“هل الطعام يروق ذوقكِ؟”
في صباح اليوم التالي، سألني إيريسون ذلك بوجهٍ ودود. فابتسمت وأنا أملأ فمي قسراً بملعقة كبيرة من الحساء.
“نعم، لذيذٌ جداً.”
كان الحساء رائعاً، والخبز الطازج أشهى ما يكون. بل إنني فضّلته على كل وجبات قصر أغريست الفاخرة.
لكن رغم ذلك، لم أستطع أن أشعر بالراحة الكاملة.
‘أين ذهب؟’
كلما وقع بصري على الكرسي الفارغ في المقابل، تملكني الانشغال.
وكأن إيريسون قد قرأ أفكاري،
“سيدي الشاب غادر في وقتٍ مبكر من الصباح.”
“ألم يقل إلى أين ذهب؟”
“لا، فقط ذكر أنه سيجول في الجوار.”
في الحقيقة، حين استيقظت ونزلت الدرج، فكرت ألف مرة بأي وجه سأقابل ريكايل.
كان عليّ أن أتصرف وكأن شيئاً لم يكن، لكن هل أستطيع؟ وماذا لو احمر وجهي فجأة حين تعود بي الذاكرة إلى ليلة الأمس؟
لكن كل قلقي بدا عبثاً، إذ لم يظهر ريكايل طوال الصباح.
ارتحت لذلك من جهة، ومن جهةٍ أخرى انتابني قلق وتساؤل: أين عساه ذهب منذ الفجر؟
“بالمناسبة، آنسة سوبيل.”
“نعم؟”
“هل نمتِ جيداً البارحة؟”
“طبعاً، نمتُ بعمق.”
أجبت بابتسامة هادئة، لكنه لم يبد مقتنعاً.
“ألم يزعجكِ الفراش؟ ربما الوسادة كانت عالية، أو الأغطية قاسية؟”
لابد أنه يقصد صرختي في منتصف الليل.
“بالعكس، الفراش كان مريحاً للغاية. فقط…..رأيت كابوساً.”
قلت ذلك ببساطة، لكنه لم يبدِ نية لترك الموضوع.
“هل ترين كوابيس كثيراً؟”
في الواقع، لم أكن حتى معتادةً على رؤية أحلام من قبل.
“لم يكن الأمر هكذا من قبل، لكن ربما كنت مرهقةً هذه الأيام.”
داعب إيريسون ذقنه ثم،
“لا يوجد حلمٌ بلا سبب. وإذا كان حلماً مؤلماً لدرجة دفعكِ للصراخ، فلا تهمليه.”
“…….”
“قد يكون رسالةً قوية تحمل معنى مهماً.”
أخذتُ أغرف الحساء من جديد ببطء، أتناوله بلا وعي. لكن هذه المرة لم أجد له طعماً.
“سأفعل…..شكراً على نصيحتكَ.”
“لا شكر على واجب.”
***
كان القصر ينبض بالحياة على عكس ليلة البارحة.
بدأت الخادمة العمل منذ الصباح، تنظف وتجمع الأشياء، فيما كانت طفلةٌ صغيرة ـ تبدو ابنتها ـ تركض في الأرجاء ناشرةً البهجة.
“آنسة سوبيل، إلى أين تذهبين؟”
“أردت أن أتنفس بعض الهواء.”
“هل ستذهبين إلى القرية؟”
سألتني الخادمة بلطف ووجهها مفعمٌ بالود.
“لست متأكدة…..ربما سأتمشى قليلاً قرب المكان.”
“حسناً، عودي سالمة.”
أنهَيتُ طعامي وغادرت القصر بهدوء.
كان المكان ساكناً ووادعاً. وبعيداً ظهرت بيوتٌ متجمعة كأنها قرية صغيرة، منظرها البسيط والحميم أسرني على الفور.
‘هل ذهب ريكايل إلى القرية؟’
سرت بخطى هادئة في طريقٍ ضيق تحفّه الأشجار. لم يكن هناك سوى هذا الطريق المؤدي إلى القرية، فربما سألتقيه في الطريق.
وبينما كنت أمشي وسط الهدوء، خطرت لي كلمات إيريسون: لعل العيش هنا ليس سيئاً.
خادمٌ ودود يهتم بأدق التفاصيل، خادمةٌ بارعة، وطفلة صغيرة تُدخل الضحكة إلى قلبي.
‘إنه أشبه بحلم حياة ريفية كنت أتوق إليها.’
ثم إن هذا المكان بالذات هو ما تركه لي دوق أغريست…..بيتي الخاص، الذي لا يجرؤ أحدٌ على التدخل فيه.
بيتٌ بلا إشاعات، ولا قيل وقال.
بيتٌ كامل.
بيتي…..
صحيحٌ أن قصر أغريست، من الناحية القانونية، ملكي أيضاً. لكن رغم الأختام والتوثيقات الرسمية، لم أشعر يوماً أنه ملكي حقاً.
كان وكأنه سقط عليّ من السماء فجأة.
‘لكن حتى هذا القصر الريفي ظهر في حياتي بين ليلة وضحاها.’
فكيف سيكون الحال إن عشتُ هنا فعلاً؟ بينما لا داعي للقلق بشأن الشياطين أو الأشباح.
‘ما الذي أفكر فيه الآن؟’
بعد كل هذا الحماس ليلة البارحة، أعود لأفكر بهذه الأنانية.
ماذا سيكون حال ريكايل لو قررت البقاء هنا وحدي؟ هل سأتركه ليموت كما يموت كل مره في ذلك القصر المسكون؟
‘لا، لن أتركه يموت بلا معنى أبداً ثانيةً.’
هززت رأسي بخفة وتقدمت للأمام، ورأيت عن بعد ظل فارسٍ يقترب على جواده.
و لم أحتج للتأكد من وجهه لأعرف من هو.
“ريكايل.”
لقد اقترب بسرعة بفضل صهيل جواده.
“أين كنتَ منذ الصباح الباكر؟”
“أتنزّه.”
كان في صوته هدوء الصباح وراحة الجو.
“يا له من حظ…..أن تتمكن من التنزّه في القرية بلا همّ.”
عندما اشتكيت، مال ريكايل برأسه باستغراب.
“ألم تكوني أنتِ أيضاً تتمشين بلا استعجال، آنسة سوبيل؟”
“كنت أمزح، شعرت بالغيرة لأنكَ ركبت الحصان.”
ابتسم ريكايل بخفة ثم نزل عن جواده.
“اذهبي أنتِ أيضاً، الحصان هادئٌ ويطيع أي غريب.”
مد لي زمام الحصان، لكني اكتفيت بابتسامة خجولة.
“شكراً، لكن سأكتفي بالرفض.”
“لماذا؟”
“لم أركب حصاناً من قبل.”
حتى لو كان صغيراً، فكيف لي أن أركب مثل هذا الجواد الطويل؟
فابتسم ريكايل و تحدّث وكأنه لا يرى أي مشكلة،
“سأعلمكِ.”
“ماذا؟”
هز الزمام بهدوء دون قول المزيد.
“لا بأس.”
“لكنني أخاف من المرتفعات.”
“هذا أقل ارتفاعاً من النظر من نافذة القصر.”
لم أستطع الرد عليه بكلمة. فنظرت بعيني الجانبية إلى الحصان واقفاً بهدوء. كانت عيناه الكبيرتان والوديعتان تهز قلبي قليلاً، لكني ما زلت مترددة.
“على أي حال، هذا حصانٌ معتاد على حمل الناس، لا داعي للخوف.”
“ماذا لو سقطتُ؟”
هز ريكايل الزمام مرة أخرى. هل هذا يعني أن الإمساك به يضمن ألا أسقط؟
“مع ذلك، أشعر بالخوف.”
“إذا تعلمتِ، سيكون مفيداً جداً.”
“…….”
“ربما يأتي وقتٌ تكونين فيه بحاجةٍ لذلك.”
تأثرت بهذه الكلمات قليلاً.
صحيحٌ أن معرفتي بركوب الخيل ستكون مفيدة طالما أنا في هذا العالم. و بالطبع، لا يمكن أن أصبح ماهرةً من أول مرة.
“حسناً، لا بأس بتعلمه على أي حال.”
قلت ذلك بشجاعة، لكن قلبي كان مرتعشاً قليلاً.
أخذت زمام الحصان بيد مرتجفة من ريكايل. وفجأة خطر لي سؤال.
“سيد أغريست، هل سبق أن علمتَ أحداً ركوب الخيل؟”
“لا.”
“ماذا؟ وإذاً كيف ستعلمني؟”
“أرجو المعذرة.”
فجأة أمسك بخصري بكلتا يديه ورفعني في الهواء.
“!”
لم يكن لدي وقتٌ للصدمة، و شعرت وكأن جسدي يحلق، وفجأة وجدت نفسي جالسةً على ظهر الحصان.
“آه!”
انحنيت إلى الأمام من شدة المفاجأة، وتحرك الحصان برأسه بقليل.
“إنه مرتفعٌ جداً، مرتفعٌ حقاً!”
كانت هذه أول مرة أركب فيها حصاناً. ارتفاعه فاجأني، ودفء جسده وصل إلى ساقي بطريقةٍ غريبة.
“شش…..إذا صرختِ سيُفزع الحصان.”
“لكنني خائفةٌ جداً…..!”
كنت على وشك أن أطلب النزول، لكن ريكايل صعد خلفي على الفور.
“إذا لم تصرخي كما فعلتِ قبل قليل، لن تسقطي.”
وجوده خلفي جعل الأمر أقل رعباً من المرة الأولى. لكن شعوراً غريباً بدأ يملأ قلبي بدلاً من الخوف.
نبض، نبض…
إنه ذلك الإحساس الغريب والمريح الذي شعرت به ليلة البارحة.
“امسكي الزمام.”
تجمّدت مكاني مثل آلة، وأمسكت بالزمام كما أمر ريكايل. بينما تسرب العرق من يدي من شدة التوتر.
“احرصي على رفع ظهركِ.”
عاد صوت ريكايل خلف ظهري ليذكرني.
“واصلي شد كتفيكِ للأمام.”
“نعم.”
“حاولي تدوير الزمام نحو اليسار واضغطي قليلاً.”
حينها بدأ الحصان يتحرك. و تقلصت كتفيّ من شدة التوتر. فاحتضن ريكايل كتفي برفقٍ بإحدى يديه.
لكن لمسة يده جعلتني أزداد انقباضاً بدل الاسترخاء.
“استرخي…..إذا شعرتِ بالخوف، سيشعر الحصان بذلك تماماً.”
أليس الخوف لديّ أكثر من الحصان؟
“إذا شديت ساقيكِ كثيراً، قد يهرول الحصان بسرعة.”
“حسناً…..وماذا أفعل إذاً؟”
“ابقي مرتاحة.”
لم يكن الأمر بهذه السهولة، لكن أخذت نفساً عميقاً وحاولت تهدئة نفسي.
“هاه..…”
على طول الطريق الضيق، تحرك الحصان بوتيرة ثابتة.
و بينما اعتدتُ على الارتفاع، أصبح بإمكاني النظر حولي. حينها فقط لاحظت وقع حوافر الحصان على الأرض، والمشهد البعيد الذي يبتعد ببطء عني.
وأمرٌ آخر شعرت به.
دفء ريكايل خلفي، يدعمني على الدوام، كان واضحاً لكل شعورٍ في جسدي.
_____________________
علاقتهم صايره حلوه عيااااالييييييي
باقي نص الروايه✨
المهم ياويلها تقول بقعد مع ان ماظنتي تربيتي🤏🏻
Dana
التعليقات