ثم ارتسمت على وجه ريكايل ابتسامةٌ خفيفة. فشعرتُ بالحرج وكأن مكنون قلبي انكشف تماماً أمامه.
‘الخوف أهون من الإحراج.’
وبينما كنت أتنحنح محاولةً كسر أجواء الثقل، كان قد اقترب مرةً أخرى من السرير.
حين قال أنه سيغادر لم أرد له ذلك، لكن وجوده قُربي في هذا الوقت المتأخر جعل شعوري مرتبكاً على نحو غريب.
“ماذا كنتِ تفعلين في القصر؟”
كان ريكايل هو من قطع الجو المائل إلى الخمول.
“القصر؟”
“تحدثي عن كوابيسكِ.”
اتكأ على ظهر الكرسي وأكمل بصوتٍ هادئ،
“فقط بهدوء…..وكأن الأمر لا يعني شيئاً.”
“…….”
“حينها سيزول خوفكِ.”
“في الحقيقة…..أحلامي الأخيرة بدت وكأنها مترابطة.”
قصصتُ لريكايل ما تذكرتُه من تلك الأحلام.
“دير الراهبات الذي قضيتُ فيه طفولتي يظهر باستمرار في المنام. في أول كابوس ظهر رجلٌ شاب…..ظننته أنتَ، لكن لم يكن كذلك.”
“رجلٌ يشبهني ظهر في كوابيس الآنسة سوبيل؟”
“قد يكون أنتَ، السيد أغريست…..على أي حال، كان حلماً يبتلعني فيه الظلام أنا وذلك الرجل.”
ثم تكررت الكوابيس مراتٍ أخرى.
كنت أرى مقاطع حوار بين أشخاصٍ لم أرهم جيداً، ورويت لريكايل ما استطعت تذكره على نحوٍ متقطع.
لكن مرور الوقت جعل الكثير من التفاصيل تتلاشى من ذاكرتي، مما أحزنني.
“تبدو كأحلام تعكس قلقكِ النفسي كما هو.”
“هل هي مجرد انعكاسٍ لا أكثر؟”
لم يجب ريكايل بشيء.
وبعد صمتٍ طويل، وحين بدأت أعتاد على هدوئه، فتح فمه و تحدّث،
“ذلك الرجل الذي قلتِ أنه يشبهني…..هل يمكن أن يكون أبي؟”
“……؟”
“أليس كذلك؟”
أثار قوله المفاجئ محاولتي للنبش في ذاكرتي، لكنه سرعان ما ابتسم نافياً برأسه.
“لا، لا يمكن….ما قلته مجرد هراء.”
“لا، سيد أغريست.”
فقد أعادت كلماته إلى ذاكرتي أموراً كنت قد محوتها.
“في الحلم…..ناديتُ ذلك الرجل بالدوق.”
“ماذا؟”
“نعم، الآن تذكرت. ربما….ربما كان حقاً الدوق أغريست.”
ارتسمت على وجه ريكايل علامات ارتباك واضحة. وأنا أيضاً لم أكن أفضل حالاً.
“لا أعرف لماذا رأيتُ مثل هذا الحلم. هل هو ذكرى قديمة؟ أم ربما حلم استباقي؟”
“الآنسة سوبيل.”
جاء صوته هادئاً وساكناً.
“لقد تأخر الوقت…..من الأفضل أن تنامي الآن.”
“…….”
“حين يطلع النهار سنفكر في الأمر.”
كان الليل قد اشتد، وربما بسبب الحديث عن والده، غشت الكآبة وجه ريكايل.
وحين نهض ببطء من مكانه، سألتُ دون تفكير،
“أأنتَ ذاهبٌ حقاً الآن؟”
لكنني ندمتُ فوراً على ما قلته. فقد اعتادت عيناي على العتمة، وتلاشى الخوف الذي كان يطوّقني منذ زمن. ومع ذلك، تمسكت به كما لو كنت طفلةً تتدلل.
لحسن الحظ، سرعان ما عدت إلى رشدي وأسرعت بالكلام،
“المعذرة…..لا بد أنكَ مرهق، من الأفضل أن-”
“هل سبق أن حدثتكِ عن مربيتي؟”
قال ذلك ببرود وكأن شيئاً لم يكن، ثم استدار بهدوء عائداً إلى السرير.
“لا.”
جلس متكئاً على الكرسي وأكمل،
“قد يبدو غريباً، لكنني كنت أملك طفولةً أيضاً.”
كانت نبرة مزاحه خفيفةً لدرجة جعلتني أضحك رغماً عني.
“صعبٌ أن أتخيلكَ طفلاً حقاً.”
“بالطبع لم تكن طفولةً عادية.”
“أخبرني…..عن ريكايل الصغير في حضن مربيته.”
“المرأة التي ربّتني لم تكن مربيةً بالمعنى المعروف. كانت باردةً جداً، و نادراً ما تبتسم أو تتحدث كثيراً.”
“هذا بعيدٌ تماماً عن صورة المربية التي أعرفها.”
أبٌ قاسٍ لا يهتم، أمٌ شديدة، ومربية باردة…..لابد أن طفولة ريكايل كانت بالغة الوحدة.
‘ألم تكن السيدة مايل موجودةً آنذاك؟’
كِدت أسأله عنها، لكني ابتلعت السؤال في صدري. فما كان يحتاجه ريكايل الصغير هو دفء العائلة، لا شفقة الخدم.
“بأمرٍ من والدي كانت تعاملني دوماً بصرامة، لكن كان هناك استثناءٌ واحد.”
“استثناء؟”
نهض ريكايل من على الأريكة واقترب أكثر من السرير.
“حين كنت أرى كابوساً، كانت تحتضنني بحرارة.”
“آه.…”
قيل أن مربيته كانت من قرية بارين. وهناك، إذا رأى طفلٌ كابوساً، يحتضنه والداه ويقبلان جبهته، اعتقاداً أن الكابوس يُنتزع إليهما بدلاً عنه.
“إذاً، لم تكن تحتضنكَ إلا حين توقظكَ الكوابيس؟”
هز ريكايل رأسه بعينين حزينة.
“كنتُ كثيراً ما أدّعي رؤية كوابيس، رغم أنني لم أر شيئاً.”
“…….”
“كنتُ أشتاق لحضن أحدهم، ومع أنني أدركت أن الكذب خطأ، واصلت ذلك. فقد كان السبيل الوحيد لنيل دفء عاطفي من غير أن يكتشف أبي أو أمي.”
“سيد أغريست..…”
كم بدا ريكايل الصغير مثيراً للشفقة والحنين.
“لكن ذلك لم يدم طويلاً.”
“ماذا حدث؟”
“أخبرت المربية الدوقة أنني كثيراً ما أرى كوابيس، وقالت أن الأمر يستدعي علاجاً.”
“…….”
لم يكن من الصعب تخيّل كيف قابلت أمارنتا الأمر، وهي التي كانت تنفر حتى من صوت مضغه للطعام وأنفاسه نفسها.
“بعد ذلك صرت أرى كوابيس أكثر، لكنني لم أبح لها بها قط.”
“لابد أنكَ شعرت بوحدة قاتلة.”
كيف يمكنني أن أواسيه؟ صحيحٌ أنها أحداثٌ مضت، لكنها بلا شك تركت ندوباً غائرة في قلبه.
“سيد أغريست..…”
خشيت أن تجرح كلمات المواساة قلبه، فترددت…..حتى خطرت لي عبارةٌ مناسبة.
“أعلم أن الأمر مستحيل، لكن لو كنت أستطيع لقاء ريكايل الطفل، لعانقته بقوة.”
“لا بأس…..فاليوم لستُ أنا من يحتاج الى الحضن.”
ابتسم ريكايل ابتسامة باهتة، ثم تقدم نحوي.
“بل أنتِ…..آنسة سوبيل، التي تملؤها المخاوف.”
جثا بجانبي عند رأس السرير وضمني برفق.
“الآن ستكونين بخير…..فقد أخذتُ أنا كوابيسكِ.”
وقبل أن أستوعب كلماته، ابتعد قليلاً وأمسك كتفيّ بخفة. ثم انحنى وقبّل جبهتي قبلةً سريعة.
“……!”
و ابتعد ببطء كما اقترب، ثم نهض واقفاً. بينما ظللتُ أتابعه حتى خرج مودعاً، و حتى أُغلق الباب وغرق المكان في سكون تام.
وحتى تلك اللحظة…..لم أستطع أن أتنفس كما يجب.
“…….”
حدقتُ في الباب المغلق، وما إن اختفى صدى خطواته تماماً حتى أطلقت زفيراً طويلاً كان محبوساً في صدري.
“هاه..…”
لكن قلبي الذي كان ينبض بعنف لم يهدأ بعد.
رفعت يديّ لأغطي وجهي، فشعرت بحرارة مشتعلة في كفيّ. و لو كان أمامي مرآة، لرأيت وجهي محمراً حتى أطراف جبيني.
‘ما هذا؟ ما الذي حصل للتو؟’
تصلبتُ في مكاني كتمثال، ثم عجزت عن الاحتمال فدفعت الغطاء بعيداً. و غادرت السرير واتجهت نحو النافذة، لكن قلبي ظل مضطرباً بلا هوادة.
صرير–
بيد مرتجفة فتحت النافذة قليلاً. وحين تسللت نسمات الليل الباردة إلى الداخل، خفّ لهيب وجهي شيئاً فشيئاً.
“…….”
ومع ذلك، لم يختفَ الأثر الذي تركته قبلته على جبهتي. فمددت يدي ببطء وتلمست الموضع الدافئ.
كانت مجرد قبلة خفيفة. كل ما في الأمر أنني تدللت كطفلة خائفة وطلبتُ منه أن يبقى قليلاً.
ولم يستطع ريكايل أن يرفض، فأخذ يحدثني عن طفولته ليخفف الجو، ثم انساق ليقص حكايةً أقرب إلى الأساطير.
‘نعم…..لم يكن شيئاً مهماً، ولا معنى وراءه.’
ربتُّ بخفة على خدي.
“إنها مجرد عادةِ متوارثة من موطن مربيته.”
أخذت أدور بذراعيّ بعنف في محاولة لتبديد التوتر. ولو استطعت لخرجت أجري في الخارج لأستعيد أنفاسي.
“حسناً…..حان وقت النوم.”
مع أن قلبي ما زال مستيقظاً، أسرعت أعود إلى السرير.
نفخت في الشمعة المنطفئة، فعاد الظلام يملأ الغرفة. لكنني لم أعد خائفةً من أن تهاجمني الأحلام المزعجة كما من قبل.
“…….”
و لم يكن في رأسي سوى شيء واحد.
‘الآن ستكونين بخير…..فقد أخذت أنا كوابيسكِ.’
لم يتردد سوى صوت ريكايل المائل إلى النعاس.
“آه!”
فصرخت وأطبقت يدي على رأسي، ثم استدرت إلى الجهة الأخرى. و كان صوته الخافت يلاحقني بإلحاح أشد من أي كابوس.
__________________________
ليه احس ريكايل قال قصة مربيته عشان يضمها؟😭😭😭😭😭
بس بوسة الجبهة اكثر شي حنوووووووووووون
المهم قصة مربيته تحزن😔
Dana
التعليقات