كانت فكرةً جيدة، لكني تساءلت هل ستنجح حقاً. فاعترضت على رأيه.
“لكن الخط مختلف.”
وفوق ذلك، بيتمن محامٍ. فإذا كان التحقق من صحة الوصية قد تطلّب إجراءاتٍ معقدة ودقيقة، فهل سيُخدع بسهولةٍ برسالة مزوّرة؟
“الخط يمكن تقليده.”
قال ريكايل ذلك بملامح واثقة بشكلٍ غريب.
“لكن السيد بيتمن رأى خط الدوق فيسفندر مراتٍ عديدة، قد يكتشف الأمر بسرعة.”
عندها عقد ريكايل ذراعيه وردّ بصوتٍ متعالٍ،
“كنتُ دائماً أنوب عن والدي في غيابه.”
“…….”
“لذلك لا مشكلة.”
لكن كان في حديثنا ثغرةٌ واضحة.
“سيد أغريست، الدوق فيسفندر توفي. فحتى لو وصلت رسالةٌ باسم مستعار كان يستخدمه في حياته، هل سيتحرك السيد ييتمن فعلاً؟”
بل قد يثير ذلك ريبةً لديه. فلن يأخذ رسالة من ميت على محمل الجد. و قد يظنها مجرد مزحة ويمضي عنها.
لكن ريكايل بدا غير آبهٍ لذلك،
“سواءً رآها غريبةً فردّ عليها أو تجاهلها، في كلتا الحالتين سنحصل على شيء.”
“…….”
“عندها سنعرف إلى أي حدٍ كان مطّلعاً.”
أومأت برأسي ببطء، فأكمل ريكايل،
“وإن جاءنا رد، فهذا يعني أن بيتمن يعرف أكثر مما كنا نتوقع.”
“لكن ماذا عن التوقيع؟”
فنحن لا نعرف توقيع ديون برايت، بل نعرف فقط الاسم المستعار الذي كان الدوق يستخدمه.
“لا بد أن في الدير رسالةً قديمة تحمل توقيعه.”
تمتم بعينين باردتين،
“وسنجد وسيلةً للحصول عليها.”
لم يفسر أكثر، لكنني أدركت أنه سيستعين بكويل. فكويل كان دوماً من يتولى هذه المهمات المزعجة والصعبة.
وبينما كنا نتحدث، خطر لي سؤال. لقد قال أنه كثيراً ما كان ينوب عن والده في غيابه، وهذا بدا لي غريباً.
‘لكن أليس ريكايل قد غادر قصر أغريست بعد بلوغه؟’
بطبيعة الحال لم أستطع أن أسأله بهذه الصراحة، فسألتُ بدلاً من ذلك،
“كيف كان الدوق فيسفندر شخصاً؟”
حاولت أن أستدرجه بكلام مناسب. لكن ربما لم يكن سؤالي موفقاً. فقد أطبق شفتيه ولم يجب.
‘…..هل أخطأت بطرحي لهذا السؤال؟’
طال صمته حتى شعرت بالارتباك، قبل أن يفتح فمه أخيراً.
“أبي كان.”
ثم تابع بهدوء،
“مشغولٌ دائماً.”
كانت كلماته الأولى مفاجئة.
“لم يكن انشغاله بأمور الإقطاع، ومع ذلك نال محبة الناس، لأنه كان طيباً ورحيماً معهم.”
اختفت منذ زمن بعيد السكينة والابتسامة من وجهه. لكن لم يكن قصدي أن أثير حزنه.
“أعتذر.”
شعرتُ أنني قلت شيئاً لا داعي له. لكنه رسم ابتسامةً متكلّفة على وجهه الجامد.
“ذكرياتي مع والدي أنه كان غالباً خارج القصر. يقصد الأماكن الوعرة، ويرتحل إلى أماكن لم تطأها أقدام البشر.”
كنت قد سمعت بهذا من قبل. فالكتب وصفت الدوق فيسفندر برجلٍ غريب الأطوار، له هواياتٌ شاذة.
فآثرت الصمت دون أن أعلّق أو أومئ برأسي.
“لذلك، عندما سمعت أنه مات في جبل رودوس، لم أتفاجأ كثيراً.”
“سيد أغريست.”
تجمدت في مكاني.
“أنا آسفة حقاً…..كان عليّ ألا أطرح مثل هذا السؤال.”
غطيت وجهي بكفي، فتحدّث ريكايل مجدداً،
“لماذا تعتذرين؟ موت والدي ليس ذنبكِ.”
“لكن…..أنا من أثرت موضوع الدوق، فربما أزعجتكَ.”
غير أن ريكايل هز رأسه.
“وفاة والدي أمرٌ مؤسف، نعم. لكن علاقتنا لم تكن وثيقةً إلى حد أن أستسلم للعاطفة أو الحزن. فلا داعي لأن تشعري بالذنب.”
يا للمفارقة، كانت تلك الكلمات أشد وقعاً وأقسى من أي حزن.
“إذاً، ما قصدكَ بقولكَ أنكَ كنتَ تنوب عن والدكَ؟”
“آه.”
عندها فقط بدا ريكايل وكأنه فهم سبب طرحي لهذه الأسئلة.
“منذ طفولتي كنت أوقّع باسمه كلما غاب أبي.”
“هكذا إذاً.”
“لكن المضحك أنني بعد أن بلغت لم أعد أعيش في القصر معه، فلم يحدث ذلك مجدداً.”
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ باهتة.
كنت أعلم أنها مجرد ابتسامةٍ زائفة لإخفاء مشاعره، ومع ذلك سررت لأن ملامحه انفرجت أخيراً.
“ربما….”
وفجأة خطرت لي فكرة.
عن أسباب تجوال الدوق فيسفندر خارج القصر. فهو بلا شك كان يعرف عن القصر أكثر مما نعرفه أنا وريكايل.
لقد كدتُ أهرب بعد قضاء وقتٍ قصير فيه، فما باله هو؟
“ألا يمكن أن يكون الدوق نفسه خائفاً من البقاء في القصر؟”
قلتُ ذلك لأني رأيته احتمالاً معقولاً، لكن ريكايل هز رأسه بحزم.
“لا أريد الدفاع عنه، لكن هذا ليس صحيحاً.”
“…….”
“لو كان خائفاً لآثر مكاناً آمناً، لا أن يتعمد الذهاب إلى أخطر الأماكن.”
أومأت موافقةً. حقاً، لو كان فراره بدافع الخوف، لما اختار مواطن الخطر بقدميه.
والحقيقة أن أخطر مكان كان بيته نفسه.
‘فهل يا ترى كانت والدة ريكايل تعلم بالأمر أيضاً؟’
ألقيت عليه نظرةً جانبية، وكان بصره قد غاص في شيء من الحزن، ربما لاسترجاع الماضي، أو لحديثنا عن والده.
‘حتى أمارنتا كانت تعرف.’
أمارنتا، والدته، بنت خارج القصر دفيئةً ضخمة مملوءة بالزهور النادرة، ولم تسمح لأحد بدخولها كيفما اتفق.
“كانت الدفيئة كل شيء عند سيدتي. رحلت عن هذا المكان بلا تردد، لكن ربما ظل قلبها يحنّ إليها.”
“إذاً كانت تحبها.”
“لا…..في الحقيقة لم تكن سيدةً لطيفة. لكنها جاءت من مكان بعيد مدفوعة بقلب يحب، فإذا انهار ذلك القلب، ألن يشعر أي إنسانٍ بالمثل؟”
كلما استعدت ذلك الحوار، ازددت يقيناً بأن أمارانتا هي الأخرى كانت تعلم.
ربما لم تر ما رأيته أنا، لكن لا بد أنها شعرت أن ثمة شيئاً مريباً، ولذلك شيّدت ملاذها الوحيد بعيداً عن القصر.
“فيما شردتِ تفكرين هكذا؟”
أيقظني صوت ريكايل من غمرة الشرود.
“لا شيء، مجرد أفكار.”
“هل تفكرين هذه المرة في أمي؟”
كِدت أنفي ذلك، لكن ابتسامته أوقفتني.
“لا أرغب بذكر من سبّب لكَ الألم. سواءً علمت أو لم تعلم، سواء عاشت بخيرٍ أو بسوء…..والأفضل لو كان سوءاً.”
فانفجر هو بضحكةٍ قصيرة.
“هل عليّ أن أشكركِ على ذلك؟”
“بالطبع. اشكرني.”
كنت أترقب أن يسخر أو يُظهر الدهشة، لكنه لم يقل شيئاً. كل ما هنالك أن عينَيه الزرقاوين الجميلتين كانتا تملآنني بنظرةٍ صامتة.
***
حين ارتفع القمر بلونه المحمّر فوق المروج عند الأفق، وصلنا إلى القصر. و استقبلنا إيريسون بوجهٍ ودود.
“هل كان وقتكما ممتعاً؟”
لم أستطع أن أجيبه مباشرة. فالوقت لم يكن ممتعاً حقاً. لكنه لم يخلُ من فائدة، لذا يمكن وصفه بالوقت المثمر.
“على الطريق كانت زهور الكوزموس متفتحةً بجمال، وقد أضفت على الرحلة بهجة.”
“سعيدٌ لسماع ذلك. هل تحبين الزهور؟”
“نعم.”
“أيمكن أن أسألكِ أي الزهور تفضلين؟”
لم أكن أعرف أسماءها جيداً، فوجدت صعوبةً في الجواب.
“هممم…..أظن أنني أحب كل الزهور، الصفراء والبيضاء والحمراء جميعها.”
فابتسم إيريسون بعينيه وسألني،
“حسناً، آنسة سوبيل، سأحرص من الآن على أن أجهز زهوراً أجمل لكِ.”
“شكراً جزيلاً. هذا لطفٌ منكَ.”
وبعد أن انسحب، جلستٌ مع ريكايل على المائدة لنتناول العشاء.
كان الطعام بسيطاً كما في الأمس، لكنه مرتبٌ ولذيذ. غير أن ملامح ريكايل كانت متجهمةً بعض الشيء.
“ألستَ راضياً عن الطعام؟”
“لا يعجبني.”
نظرت إليه باستغراب، كأن طفلاً يتدلل أمامي، لكنه ظل عابس الوجه.
“أي صنف تقصد؟”
“كلها.”
ثم غرز شوكته في قطعة خبز طريّة بقوة.
‘ما به هذا؟ هل هو متعب؟’
_________________________
شكله يحسب عنده مرض قلب 😘
المهم الدوق زفت حتى لو زوج ريكايل ركلاريتا وامارنتا زفته بس احسني راحمتها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 45"