“أنت تقول أنكَ وكيل السيد ديون برايت؟”
تأملت مريلين ريكايل بهدوء.
نظراتها الحادة استمرت، غير أن ريكايل لم يُبدِ أي اضطراب، بل انتظر حديثها بعزةٍ وهدوء.
و في تلك اللحظة لم أستطع إلا أن أرمقه خلسة.
‘إذاً الاسم المستعار الذي استخدمه الدوق فيسفندر هو ديون برايت.’
كان ريكايل يبدو وكأنه هو نفسه ديون برايت الحقيقي، بوجهٍ هادئ مطمئن. فشعرتُ بتوترٍ خفيف خشية أن تُلقى عليّ أي أسئلة.
ماذا لو سألتني كيف أعرف ديون برايت؟ أو لماذا أرافقه؟ ماذا سيكون جوابي حينها؟
‘أرجوكِ، لا تسأليني شيئاً…..لا شيئ على الإطلاق!’
عضّت مريلين شفتها السفلية بتردد، ثم فتحت فمها ببطء،
“في الحقيقة لم يمض وقتٌ طويل على تسلّمي مهام الراهبة الرئيسة. أظن أنها كانت تدرك حالتها الصحية، فقد استدعَتني قبل أيامٍ من فقدان وعيها.”
ثم تابعت كلامها وهي تنظر إلى ريكايل،
“ولذلك لم يمض وقتٌ طويل أيضاً منذ أن عرفت اسم السيد ديون برايت.”
“هكذا إذاً.”
“لكنني أعلم أن هناك راعياً مجهولاً ظل يساعدنا منذ زمنٍ بعيد.”
ورغم أننا كنا وحدنا، خفَضت صوتها أكثر من اللازم.
“وأعلم أيضاً أن الأمر في غاية السرية.”
“هذا مطمئن.”
“لكن، هل أرسل السيد برايت وكيله لسببٍ آخر؟”
أجاب ريكايل وهو يهز رأسه،
“ليس كذلك. غير أن السيد يرغب بأن تتفقد الآنسة كلاريتا سوبيل هذا الملجأ بنفسها.”
فعادت مريلين تحدّق بي، بينما حاولتُ أن أرسم ابتسامةً متماسكةً على شفتي المرتجفتين.
لكنني لم أكن بارعةً في الكذب.
“هناك بعض الأمور التي أود التأكد منها.”
فما كان منها إلا أن قادتنا دون أن تضيف شيئاً.
و عندما توقفت عند الباب، تحدّث إليها ريكايل،
“هلّا تمنحيننا بعض الوقت هذه المرة أيضاً؟”
“بالطبع.”
وأغلقت الباب بصمت.
انتظرنا حتى خفت وقع خطواتها تماماً، ولم ينطق أحدنا بكلمة. و بعد لحظة طويلة من السكون، التفتُ إلى ريكايل وسألته،
“كم بلغت تبرعات الدوق بالضبط؟”
“لم أتمكن من معرفة الرقم، لكن من ردّة فعل الراهبة، أستطيع أن أتصور حجمه.”
أدرت بصري في أرجاء الغرفة بوجهٍ عابس.
كان المكان الذي قادتنا إليه غرفةً يقيم فيها الأطفال.
أقرب ما تكون إلى مهجع جماعي صغير.
أسِرّةٌ ضيقة مصطفة بجانب بعضها، ضيقة المساحة لكنها نظيفةٌ ومرتبة بعناية.
كانت هناك صفوفٌ من الأسرّة، ورائحة الأطفال تملأ الأجواء بخفة. و على واحد من هذه الأسرّة الصغيرة عشتُ يوماً…..أو بالأحرى، عاشت الطفلة كلاريتا سوبيل.
‘ليتني أستطيع أن أتذكر هذه المرحلة…..’
لكن جسدي هذا يخص كلاريتا البالغة، فطفولتها بقيت مجهولةً عني.
وربما…..إن بقيت هنا، فقد تعود المشاهد القديمة إليّ كأحلام غامرة.
وفي بصيص من الأمل، خطوت ببطءٍ نحو النافذة.
“هنا.”
لمست الجدار برفق، ونظرت إلى السرير الموضوع تحته.
<سيدي الدوق، هل أخبركَ عن الطفلة؟>
<…….>
<إنها صغيرة، لكنها ذكية وطيبة.>
<…….>
<لا تطرح أسئلةً عن حالها، ولا تبكي كثيراً…..ألن تلقاها مرةً واحدة؟>
<لا.>
<إذاً في المرة القادمة ربما ترانها.>
<أخشى أن تكون هذه زيارتي الأخيرة شخصياً.>
<أتفهم ذلك. من الطبيعي أن يكون الأمر صعباً عليكَ.>
<لكن سأرسل من يرعاها، لتعيش دون نقص.>
<حسناً، مفهوم يا سيدي.>
تذكرت الدوق الذي أغدق التبرعات، ووجهي أنا الذي لا أعرفه في الماضي، وملامح الراهبة الراحلة.
تنفست بعمق. عبق الأطفال الهادئ العالق في المكان تسلّل إلى جلدي.
لكن سرعان ما غلبني شعورٌ بالقلق لا أعرف مصدره.
“ألا ترين الجو هنا…..خانقاً قليلاً؟”
هل كان ذلك بدافع الرغبة في كشف شيء؟ أم أنه فقط توتر مبالغ فيه؟
فابتلا كفاي بعرقٍ بارد.
“الأفضل أن نفتح النافذة قليلاً.”
سمعت وقع خطوات ريكايل خلفي. لكنني لم ألتفت، فما زلت غارقةً في أفكاري.
قبضت يدي بكل قوتي في تلك اللحظة.
“……!”
كأن ملمس دميةٍ صغيرة كانت بين يدي ذات يوم قد عاد لراحتي من جديد.
رفعت كفي ببطء، فتراءت لي صورةٌ قديمة غامضة: دمية كنتُ أحتضنها في الماضي.
دمية…..
تلك التي كانت كلاريتا تحفظها كأثمن ما تملك.
“قال أن أحتفظ بها.”
التفتُ، فإذا بريكايل يرمقني بوجه مملوءٍ بالقلق.
“هل أنتِ بخير؟”
“لا، أعني..…”
بسطت كفي من جديد. فاختفى الإحساس القديم، ولم يبقَ سوى راحةٍ باهتة شاحبة أمامي.
“السيد أغريست..…”
لم يقل شيئاً. لقد منحني الصمت، كي أستعيد خيوط الماضي على مهل، وأتذكر شيئاً فشيئاً.
<كلاريتا، هلّا تنتظرين أمكِ قليلاً؟>
وما إن التقت عيناي بعيني ريكايل، حتى انفتحت أمامي فجأة ذكرياتٍ لم أعشها.
ذكرياتٌ ناقصة، متقطعة، لكنها حقيقية.
إنها طفولة كلاريتا.
كنت أعلم أن أمها توفيت وهي في الخامسة، غير أن الذكرى التي غمرتني الآن لم تكن كذلك.
“لقد…..كان لي أم.”
“أم؟”
“لا أذكر ملامحها، لكنني متأكدة…..كانت هناك.”
اكتفى ريكايل بالنظر إليّ، وكانت نظراته دافئة تحمل قلقاً صادقاً.
“قالت أنها ستعود قريباً لتأخذني.”
كلاريتا كانت قد أُودعت لدى الراهبة الرئيسة، بينما رحلت أمها.
وجهها لم يبقَ في الذاكرة، لكنني تذكرت بوضوحٍ جلوسي عند هذه النافذة، أراقبها وهي تبتعد.
تلك الطفلة الصغيرة لم تبكِ، ولم تصرخ.
“الآنسة سوبيل..…”
اقترب ريكايل مني، وعيناه تشيان بالاضطراب. ثم أمسك ذراعي برفقٍ وجذبني نحوه.
“……!”
شهقتُ من المفاجأة، بينما غمرني عبيرٌ دافئ حين ضمّني.
و لم يطل ذهولي، فما إن استقريت في حضنه حتى أدركت أنني أبكي.
‘لم أعش هذا بنفسي…..فلماذا يعتصر قلبي إلى هذا الحد؟’
ما إن شعرت بدموعي تسيل، حتى هاجت مشاعري بلا قدرة على ضبطها. و حاولت التماسك…..لكن لم أستطع.
“لم تأتِ. كنت أنتظرها…..ولم تأتِ.”
لقد انتظرت كلاريتا دوماً عودة أمها.
كنت أحتضن الدمية التي تركتها لي أمي، وأنتظر ليلًا ونهارًا عودتها.
“كانت دافئة، مليئة بالحنان…..لو أنني أستطيع أن أشعر بذلك مرة أخرى فقط..…”
تمتمت طويلاً بكلماتٍ لا أفهمها أنا نفسي، ثم أخيرًا هدأت أنفاسي.
“آسفة..…”
وحين حاولت أن أبتعد عن حضن ريكايل بعد أن استعدتُ وعيي، لم يتركني.
“فقط…..ابقَي هكذا قليلاً.”
“…….”
عندها فقط أدركت أنني انغمست تمامًا بين ذراعيه.
ذلك الدفء الغريب، حرارة جسد شخص لم يكن سوى غريب، كانت أول ما منحني عزاءً حقيقيًا.
و بعد أن تماسكت للمرة الثانية، انسحبت ببطءٍ من بين ذراعيه.
“شكرًا لكَ.”
في المرة السابقة، حين قلتُ “آسفة”، لم يتركني. أما الآن فقد أرخى ذراعيه بهدوء.
“آنسة سوبيل…..كان يجب ألا تأتي إلى هنا.”
“…….”
“أتمنى ألا تجبري نفسكِ على استرجاع ما حاولتِ نسيانه.”
رفع يده بلطف، وجفف الدموع الغارقة على وجنتي.
“نسيانكِ له سبب…..لا بد من سببٍ جعلكِ تمحينه.”
قال ذلك بصوتٍ متعب، يقطر مرارةً ونفورًا.
“آنسة سوبيل، لم أعد أرغب في تتبع آثار الموتى، ولا في البحث عن نواياهم.”
“السيد أغريست..…”
لكنني لم أستطع أن أوافقه. إن لم نعرف مقاصد الراحلين، فكيف سنشق طريقنا نحو المستقبل؟
طالما عشت في قصر أغريست وأنا أعلم نهايته، فلن أسمح بتكرارها.
“أليس الندم هو ما يقود إلى التوبة والتأمل؟”
ابتسمتُ بخفة وأنا أقولها، و أخيرًا انفرجت تعابيره المتجهمة.
“لا بأس…..كل هذا حدث منذ زمنٍ بعيد.”
قلت ذلك بثبات، ثم مسحت وجهي المبلل بالدموع.
“قد تقول أن عليّ أن أترك الأمر، لكنني الآن…..لا بد أن أعرف الحقيقة.”
“لا سبيل لردعكِ، على ما يبدو.”
لمست أصابعه جبيني المحمر، فأفلتت مني ضحكةٌ صغير.
“آنسة سوبيل..…”
رفعت بصري نحوه بعينين ما زالتا دامعتين، بينما يُكمل،
“إن كانت والدتكِ قد تركتكِ هنا، فلا بد أن اسمها أو شيئًا يخصكِ مسجَّلٌ في السجلات.”
________________________
يعني بديت احس كلاريتا مب متجسده بس مع رجعتها بالزمن وذاكرتها الخربانه ذي شكلها اصلا هي كلاريتا؟
المهم ضمه ريكايل لها🫂🤏🏻✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 43"