كذب ريكايل بمهارة ثم ابتسم ابتسامةً خفيفة. و بدا منظره عبثيًا لدرجة أنني وخزته في خصره.
“منذ متى أصبحتُ زوجتكَ؟”
“يبدو أنكِ نسيتي، فأنتِ خطيبتي.”
“ماذا تقول؟ لسنا حتى مخطوبين حقًا.”
عندها رفع ريكايل حاجبيه قليلًا و ردّ بنبرةٍ هادئة،
“ولِمَ تظنين ذلك؟”
“ألم نتحدث عن هذا الموضوع من قبل؟”
“الوقت الحاضر هو ما يهم.”
تمتم بنغمة ماكرة، فيها قليلٌ من العبث الواثق،
“أليس المهم هو كيف يرانا الناس؟”
حدّقتُ فيه بعينين ضيقتين بنظرة حادة.
وبينما كنتُ أحدّق فيه، تقدّمت امرأةٌ تحمل بعض الأشرطة الملوّنة ومدّت لنا إحداها.
“أظن أن هذا الشريط الأصفر يليق تمامًا بلون شعر السيدة الأنيق.”
“سآخذ هذا.”
أجابها فوراً، ومع ذلك لم يرفع عينيه عن بقية الأشرطة المعروضة على الطاولة.
ويبدو أن البائعة فهمت ما يدور في رأسه، فسارعت لتشرح،
“وهذا الشريط الأزرق أيضًا سيكون جميلًا في مثل هذا اليوم المشمس.”
“أحضريه أيضًا.”
قال ذلك ببساطة. فحاولت البائعة كتم فرحتها وهي تتابع الحديث،
“لكن في الأيام المميّزة، لا شيء يضاهي الشريط الأحمر. سيجعل عيني السيدة البنفسجيتين أكثر بريقًا.”
“أحضري ذلك أيضًا.”
عندها أمسكتُ بذراعه لأوقفه.
“أنت لا تنوي شراء كل ما هنا، أليس كذلك؟”
“من يدري.”
أجاب بوجه جاد وكأنه يفكر فعلاً بالأمر.
“يكفي إلى هذا الحد.”
“لكن أظن أن جميعها تليق بكِ.”
كلماته أعادت إلى ذهني ذلك اليوم البعيد حين اشترى كامل فساتين أحد المتاجر دون تردد. و مقارنةً بذلك، كان ما يفعله الآن تسوقًا متواضعًا جدًا.
وفجأة، رفع رأسه وكأن فكرةً خطرت له.
“آه، لم أفكر بهذا.”
“……بماذا؟”
“الطريقة الوحيدة لمعرفة أيها يليق بكِ أكثر هي أن نجربها مباشرة.”
ثم مدّ نحوي الشريط وعيناه تتلألآن ببريقٍ مشاغب. وانضمت البائعة إلى لعبته، مطبقةً كفيها بحماس،
“سيدتي، جربي وضعها على شعركِ، أشرطتنا ناعمةٌ جدًا ولها ملمسٌ رائع.”
“نعم، تبدو جميلةً حقًا.”
أجبتها بارتباك وأنا أبحث عن مخرج، لكن البائعة تابعت بلطف،
“إن لم يكن يضايقكِ، هل يمكنني أن أربطها لكِ بنفسي؟”
ثم خرجت من خلف الطاولة وبدأت تلمس شعري بخفة واحتراف. و بمهارة أنيقة رتّبت خصالي وأمالتها بلطف، ثم ربطت الشريط الأحمر بعناية خلف رأسي.
“ما رأيك الآن؟”
كانت قد جدلت شعري إلى ضفيرتين على الجانبين وربطتهما بالشريط، فشعرت بنسيم يلامس عنقي وإحساس منعش بالخفّة.
“جميلٌ فعلًا، لديكِ يدٌ ماهرة.”
رفعت نظري خلسةً نحو ريكايل، فرأيته يهز رأسه بهدوء دون أي تعبيرٍ يُذكر.
“ليس سيئًا.”
“أهذا كل ما لديكَ لتقوله؟”
“وماذا بعد؟”
تجاهل سؤالي تمامًا، ثم مدّ يده إلى البائعة بحفنة من الأشرطة.
“سآخذها جميعًا.”
فأشرقت ملامح البائعة بسعادة وانحنت مرارًا شاكرة.
“شكرًا جزيلًا، سيدي. غدًا سأعرض بعض القفازات الجديدة، أتمنى أن تمرّا مجددًا.”
ظلت تنحني لهنا امتنانًا حتى غادرنا، تاركين خلفنا الطاولة الفارغة، وأنا أحمل في يدي حفنةً من الأشرطة.
“أشعر وكأنني أصبحت بائعة أشرطة.”
“وهل وُجدت بائعة أشرطة أجمل منكِ؟”
قال ذلك بلا اكتراث وهو يتقدّم إلى الأمام، فبادرت إلى الإسراع للحاق به.
“لماذا تسبقني هكذا؟ ماذا لو ضعت عنكَ؟”
تمتمتُ متذمرة وأنا أرفع نظري إلى ريكايل، فإذا بأذنيه قد احمرّتا تمامًا.
كتمت ضحكتي بصعوبة حتى لا تنفجر منّي، فقد بدا المشهد طريفًا جدًا.
‘ما هذا؟ إنه لطيفٌ حقًا.’
رؤيته يسير أمامي متجاهلًا كل شيء وأذناه متوهجتان بتلك الحمرة جعلتني أرغب في مداعبته قليلًا.
“ريكايل.”
و ما إن نطقت اسمه حتى توقف في مكانه كما توقعت، ثم استدار نحوي ببطء.
فسألته ببرودٍ مصطنع وكأن شيئًا لم يحدث،
“هل أنتَ مريض؟”
“ماذا؟”
“أذناك حمراوان جدًا، هل ربما اصبتَ بالحمى بشيء؟”
بينما أواصل الكلام رأيت حاجبيه يرتعشان قليلًا. و لم يقل شيئًا، لكن ارتباكه كان واضحًا.
“إذا كنتَ متعبًا، يمكننا العودة إلى المنزل، ما رأيكَ؟”
أخذ نفسًا عميقًا وأعاد ملامحه إلى هدوئها، ثم غيّر الموضوع فجأة.
“ألا تشعرين بالجوع؟”
“هكذا فجأة؟”
“انظري هناك، يبدو أنهم يبيعون شيئًا.”
ثم استدار على الفور ومضى بخطواتٍ سريعة نحو الجهة الأخرى.
كان يمشي بسرعةٍ وكأنه يهرب من شيء، ومنظره ذاك من الخلف كان يبعث على الضحك والسرور.
“انتظرني! أنا قادمة!”
واصلنا السير معًا، وكلما لفت شيءٌ أنظارنا توقفنا قليلًا نتأمله. و اشترينا عدة كتبٍ جميلة الأغلفة، وأوراقًا ناعمة الملمس، وأقلامًا بأشكال لم أر مثلها من قبل.
وبينما كنا نتابع السير، بدأت رائحةٌ شهية تعبق في الهواء قرب الساحة.
انجذبنا إلى الرائحة الغنية والعذبة التي تنبعث من هناك، فوجدنا جمعًا من الناس متجمّعين حول أكشاك الطعام.
“ما رأيكِ أن نتناول شيئًا قبل أن نعود؟”
“فكرةٌ جيدة.”
كانت رائحة الخبز الطازج تفوح في المكان، والفواكه الزاهية الألوان معروضةٌ في كل اتجاه.
“لا أستطيع أن أقرر ماذا أتناول أولًا.”
كنت أتلفت هنا وهناك محتارة، حين لفت نظري فتى صغير يقف في زاويةٍ بالكاد تُعتبر مكان عرض.
‘ماذا يبيع يا ترى؟’
كانت على طاولته الخشبية الصغيرة قطعٌ تشبه الحلوى، لكن أكثر ما جذب انتباهي كان مظهره البائس.
كان يرتدي ثيابًا قديمةً بالية، وحذاءً يبدو أكبر من مقاس قدميه.
“ما رأيكَ أن نجرب ما يبيعه ذلك الفتى؟”
لم أنتظر ردّ ريكايل، وسرت نحوه مباشرة. وحين اقتربت أكثر، بدا الفتى أكثر فقرًا مما ظننته.
“كم سعر هذا؟”
و ما إن سألته حتى اعتدل في جلسته وفتح عينيه على اتساعهما.
“هل…..هل تنوين شراءه حقًا؟”
“ألستَ تبيعه؟”
سألت بتردد خشية أن أكون أخطأت، فهزّ رأسه بسرعة.
“لا، أنا أبيعها فعلًا، لكن.…”
ثم راح ينظر إليّ من طرف عينه، مترددًا.
“هل حقًا تريدين الشراء؟”
“نعم، إذا سمحتَ لي.”
رفع كتفيه بخفة وردّ بصوتٍ خافت،
“القطعة الواحدة بسعر فِلسَين.”
تأملت ما يبيعه أكثر، فبدا كأنه مكعّباتٌ صغيرة مصنوعة من مكسرات مجففة متماسكة مع العسل.
“هل أنتِ من هذه المدينة؟”
“يمكن القول أنني لستُ من هنا تمامًا.”
أخذ الفتى قطعةً وقدّمها لي،
“تذوقي واحدةً أولًا. جدّتي تصنعها بطريقةٍ سرية خاصة.”
وضعت القطعة في فمي، كانت لزجة بعض الشيء وحلوة الطعم، وكلما مضغتها أكثر شعرت بملمسٍ مميز وغريب.
كان الطعم مختلفًا تمامًا عما توقعت، فارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ عفوية.
“ممم…..لذيذةٌ جدًا.”
“أليس كذلك؟”
هذه المرة، قدّم الفتى قطعة حلوى إلى ريكايل بلطف،
“سيدي، تفضّل وجرّب واحدةً أيضًا.”
راودتني فكرة أن أشتري كميةً كبيرة من هذه الحلوى لأعطيها لإيريسون والخادمات، فحجمها صغيرٌ وطعمها شهيٌ جدًا.
فاقتربتُ من ريكايل وهمست له بخفة،
“أفكر في شراءها كلها.”
فتوقّف ريكايل، وقد همّ بوضع قطعةٍ في فمه، ثم التفت إليّ ببطء.
“ماذا قلتِ؟”
ثم أمسك بخفة بكتفي وأدارني نحوه، مائلًا رأسه قليلًا حتى صار صوته قريبًا من أذني وهو يتمتم بجدية،
“إن لم تكوني تنوين المجيء كل يوم وشراءها كلها منه، فمن الأفضل ألا تبدي مثل هذا التعاطف أصلاً.”
عقدتُ حاجبيّ بدهشة من كلماته غير المتوقعة.
“ماذا تعني بذلك؟”
“الصدقات السطحية والشفقة العابرة لا تمنح إلا أملاً زائفًا سرعان ما يتحطم.”
“….…”
لم يكن كلامه خاطئًا تمامًا. ففي الواقع، لم يكن السبب في رغبتي بالشراء هو طعم الحلوى بقدر ما كان شعور الشفقة تجاه الفتى ورغبتي في مساعدته.
لكن مع ذلك، وصفه لما أشعر به بأنه مجرد صدقةٍ رخيصة أو شفقة أزعجني.
“لماذا أنتَ متشائمٌ إلى هذا الحد؟”
خاطبته بصوتٍ منخفض، فأجابني ببرودٍ معتاد،
“لستُ متشائمًا، هذه هي طبيعة العالم. المساعدة العشوائية لا تعلّم الناس الاعتماد على أنفسهم، بل تسلبهم القدرة على الوقوف مجددًا.”
لم أجد ردًا سريعًا هذه المرة، فقد بدا أنني أفهم تمامًا ما يقصده حين تحدث عن منطق العالم هذا.
ومع ذلك، لم أستطع الاقتناع بأن تجاهل المحتاجين هو الحل الصحيح.
“أنا وريثة عائلة أغريست، تعلم هذا جيدًا. إن أردتُ، أستطيع أن أغيّر مصير إنسان كامل بقرار واحد فقط.”
لاحظت شرخًا طفيفًا في تعبيرات وجهه، فرفعت رأسي بفخر وأنا أتابع،
“ألستَ توافقني الرأي؟”
ابتسم ريكايل بخفة، ثم انحنى قليلًا في حركة مسرحية أشبه بانحناءة احترامٍ مازحة.
فاستدرت بعدها نحو الفتى الذي بدا خائفًا بعدما طال حديثنا، وكان يضمّ يديه الصغيرتين أمام صدره.
“أريد شراءها كلها، كم المبلغ؟”
فاتسعت عينا الفتى من المفاجأة وسأل بتردد،
“تريدين شراءها كلها؟ حقًا؟”
“نعم.”
بلع ريقه بصوتٍ مسموع، ثم بدأ يعدّ بسرعة على أصابعه.
“السعر الإجمالي ستة وأربعون فلسًا، لكن يمكنكِ دفع أربعين فقط.”
‘إذاً ليست هذه أول مرة يبيع فيها هنا، فهو يعرف كيف يتعامل مع الزبائن.’
ناولته المال، فتلقّاه بكلتا يديه ثم أخرج من جيبه الصغير كيسًا قماشيًا ملونًا عليه تطريزٌ جميل جذب بصري على الفور.
كان مصنوعًا من نفس نوع القماش الذي يرتديه تقريبًا، ويبدو أنه خيطه بنفسه بعناية.
‘همم؟’
لكن كان هناك سببٌ آخر جعلني لا أستطيع أن أشيح نظري عن ذلك الكيس الصغير.
_______________________
ايريسون قال لها ترا لطفهم الزايد مب زين مادرا انها هي لطفها الزايد تـء😂
المهم ريكايل يجنن استحى بعد مامدحها هو؟😭😭😭😭🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 47"