أومأت ميريلين برأسها ببطء، ثم مضت بنا إلى عمق المبنى دون شرح إضافي.
كما توقعت، كانت الأم الرئيسة تقيم في الجناح المخصص للأطفال لتلقي العلاج، وليتمكن الأطباء من زيارتها، والكهنة بين حين وآخر.
وبغيابها، كانت ميريلين تتولى مهامها كاملة.
سرنا معها في الممر، بينما تتخللنا أصوات الأطفال من حين لآخر.
صغارٌ يرتدون ثياباً لا تلائم مقاسهم، يسيرون في صفوف، وصرخاتٍ بعيدة قد توقظ فيَّ ذكريات طفولة ضائعة…..لو حالفني الحظ.
لكن ذلك لم يحدث.
حين وقفنا أمام بابٍ مغلق بإحكام، التفتت إلينا ميريلين بعينين يملؤهما الكدر.
“تفضلي، ادخلي.”
“إنها هنا؟”
أومأت، ثم أدارت مقبض الباب. و ما إن فُتح حتى اندفعت نحونا رائحةٌ عطرة وهادئة.
ولم يطل بي الأمر حتى تذكرت…..هذا هو العطر الذي كانت الأم الرئيسة تحبّه.
منجذبةً و كأنني في حلم، تقدمت إلى سريرها.
“…….”
كان وجهها صافياً، وادعاً، لا يشبه ملامح مريضة طال بها الداء. فكدت أرفع يدي لأمسح خدها.
“يا أمّي..…”
ناديتها همساً، لكنها لم تتحرك.
حتى كاد الشك يتسلل إليّ: هل هي تتنفس حقاً؟
وفي تلك اللحظة، أغلقت ميريلين الباب بهدوء، و تحدثت من خلفي،
“هي في غيبوبة. مضى زمنٌ طويل منذ استيقظت آخر مرة.”
حبست أنفاسي، وقاومت رغبةً جامحة في لمسها لأتأكد.
وجهها لم يبدُ عليه أثر السنين، أو ربما كان وهماً في عيني. و لم أرَ سوى وجه نقي، بريء، أشبه بطفلة غارقة في نوم عميق.
“ما الذي يؤلمها؟”
“لا أحد يعرف بالضبط. عانت طويلاً من صداع مزمن، ويُظن أنه السبب…..لكن لا يقين في ذلك.”
“…….”
“أما فقدان الوعي، فالأطباء قالوا أنه من أثر الشيخوخة، ولا سبيل لعلاجها.”
مررت ميريلين يدها على وجه الأم الرئيسة، ثم واصلت بصوت حزين،
“مضت أيامٌ طويلة وهي هكذا، لم تفتح عينيها.”
“…….”
“الطبيب قال أنها قريبة من الرحيل، وأن علينا الاستعداد، لكنها ما زالت صامدةً حتى الآن.”
اخترت الصمت. فلم أجد ما أقوله.
“لو أنها رأتكِ يا كلاريتا، لفرحت كثيراً.”
بعد لحظةٍ قصيرة من الصمت، فتحت ميريلين الباب وانسحبت، كأنها تركت لي المجال لأمضي وقتي بجانبها.
فسحبت كرسياً وجلست عند رأسها. بينما كان عبيرها المفضل، الذي غمر الغرفة لحظة دخولي، يتكاثف أكثر كلما اقتربت منها.
“أمي..…”
ناديتها مرة أخرى، وأنا أعلم أن لا جدوى. فلم يأتِ رد، وكان غياب صوتها يثقل قلبي.
لم أستطع أن أسألها شيئاً، ولم أعلم من أين أبدأ في البحث عن الخيط المفقود.
كان لديّ أسئلةٌ كثيرة. عن طريقة إنقاذ ريكايل من الموت، و عن كسر هذه اللعنة.
عن ذلك الكتاب المليء بالرموز الغريبة. و عن سرّ الأحلام التي تتكرر.
وعن ماضيَّ الذي لم أستطع استعادته.
‘وماذا عليَّ أن أفعل الآن؟’
هل كان ينبغي أن أعيش بهدوءٍ في القصر كما أوصى الدوق فيسفندر، دون أن أبحث أو أتساءل عن شيء؟
أهذا حقاً السبيل الوحيد؟
كأن ريكايل قرأ ما في قلبي، فاقترب ووضع يده على كتفي.
“مؤسف.”
قال ذلك بصوتٍ هادئ يحمل عزاءً بسيطاً.
فأومأت مرتين بخفة، ثم ربّتُ على يده الموضوعة فوق كتفي.
“لو أني جئت حين سمعت أنها مريضة…..هل كان سيتغير شيء؟”
فهز ريكايل رأسه ببطء.
“حتى لو فعلتِ، لم يكن بوسعكِ إيقاف مرور الزمن على الأم الرئيسة.”
هذه المرة تجرأت وبسطت يدي.
مررت أصابعي برفق على خصلات شعرها البيضاء الدقيقة الملتصقة بجبهتها، وفاضت الدموع في عينيّ لشعوري أنني تأخرت كثيراً.
وكان ريكايل هو من واساني.
“ربما كانت مجرد أمانينا…..والأم الرئيسة لم تكن لتعرف شيئاً أيضاً.”
“…….”
“فنحن حتى الآن لا نعرف بوضوحٍ ما الذي نبحث عنه.”
أومأت، ثم مسحت عيني.
“لماذا تبدو الحياة سلسلةً لا تنتهي من الندم؟”
“الحياة التي بلا ندم لا تحمل في طيّاتها لا تفكُّراً ولا تعلّماً.”
لكن هذه المرة، كلماته لم تجلب لي عزاء.
لقد أخفقت مراراً، ودفعت ثمن إخفاقاتي بالندم. ولو أني تعلمت حقاً، لوجدت وسيلةً لإنقاذ ريكايل.
لكنني حتى في هذه الحياة لم أغير شيئاً، بل أشعر أكثر فأكثر أنني مجرد دميةٍ تحركها يدٌ خفية.
“وماذا أفعل الآن؟”
لم يصلني أي جواب. لكنني كنت في أمسّ الحاجة إلى جواب صائب.
ساد الصمت في الغرفة برهة. فتأملت الأم الرئيسة طويلاً، مأخوذةً بعطرها الذي يذيب الروح.
“كلاريتا.”
و كان صوت ريكايل هو من قطع شرودي.
“إن لم تستطيعي سماع صوتها، فلتستحضريه بنفسكِ.”
“ماذا تعني؟”
“اطلبي من الأخت ميريلين أن تأخذكِ إلى الغرفة التي كنتِ تقيمين فيها قديماً.”
التفتُّ إليه، فتابع،
“ذلك المكان الذي قلتِ أنكِ رأيته في حلمك…..هل تذكرينه؟”
أومأت ببطء، محاوِلةً استدعاء المشهد.
“لستُ متأكدة…..لكن ربما أتذكر حين أراه بعيني.”
و عندما ترددت، عاد ليقول،
“لو ذهبتِ هناك حقاً، قد تستعيدين شيئاً.”
كان محقاً.
الأم الرئيسة لم يعد بالإمكان محادثتها، وكان لا بد من البحث عن سبيل آخر.
فشعرت أن ضوءاً خافتاً بدأ يتسلل إلى عتمة أفكاري.
“لا بد أن أبحث بنفسي.”
انحنيت وقبّلت بخفة وجنتها الغارقة في النوم العميق.
“أتمنى أن تستعيدي عافيتكِ سريعاً وتنهضي مجدداً.”
وحين خرجنا وأُغلق الباب وراءنا، وجدنا ميريلين بانتظارنا على بُعد خطوات.
“شكراً لعنايتكِ.”
ابتسمت ابتسامةً دافئة و ردّت،
“لا بد أنكِ مرهقةٌ من السفر من هامهين إلى هنا. هناك غرفةٌ في الطابق الثاني، استريحي قليلاً قبل أن تتابعي طريقكِ.”
ألقيت نظرةً إلى ريكايل، ثم ابتسمت ابتسامةً مترددة.
“في الحقيقة…..لدي طلبٌ صغير.”
بمجرد أن سمعت كلمة طلب، بدا أن ميريلين توقعت ما سأقوله، فتجمدت ملامحها قليلاً.
“هل يمكنني أن أزور الغرفة التي كنت أقيم فيها عندما كنتُ صغيرة؟”
“آسفة يا كلاريتا.”
جاء ردها سريعاً وحاسماً كما توقعت.
“غرف إقامة الأطفال لا يمكن فتحها أمام الغرباء بهذه البساطة.”
مررت بكفها على وجهها الكئيب، ثم أضافت،
“أنت تعلمين يا كلاريتا…..كل أولئك الأطفال يحملون جراحاً عميقة.”
كان الملجأ أشبه بمؤسسة ملحقة بالدير.
كان يقوم على رعاية النبلاء وأهالي المنطقة، أما الأطفال، فحين يبلغون سناً معينة، يستقلون بأنفسهم، أو يُرسَلون إلى الأكاديمية، أو يختار بعضهم – مثلي – الاستقرار في الدير.
“أتفهم ذلك.”
كان من الطبيعي أن ترفض طلبي.
في نظرها، ربما بدوت شخصاً يسعى فقط إلى اجترار الماضي والتمتع بذكرياته، ولا يمكنها أن تعرض حياة الأطفال بتلك الطريقة.
‘لم أستطع لقاء الأم الرئيسة…..ولا حتى رؤية المكان الذي عشت فيه. لا أدري حقاً ماذا علي أن أفعل الآن…..’
انخفض رأسي مثقلاً بكآبة لم أستطع دفعها بعيداً. عندها فقط تقدّم ريكايل، الذي ظل صامتاً حتى اللحظة.
“وإن كنت أنا المبعوث الرسمي للسيد ديون برايت…..فهل سيتغير الأمر؟”
______________________
من المديون برايت ذاه اصلا
ماتوقعت الرئيسة في غيبوبه حسبت بيلقونها على الاقل منسدحه ثم تبكي لاشافت كلاريتا بس مافيه شي تـء
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات