم الذي أعرفه..…”
“….…”
“لا يملؤه سوى آثارٍ تدل على أن أبي كان يكرهني. فهل عليّ الآن أن أصدق كلام عجوزٍ لا نعرف حتى من تكون، وأبدأ بحبّه؟”
“السيد أغريست.”
“هل هذا ما تقصدينه بقولكِ أن علينا الاقتراب من الحقيقة؟”
هززت رأسي ببطءٍ نافية.
و كنت أعلم أنه، أياً كانت الكلمات التي سأقولها، فلن أستطيع تهدئة اضطراب قلبه.
“أنا فقط…..أريد أن أصدق أن الدوق كان يريد حمايتكَ.”
لم يكن ذلك إيمانًا أعمى، بل رغبةً في ألا يغرق هذا الرجل المسكين أكثر في حزنه، وألا يستمر اضطرابه إلى ما لا نهاية.
كنت فقط أرجو أن يجد بعض السكينة أخيرًا.
حينها رفع ريكايل عينيه المبللتين قليلًا ونظر إليّ.
“ولِمَ ذلك؟”
“لأن..…”
لأنني لا أريد أن ترافقكَ المعاناة بعد الآن. لكنني لم أرد أن أقول شيئًا عاطفيًا كهذا بصوتٍ مرتجف.
“لأنكَ إن فعلت ذلك، فستبيع قصر أغريست وتستعيد حياتكَ الهادئة من جديد.”
حدّق بي بنظرة فارغة للحظات، ثم أخيرًا انفرج وجهه عن ملامح أكثر راحة. و عادت إلى عينيه تلك النظرة الهادئة التي اعتدتُ عليها، النظرة التي تشبه غروب يومٍ طويل.
وبينما سكن التوتر بيننا، هبّت نسمةٌ باردة خففت من ثقل اللحظة. عندها تمامًا، صعد ألفي التلّ وبدت على وجهه الدهشة حين رآنا.
“آه؟”
كان يحمل سلةً كبيرة بين ذراعيه، وأسرع نحونا بخفةٍ طفولية.
“هل سترحلان بالفعل؟”
كان وجهه مضيئًا ببساطةٍ بريئة، كأنه لا يشعر بثقل ما يحمِله. فابتسمت وأنا أنظر إلى ما في السلة.
“يا إلهي، يبدو أنكم تحتاجون إلى الكثير من المكونات لصنعها كلها.”
“منذ أن بدأت تفقد بصرها، أصبحت تقول أشياء غريبة من حينٍ لآخر.”
وما إن قال ذلك، حتى تقدم ريكايل خطوةً نحونا وسأل بصوتٍ حذرٍ لكنه حادّ،
“كلماتٍ غريبة؟ ماذا تقصد بذلك تحديدًا؟”
__________________________
يضحك توها تقنعه ان كلامها صدق جا ذاه يقول لوء بكل براءه😭
المهم ليتها طبطبت عليها ولا راسه ولا ضماه اي شي يختي
بعدين ليتها علمته انها ماتبي تفقده مره ثانيه شفيها يعني😔
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 50"