كان الصمت يلف المكان، ولم يُسمع سوى إيقاع منتظم لوقع حوافر الخيل.
و لم تعد قبضتي على اللجام متشنجة كما في البداية.
‘هل يمكن أن يُسمى هذا اعتياداً؟’
لكن دفء الجسد الملتصق بظهري لم أستطع التعود عليه بعد.
‘هاه…..’
تنفست بهدوء.
ومع ذلك، كان القدر المناسب من التوتر يساعدني في ركوب الخيل. وما إن بدأت أعتاد على الارتفاع أيضاً، حتى شعرت أن بالإمكان الانطلاق أسرع قليلاً.
“يكفي، لنعد الآن.”
سُمع صوتٌ صافٍ منعش، متناغم مع هواء الصباح.
“حسناً.”
فعدتُ أقبض على اللجام بتوجيهٍ من ريكايل، فانحرفت الفرس ببطء.
“السيد أغريست.”
خطر لي أن هذه اللحظة، حيث لا نواجه بعضنا مباشرة، مناسبة لفتح حديث مهم. حديث لم يكن مريحاً لنا جميعاً.
لكن قبل ذلك، كان لا بد أن أعترف بشيءٍ أولاً.
“أنا آسفة.”
نطقتُ بالاعتذار فجأة، ثم واصلت الكلام دون توقف.
“لقد أخذت شيئاً من قصر أغريست من دون إذن.”
كنت أستعد للحديث عما جرى حين طاردني شبح القصر.
“أثناء هروبي من ذلك الكيان المجهول، صادفت باباً مفتوحاً، فدخلت.”
لا يزال الضوء الخافت المتسرب من شق الباب، وكأنه يدعوني، محفوراً في ذاكرتي.
“بدت وكأنها غرفةٌ مهجورة، كل شيء فيها مغطى بالأقمشة.”
رويت لريكايل بهدوء أجواء الغرفة وما رأيته فيها.
جدرانٌ مصفوفة بالكتب، وأجواءٌ بسيطة رفيعة.
“لكن ما إن دخلت، حتى وجدت الغرفة أظلم بكثير مما بدت من الخارج.”
ذلك التناقض ما زال يقشعر له بدني حتى الآن.
“شعرت أن شيئاً ما ليس على ما يرام، لكن لم يكن بوسعي العودة، فتقدمت. و استجمعت شجاعتي وفتحت النافذة…..حينها وقعت عيناي على المكتب.”
حين وصلت إلى هذا الحد من حديثي، نطق ريكايل فجأة،
“لم تكوني لتأخذي المكتب، أليس كذلك؟”
“بالتأكيد لا، لكن كان هناك كتاب.”
“كتاب؟”
“نعم، وعلى غلافه رسمٌ لقصر أغريست.”
هممت أن ألتفت إليه، ثم عدت أنظر للأمام.
“هل يمكن…..أن تكون تلك الغرفة غرفتكَ القديمة؟”
مضت لحظة صمت قصيرة قبل أن يجيب.
“غرفة مغطاة كلها بالأقمشة؟ لا بد أنها مهجورة منذ زمن طويل.”
غرق في التفكير قليلاً، ثم تمتم بصوت خافت.
“لكن…..ذاك الباب لا يمكن أن يكون مفتوحاً.”
“هل تعرف أين يمكن أن تكون؟”
“لستُ متأكداً، لكن ربما كانت مكتبة والدي.”
كلماته جعلت صدري يبرد فجأة. هل يعني ذلك أني أخذت شيئاً من متعلقات دوق فيسفندر نفسه؟
“تقول أنها مكتبة الدوق؟”
“لكن يستحيل أن تُترك مفتوحة.”
“لقد كانت مفتوحةً تماماً، ولو كانت مغلقةً لما دخلتها أصلاً.”
كنت أفرّ هاربةً من شيءٍ ما، وكان ذلك الضوء المنبعث من الداخل هو ما جذبني إليها.
“على أي حال، أخذت الكتاب. لم أفهم ما كُتب فيه، فظننت أن في الدير من قد يستطيع قراءته.”
“ألَم يكن مكتوباً باللغة العامة؟”
“لا، لم أرَ مثل تلك الأحرف من قبل. أشبه بالرموز القديمة، أقرب إلى صور. فقد كانت هناك أشكالٌ تجسد هيئة الطيور.”
شرحت له ما علق بذهني، لكنه لم يعرفها أيضاً.
“ما رأيكَ أن تراه حين نعود إلى القصر؟ ربما يكون كتاباً تعرفه.”
“للأسف، لم أدخل مكتبة والدي قط. لا أعلم ماذا كان يقرأ، ولا ما كان يثير اهتمامه.”
“….…”
“حتى لو دخلتُ الآن، فلن أستطيع تمييز شيء.”
صوته الممزوج بالمرارة لامس عنقي. فحبست شعور الأسى الذي ارتفع في داخلي، وعدت لأتكلم من جديد.
فما زال هناك أمرٌ آخر لا بد أن أبوح به له.
“لكن هناك ما أريد قوله حقاً.”
عضضت شفتَي السفلى برفق. فقد كان من الأصعب عليّ أن أنطق بما سأقوله الآن أكثر من الاعتراف بخطئي.
“أعتذر مرة أخرى…..آسفة.”
“هل الأمر أخطر من سرقة كتاب؟”
ربما لاحظ ارتجاف صوتي، فخاطبني ريكايل بنبرة مازحة وهادئة.
“ربما.”
استحضرت ذكرى حديثة،
“في الحفل الأخير، سمعتكَ تتحدث مع مساعدكَ.”
غادرا القصر معاً ليتبادلا كلاماً خفياً بعيداً عن الأنظار.
وهناك عرفت أن ريكايل ما زال يتقصى عني، وأن المرض قد اشتد على الأم الرئيسة.
لم ينطق بكلمة. ربما فاجأه حديثي المفاجئ، أو ربما كان يصوغ لنفسه عذراً.
لكنني، مهما يكن، واصلت كلامي.
“السيد أغريست، لو أني احتفظت برسالة الدوق حتى النهاية، لكانت سلاحاً في يدي.”
وكما أمتطي معه الجواد الآن، قررت أن أسير معه في هذا الطريق. إذ أدركت أنني وحدي لن أستطيع فعل شيء.
“لكني اخترت أن أثق بكَ.”
“…….”
“فأرجو أن تكون صادقاً معي أيضاً.”
حينها تكلّم أخيراً، و كان صوته مبحوحاً بعض الشيء.
“الآنسة سوبيل.”
تجمدّت أنفاسي، فلا أعلم ما الذي سيقوله.
ثم جاءني صوته من خلفي، هادئاً ورصيناً.
“كان والدي يدعم دير هاينز منذ زمنٍ بعيد.”
لم يكن غريباً أن يتكفل النبلاء بمؤسسات خاصة أو ملاجئ. لكن هاينز لم تكن أرضاً لأغريست، بل تبعد كثيراً عن هاميهين.
فهل كانت هناك صلةٌ خاصة؟
ما إن شرعت أرتب أفكاري حتى عاد صوته يتردد.
“باسمٍ مستعار. طوال وقتٍ طويل.”
“أتدري ما السبب؟”
“لا، ذاك سره وحده.”
“أليس لديكَ أي حدس؟”
“لا بد أن أبحث. لكن حتى الآن، لا شيء مؤكد.”
لكن قوله “لا شيء مؤكد” كان يعني أن في داخله شكاً أو ظناً.
دوق فيسفندر الذي ظل يدعم الدير باسم مستعار…….
فجأة قفز إلى ذهني مشهدٌ من حلمي.
كان الدوق يتحدث مع شخص ما عن طفل صغير. طفل ذكي، طيب، لا يسأل عن حاله، ولا يبكي كثيراً.
“هل يمكن أن يكون لذلك صلةٌ بحلمي؟”
“قد يكون.”
جاء جوابه البسيط ليزيد شكوكي قوةً.
ربما ذلك الطفل—الذي لم يظهر قط في حلمي—هو…..
“يا ترى.”
قبضت على اللجام بقوة، ونطقت بحذر.
“هل كان الدوق فيسفندر يأتي لرؤيتي؟”
إن كان الأمر كذلك، وإن كان له صلة بــ كلاريتا سوبيل…..
‘لكن كيف عرفني الدوق؟’
أي رابط خفي كان بين كلاريتا سوبيل و الدوق فيسفندر؟
و هذه المرة لم يطل تفكير ريكايل قبل أن يجيب.
“يبدو أن والدي كان يحمل سراً لا يريد أن يُكشف.”
ربما كانت كلماتٍ فكر فيها طويلاً، لكنه لم يبح بها إلا الآن.
“…….”
“وهناك من علينا أن نواجههم معاً لكشفه.”
آثرت الصمت.
وبعد قليل، وصلنا الى القصر، ثم انطلقنا منه مباشرةً نحو الدير.
***
كان دير هاينز قريباً من القصر، لا يبعد كثيراً عنه.
ما إن لاحت من بعيد بنايةٌ غطّت الجدران نصفها النباتات المتسلقة، حتى بدأ صدري الذي كنت أُهَدِّئه يرتجف من جديد.
‘لقد عدتُ.’
ولأن الدير يمنع على الرجال، توجهنا أولاً إلى الجناح الشرقي حيث يقع الملجأ.
كنت أظن أن الأم الرئيسة تقيم هناك أيضاً، بحكم حاجة الأطباء إلى الدخول والخروج باستمرار.
و حالما خطونا إلى الداخل، استقبلنا جوٌ يغمره سكون وطمأنينة.
“ما الذي جاء بكم؟”
سألنا البواب بنبرة جافة، لكنه ما لبث أن ابتسم حين عرف وجهي. فشرحت له بإيجاز سبب قدومنا.
“انتظروا هنا من فضلكم.”
وبعد قليل عاد وهو يصحب معه وجهاً مألوفاً.
الأخت ميريلين—التي كانت دوماً لطيفةً معي قبل أن يأتي السيد بيتمن ويأخذني.
“كلاريتا.”
“يا أختي.”
“لقد مر وقتٌ طويل. كيف حالكِ؟”
“بخير، بفضلكم. وأنتم، هل أنتن بخير؟”
تحولت نظرات ميريلين إلى ريكايل. و كنتُ على وشك تقديمه، لكنه سبقني بالكلام.
“رفيق الآنسة سوبيل.”
أدركت حينها أنه تعمّد إخفاء هويته، فأمسكت لساني.
تبادلنا التحايا ثم سرنا إلى الداخل.
ورغم أن ذاكرتي لا تسعفني بطفولتي، فإن المكان الذي عشت فيه قبل أن يعثر عليّ السيد بيتمن منحني شعوراً يشبه عودة الابنة إلى موطنها.
“كلاريتا، هل جئتِ بعد أن سمعتِ الخبر؟”
______________________
يعني أكيد مستحيل تكون كلاريتا بنت الدوق السريه صوح؟ يعني احس اقرب ريكايل يكون ولده صدق من كلاريتا لأنه يشبه له😃
حسبت بيصير لهم مومنت وهم على الحصان طبعت تعتذر عن اشياء كله من تيرون الزفت😔
المهم ضحكني ريكايل يوم قال ماسرقتي المكتب صح؟ تحسبه في مخباها مثلاً؟ تراه مكتب😭
Dana
التعليقات