“سيدتي الراهبة، سمعت أن أمي توفيت وأنا في الخامسة…..هل هذا صحيح؟”
كنت أظن أنني بعد ذلك تنقلت بين بيوت الأقارب، إلى أن انتهى بي المطاف في هاينز.
لكن ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟
“كلاريتا..…”
تنهدت ميرلين وهي تنطق باسمي.
“نعم، يا أختي.”
“هل بدأتِ تتذكرين شيئاً؟”
استغربت سؤالها. فأنا لم أفقد ذاكرتي من طفولتي إلا لأنني أحيا الآن في جسد كلاريتا سوبيل.
لكن كيف عرفت ميرلين أنني لا أذكر ماضيِّ؟
“ماذا تقصدين..…؟”
ترددتُ وأنا أسأل، بينما هي تلمست وجهها بتعب.
“لو أن الراهبة الرئيسة ما زالت بيننا..…”
ثم واصلت بصوت أكثر هدوءاً،
“كلاريتا، في الحقيقة أنا أيضاً لا أعرف التفاصيل كلها. كنتُ صغيرةً حينها، ولم أكن المسؤولة المباشرة عن الملجأ.”
توترت، لأنني لم أستطع توقع ما قد تقول بعدها.
“لكنني أعلم أن الراهبة الرئيسة كانت تحمل لكِ قلقاً دائماً، ولم تنسَكِ قط حتى بعد مغادرتكِ.”
“لا أفهم…..ماذا تعنين؟”
“حين كنتِ طفلةً صغيرة، توقفتِ فجأة عن تذكر أمكِ تماماً.”
كلماتها غير المتوقعة جعلتني ألتفت إلى ريكايل. و هو أيضاً بدا مشوشاً، يقطب حاجبيه وكأنه لم يستوعب.
“لا أفهم قصدكِ.”
“كنتِ تنامين كل ليلةٍ محتضنة دميتكِ، ثم في يومٍ ما تركتها جانباً، وكأن أمكِ لم تكن موجودةً من الأساس.”
أغمضت عينيها للحظة، ثم فتحتها متابعة،
“الراهبة الرئيسة قالت أن الصدمة من تخلِّي أمكِ عنكِ كانت قاسيةً جداً…..حتى صنعتِ لنفسكِ وسيلةً خاصة لحماية ذاتكِ.”
وبينما كانت كلماتها تتردد في أذني، تذكرت ما سمعته في عالمي السابق،
‘من الطبيعي أن يلجأ البعض إلى آلياتٍ دفاعية للهروب، قد يصل الأمر أحياناً إلى صنع شخصيةٍ أخرى لحماية النفس من مأساة أو عنفٍ شديد.’
هل هذا ما فعلته كلاريتا الصغيرة؟ هل محَت وجود أمها من ذاكرتها تماماً لأنها رأت نفسها متروكة؟
كم بدا ذلك مؤلماً.
وبينما لزمتُ الصمت بوجه شاحب، تابعت ميرلين،
“كنتِ في الخامسة فقط، يا كلاريتا.”
“…….”
“كنتِ تقولين أن أمكِ رحلت إلى السماء، وأنكِ خرجت من بيت أقاربكِ، وهذا المكان هو منزلكِ الحقيقي.”
“إذاً…..كل ذلك كنت أنا من اختلقه؟”
أومأت بعينيها الغارقتين بالحزن.
“في البداية حاولنا تصحيح الأمر، لكنكِ رفضتِ تقبله. لذلك..…”
“…….”
“الراهبة الرئيسة لم تشأ أن تزيدكِ ألماً فوق ألمكِ.”
عندها فهمت.
كل الأحلام المبعثرة، وكل الذكريات التي لم أستطع التقاطها دفعةً واحدة، كان سببها أن كلاريتا نفسها رفضت مواجهة الحقيقة.
“حتى بعدما كبرتُ..…”
“بما أنكِ لم تذكريه من تلقاء نفسكِ، بقي كل شيءٍ مطموراً في أعماقكِ. ثم..…”
ترددت ميرلين قليلاً، قبل أن تتابع،
“في النهاية، ما دامت أمكِ لم تعد لتبحث عنكِ، رأت الراهبة أنه لا داعي لفتح جرحكِ من جديد.”
كانت كلماتها كسكين.
أمي تركتني هنا، ولم تعد قط.
كما خافت كلاريتا الصغيرة…..لقد تخلت عنها أمها حقاً. ولهذا السبب طردتها من قلبها، كما تخلت عن دميتها الصغيرة التي كانت أثمن ما تملك.
ومع ذلك، لم أبكِ هذه المرة. هل لأنني شعرت أنني أقترب ببطءٍ من ماضيَّ الملتبس مع الدوق فيسفندر؟ أم لأن في أعماقي ومضة أمل تقول أن أمي ربما لا تزال حيةً في مكان ما؟
تماسكتُ، ثم سألت ميرلين من جديد،
“إذاً…..هل تعرفين شيئاً عن أمي؟ من كانت؟ من تكون حقاً؟”
فأجابَت وهي غارقة في التفكير،
“بالطبع…..لقد رأيتها.”
نبض قلبي بعنف.
“حقاً؟”
“نعم، لكنني لم أرها إلا من بعيدٍ للحظة، لذا أعذريني إن لم أستطع مساعدتكِ.”
ثم تمتمت بصوتٍ يملؤه الأسف.
“لا بد أن الأم الرئيسة تعلم شيئاً عن والدتكِ.”
لكن في الوقت الراهن لم يكن هناك ما يمكن توقعه منها.
وما إن انخفضت كتفاي بخيبة حتى بادر ريكايل بالكلام.
“ألا يمكننا مراجعة السجلات؟”
“آه…..”
“إن كانت والدتكِ قد أحضرتكِ بنفسها، فلا بد أن هناك أثراً مكتوباً في مكان ما.”
“هل يمكنك أن تبحثي لنا عنها؟”
فأومأت ميرلين برأسها ببطء.
“الأمر قديم، ولا أستطيع الجزم، لكنني سأحاول أن أفتش.”
***
بعد أن أخذنا وعداً من ميرلين غادرنا الدير.
كانت هناك سجلاتٌ للأطفال الذين دخلوا دار الأيتام، لكن ضخامتها تجعل البحث فيها يستغرق وقتاً طويلاً.
وأخبرتني أنها ستتواصل معي فور عثورها على أي شيء يخص أمي.
“….…”
صعدت إلى العربة، ومع ذلك شعرت بالأسف لمغادرة هذا المكان.
لم يكن الأمر خالياً تماماً من النتائج، ومع ذلك…..
بينما كنت أنظر من النافذة إلى المشهد الذي يبتعد شيئاً فشيئاً، أحسست كأن أحداث هذا اليوم بأكملها تنسحب بعيداً هي الأخرى.
وأسندت رأسي بهدوء، فتذكرت تلك اللحظة حين كنت أراقب الخارج من وراء زجاج دار الأيتام. وفجأة طفا في ذهني مشهدٌ عابر كنت قد أغفلته.
<“ابقَي هكذا قليلاً فقط.”>
في انشغالي بململة مشاعري الغامرة، نسيت ما الذي كان قد جرى بيننا آنذاك.
كانت لمسةً أقوى من أي كلمة، لمسةٌ كأنها تحتضن كل ألمي دفعةً واحدة.
وفي الوقت ذاته، جعلني القرب الشديد أتوتر على نحو خفي. لكنني لم أشأ أن أبتعد.
“كلاريتا.”
ارتبكت فجأة حين اخترقني صوت ريكايل.
“هل تعانين من حمى؟”
“هاه؟ لا..…”
لم أستوعب كلامه المفاجئ، فأجبت عفوياً. عندها ضيّق ريكايل عينيه وحدّق بي مطولاً.
“لكن وجهكِ محمّر.”
“إنه فقط…..أشعر بالحر قليلاً.”
قلت ذلك وأنا ألوّح بيدي أمام وجهي وأدير رأسي نحو النافذة. لكنني شعرت أن نظرته ما زالت عالقةً عند عنقي.
“سيستغرق البحث في السجلات وقتاً طويلاً، أليس كذلك؟”
أردت أن أغير الأجواء ففتحت موضوعاً قبل قليل. فأجاب ريكايل بصوتٍ جاف.
“ربما.”
“ولن يكون أمامنا سوى الانتظار حتى ذلك الحين.”
ولم يرد ريكايل بشيء. و لم أستطع أن أفهم أين تمضي أفكاره، فاكتفيت بالصمت.
هل كان ينبغي أن أبقى هناك وأصرّ على البحث معها؟ أم كان عليّ أن أتمسّك بالبقاء حتى يظهر السجل؟
‘ربما كان يجب أن أُري الكتاب للأخت ميرلين، فقد تكون على علمٍ بأمره.’
لكنني لم أشأ أن أثقل عليها بما يفوق طاقتها.
وما إن أدرت ظهري حتى أخذني الندم. و كنت أستنزف مشاعري بأفكار لا طائل منها، حين قاطعني ريكايل بعد صمتٍ طويل.
“ربما ذاك الرجل يعرف شيئاً.”
“أي رجل تقصد؟”
فأجاب ريكايل بملامح غامضة لا تكشف ما وراءها.
“بيتمن.”
وما إن بلغ اسمه مسمعي حتى تبادر إلى ذهني وجهه الطيب.
“السيد بيتمن؟”
بالطبع لم يَغِب عني احتمال أن يكون له صلةٌ بالأمر. فهو محامي الدوق فيسفندر، وقد تولّى الكثير من شؤونه.
من تنظيم وصيته، إلى تبليغها لعائلة أغريست نيابةً عنه، بل وحتى قدِم إلى هاينز بحثاً عن كلاريتا.
بل إنّه احتفظ بالرسالة السرّية التي تركها لي الدوق ولم يسلمها إلا لاحقاً.
“لكنني لا أظن أنّه كان يعرف كل شيءٍ عن الدوق.”
لقد قال لي بنفسه أنه يشك في ملابسات وفاة الدوق فيسفندر.
‘فالدوق فارق الحياة بعد أقل من شهر من تركه لي رسالة…..وكأنّه كان يتوقّع موته.’
ولو كان يخفي سراً عظيماً، لما قال لي ذلك.
حين رويت لريكايل ما دار بيني وبين بيتمن في قصر أغريست، ابتسم ابتسامةً متعالية.
“إن كان والدي أراد أن يدفن شيئاً معه بعد موته، فلا شك أنه لم يكشفه كلّه لبيتمن.”
ثم أرخى رأسه على جدار العربة.
“ومهما يكن، حتى لو كان يعرف شيئاً، فلن يتكلم.”
ثم تابعت وأنا أحدّق فيه،
“إنه يفتخر بعمله مع عائلة أغريست، ويبدو مخلصاً ومستقيماً للغاية.”
“هذا يعني أننا يمكن أن نستغله.”
ابتسم ريكايل ابتسامةً باهتة.
وكان في تلك الابتسامة ما بعث في نفسي قشعريرة، فابتلعت ريقي.
“وكيف ذلك؟”
فتلوّى طرف شفتيه الوسيمتين بابتسامةٍ ماكرة وهو يجيب.
“بأن نبعث إليه رسالةً باسم ديون برايت.”
_____________________
هاعا! بيلعبون عليه ان الدوق حي؟😭 احس صدق ان الدوق حي
المهم كلاريتا كان تدلعتي شوي وتدمعين في العربه عشان يضمس ريكايل مره ثانيه ✨ هعهعهههههههههع
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 44"